23 ديسمبر، 2024 6:19 ص

الاحتجاجات والمطالب وظروف تشكيل الحكومة؟!

الاحتجاجات والمطالب وظروف تشكيل الحكومة؟!

هل ينجح اختبار الحكومة المقبلةطويت صفحة من الاحتجاجات الساخنة ، التي يبدو انها تأجلت الى اجل مُسمى ، بانتظار ما ستسفر عنه مرحلة تشكيل الحكومة المقبلة ، بعد ان طرح السيد رئيس الوزراء اسماء تشكيلة وزارية جديدة على البرلمان ، مستجيبا لمطلب التغيير وفك خناق الجماهير الغاضبة المضروب حول المنطقة الخضراء.
اعلان التشكيلة الوزارية بهذه الطريقة والسرعة ، اثارت تساؤلات على خلفية مساحة زمنية واسعة ، منحت فرصة كبيرة وتاريخية لاجراء التغييرات ، التي تنشدها الجماهير، خاصة بعد وقوف قوى اساسية ومهمة في البلاد داعمة للاصلاح ، وهو عنصر قوة تسهل عملية التغيير والتحول بلا شك.
وبدلا من وعي المهمة التاريخية ، التي لا يستقيم معها منهج المماطلة وكسب الوقت ، لأن حركة سيرهما تزيد حمى نار السخط والاستياء الشعبي ، وبالتالي فان رياح التغيير قد تكون عاصفة لاتعطي مجالا للخيارات .
والمشكلة ، أن الدعوى الحكومية في التأجيل كانت بحجج وذرائع المفاهمات والتفاهمات ، التي لم يحدد لها سقف زمني يؤطرها ومعلومة للناس ، فبدت حالتها قصدية ، وهي من الامور غير المحمودة في عواقبها ، لأنها تضعف خط المواصلة مع الاخرين من قوى المجتمع .
ومما ضاعف وتيرة الاحتجاج ، تأرجح الوعود الحكومية في الهواء من دون الانتباه الى ، تداعي حالة الضغوط النفسية وافرازات الواقع المرّ وغليان الموجة ضد الفساد والمفسدين.
من التساؤلات المطروحة عن سرعة اعلان التشكيلة الحكومية وبهذه الطريقة الدراماتيكية و بسرعة الغزال ، أن سيناريوهات المشهد وتدافع احداثه ، تشير كما لو أن الغاية كانت لدفع الاعتصامات من جهة ، وايصال رسالة مفادها ان تشكيل الحكومة يجري في المطبخ السياسي للكتل والقوى والاحزاب ، وذلك ما يؤخر الامور، لأن المناقشات تجري على قاعدة (الدجاجة من البيضة ، ام البيضة من الدجاجة) ، وهو جدل بيزنطي لا جدوى منه سوى الدوران في حلقة مفرغة ، تدفع القضية بمرور الوقت الى الفتور، وربما الى صرف النظر عن التدقيق والتمحيص ، ولأن هذه القوى هي من يتّحمل أوزار الاوضاع ، بوصفها هي من رشّح وزكّى واسندت المناصب ، ولم تحاول بعد ذلك محاسبة المقصر والفاشل والفاسد ، واكثر من هذا منعت الحساب وأجلته ليوم الحساب .
في سياق تاريخي متصل ، فإن طرح الامور للمناقشة من دون محددات او أطر ، تشبه الى حد ما لعبة جر الحبل ، فعديدة هي المبادرات التي طرحت في هذا المسعى خلال مسيرة الحكومات السابقة ، مّن منا لا يتذكر حكاية المئة يوم لتحديد فعالية ونشاط الوزراء ، ذلك الذي طواه النسيان خلال مدته المحددة ، إذ لم يعد سوى فقاعة دعاية سياسية لا غير، اذ ان المئة يوم لانعلم من اية سنة.
ومن التساؤلات الاخرى ، الاعتراضات البرلمانية على بعض الاسماء، وسيل الاتهامات الموجهة الى بعض اسمائها، بصدد تبيان مدى الكفاءة والنزاهة ، ومحور التساؤل ، لماذا لم تقيم الكابينات الوزارية بمختلف كابيناتها ؟ ولماذا غابت المقاييس التي حضرت الان؟! البرلمان هو الذي يحاسب الحكومة ووزراءها ويستقدمهم للمساءلة ، وكثيرة هي الملفات التي
اعلنتها هيأة النزاهة بقضية الفساد الذي طال معظم الوزارات ، فهل استقدم البرلمان احدهم للمساءلة؟ ولأن البرلمان الاتحادي جزء من المشكلة ، فالتساؤل يدور من منطلق التغيير والاصلاح، هل إن برلماننا الاتحادي على درجة واحدة من الكفاءة والقدرة للعمل البرلماني، أم أن هناك معايير لا تخرج من دائرة الخصوصيات في الترشيح والتبديل. واذا كانت الامور تسير بهذا المنوال ، فما هو شكل المعايير المطلوبة المنسجمة ، التي تقلل من حجم تناقضاتنا ، وتسهم في حل مشكلاتنا وتبعد عنا اخطار المفسدين وعبثهم بمستقبل البلاد وترسم طريق النجاة؟
في تساؤل على مستوى آخر، هل مكمن الخلل هو في اداء السلطات الثلاثة ، التي لا تتناغم مع ايقاع واحد في فصل البلاد الديمقراطي، حيث كل يلعب في ساحته وفقاً لأنواع التجاذبات واثقالها السياسية ومصالحها العديدة المتشابكة.
ان التساؤل الذي هو ربما الاكثر اهمية ، هل مكمن الخلل في نظامنا السياسي؟ اتاح سقوط الدكتاتورية فرصة تاريخية نادرة ، لأعادة تقويم البلاد بعد أن مزقتها السياسات الحكومية المتعاقبة ، التي يبدو انها اختلفت في التفاصيل وتلاقت جوهريا عند هذه العقيدة الشوفينية التمييزية المقيتة ، التي حاولت قهر التلاوين المتنوعة وطمس مكونات البلاد من خلال الغاء الخصوصيات التاريخية القوموية والدينية والتعامل معها ضمن منطق القوة والعسف ، وهي التي فتكت بثروات البلاد وطاقاتها البشرية ، فضلا عن سجل مخز سيظل عاراً يلاحقها.
من اهم ما أتاحه التغيير، هو اعادة قاعدة التوازن للبلاد مع احترام الخصوصيات وحقائق منطق التاريخ والواقع ، وامكانية امتلاك تصورات تسبح حولنا في حقائق العالم المعاصر بعد حصار الانظمة المختلفة ،
التي ارادت النظر لمختلف الامور من منظارها البالي الذي أخّر البلاد وأورثه الكوارث ، فطبيعة البلاد وحقائها لم تأتِ من فراغ ، بل هي طبيعة وجودها وموجوداتها . فقدان التوازن كلف البلاد تضحيات جسيمة على مر التاريخ ، ما أدى الى فقدان فرص تاريخية حقيقية في البناء والتنمية والتطور وبناء الثقة بين مكوناته.
من حصيلة التجربة الجديدة ، استصدار دستور يشكل علامة فارقة مضيئة في تاريخ العراق ، لأنه رسم على ايقاع حقوق ابنائه وحرياتهم وصورة التعامل القائم على التوافق والمفاهمات في مختلف الامور، لتكون كل المكونات في صورة التجربة الجديدة ، وكان الامل معقوداً بصبح جديد.
مع ظهور الحكومات المتعاقبة واستفحال النزعة السلطوية ، التي ارادت قلب الامور وعودة البلاد الى سابق عهدها بالهيمنة على المقدرات والمصائر من جهة واحدة ، أي كانت هذه الجهة ، قلب مسار الموازين لتدخلنا في المحنة ، فالتحول السلطوي كبّل الهيئات المستقلة في التصدي لمهمات الفشل والفساد ، الذي اخذ منحنى عابرا لكل المحددات والمقيدات القانونية والدستورية ، إذ وجد نفسه طليقا وليس هناك من قوة تكبح جماحه ، وعلى قاعدة من يحكم يملك ، جرت السيطرة على المقدرات المالية المخصصة للتنمية والمشاريع ، التي لم تنفذ وذهبت الاموال هدرا . ان سيلا عارما من المحسوبيات ضربت الدولة المهشمة ، لتجعل الدولة تنوء باثقال الترهل الاداري غير المسوغ ، فضلا عن ان من زج بهم لم يكونوا من ذوي الخبرة والامكانية ، ما سهل التخبط والفوضى الادارية وتوسيع دائرة الفساد.
انفرط العقد الاجتماعي الذي جاء بتضحيات جسيمة قدمها العراقيون على مدى ازمان الدولة العراقية ، وظهرت بوادر الانقلاب على الاخرين من
شركاء الكفاح والنضال والحقوق ، فكان التنصل من حقوق الشعب الكوردي الدستورية ، أذ بدلا من تنفيذها جرت محاولات التحايل عليها خاصة المادة 140 ، ثم الغيت كل التوازنات في مفاصل الدولة لصالح جهة السلطة على حساب الشركاء الاخرين ، وأتسعت هوة المفاهمات مع الاخرين ، بقصد او من دونه وتعددت التحديات فيما ضاقت سبل التنسيق المشترك ، بعد فقدان عوامل الثقة والاعتماد ، ووجدت البلاد بين طرفة عين وانتباهتها قد خسرت ثلث مساحتها ، التي اجتاحها الارهاب الداعشي الاسود ، وبدلا من العودة الى مسلمات الوعي والانتباه الى ضرورات الواقع ، كان المضي قدما بالمشروع السلطوي الفردي هو عنوان المسرح السياسي.
ومن المؤسف ، انه في ذروة المجابهة مع الارهاب سطرت قوات البيشمركة صفحات مشرقة من الانتصارات ، بددت فيها اساطير الارهاب الداعشية وبخرتها ، ومن نقطة انتصارات البيشمركة ، انطلقت الهزائم الداعشية في اماكن متعددة . ولم تف الحكومة بالتزاماتها اتجاه البيشمركة ، واستكملت حصارها حول الكورد بقطع ارزاق الموظفين في الاقليم ، لتكّمل بقية مشوارها بقطع الميزانية . وهي جملة امور أساءت الى الشعب الكوردي ، ومثلت تنكرا للتضحيات الجسيمة ، التي قدمها الكورد فالكورد هم من حمى ودعم مناضلي الامس وحاكمي اليوم .
هذه هي التجربة الجديدة ومعطياتها ، التي اضاعت فرصة بناء حقيقية اخرى ،واصبحت البلاد ازاء حقائق جديدة افرزتها مرارة التجربة ، حيث النزوح نحو اقرار الادارة الذاتية استثمارا لفرص مقبلة ، وبدت تجليات ذلك واضحة من خلال ميل عدد من المحافظات الى ذلك ، فمحافظة البصرة تشهد حراكا جماهيريا مثقفا طوال المدة الماضية وماتزال ، مناشدة طلب
اقامة اقليم فيدرالي بعد معاناتها المستديمة في البناء والنهضة والحلم بماء صالح للشرب ، فيما تعاني محافظات اخرى كثيرا من الالام والفقر والجوع ناهيك عن اشكال التخلف ونقص الخدمات .
ان عالم اليوم قد تغير، فلم تعد الامور يمكن طيها باشكال السياسات اياً كان نوعها كما في السابق ، فالعالم الفسيح مكشوف على مصراعيه في حركته ونشاطه وسرائه وضرائه ومكشوفه ومستوره . ويعيش عالم اليوم على قواعد فكرية وسياسية جديدة ، تقوم على حماية الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية على نطاق العالم ، وكلما ترسخ احترام التعددية على قناعات ذاتية وارادة صميمية وتفهم واع ، أزداد العالم سعة وانفتح على آفاق بدون حدود ، انها الحرية التي توسع العالم من حولنا .
في مثال تاريخي حي ، دولة لكسمبرغ هذه الدولة الصغيرة التي تقل مساحتها عن مدينة قوش تبه في اربيل ، صارت عضوا بارزا في الاتحاد الاوربي وقد تناوبت على رئاسة الاتحاد غير ذي مرّة ، ما يدلل على الحرية اذا ماتوفرت في قرية صغيرة ، تحولها عالماً واسعاً مترامي الاطراف ، لأن من شروط الحرية الابداع والابتكار. وكذلك هو الحال مع الفرد والشرائح الاجتماعية ، كلما توفرت امامهم مجالات العمل والكفاءة والمنافسة ، تفتحت قدراتهم على امكانات اعظم . واذ نرّكز على مثل هذه المفاهيم برغم انها اصبحت من البديهيات في اجزاء واسعة من العالم ، انما نرّكز على الجانب الاخلاقي في العمل والعلاقات السياسية ، وحاجتنا ماسة الى استيعابها وتمثلها وعدم الاكتفاء بترديدها في المناسبات. ان عمق التخلف في محيط المجتمع ناتجا عن التخلف عن ادراك التطور الهائل في الفكر السياسي ، ويعود في اساسه الى تكريس سياسات العودة الى الوراء
والحصار الفكري من مختلف الانظمة السابقة ،وابتعاد حكومات مابعد التغيير عن البناء والتنمية .
وبالعودة الى قضية التشكيل الحكومي الجديد ، هل يكفي الاستبدال الحكومي لحل المشكلات المعقدة المستعصية ؟ وهل العلة في ان متولي الوزارات لم يكونوا مستقلين؟
في الحقيقة ، ليس هناك من شك في ان الجهات والقوى السياسية والاحزاب تتحمل مسؤولية مرشحيها ، فالفشل في الاداء وبطريقة الفساد هزيمة منكرة للشعارات والاهداف، التي تنادي بها هذه الجهة او تلك ، لأن ما تقدمه للناس هو محك هويتها ، وبالتالي فان معاناة البلاد ستظل على عاتقهم ، وهي ما تفرض مراجعة جدية للامور واصلاح الهياكل والنفوس قبل فوات الامور. من المؤسف ان تدعَ اية جهة سياسية فاسدا يمثلها في الحكومة ، فهي اول من يجب ان تطالب باقالته واستبداله. ان المهمة التاريخية لأي حزب ، هي خلق ملاكات مؤهلة مؤمنة ببرنامجها السياسي ، كي تحتل ما يتناسب مع امكاناتها عندما يتبوأ الحزب مراكز حكومية حال فوزه بالانتخابات ، ومثل هذا الاداء الحزبي غائب عن مسرحنا السياسي .
ربما هي الفرصة الاخيرة لإحلال السكينة في النفوس ، واعادة المسار الى سكته الحقيقية بعد ازالة غبار الاخطاء والكوارث السابقة بآثامها واخطائها وجراحاتها ، كي نتجاوز التكرار الممل في تاريخنا ، فتقادم الازمان اثبت ان تاريخ البلاد عبارة عن تكرار مؤسف ، لا يركن الى الوعي بمستلزمات الحقائق التي كشفتها التداعيات المختلفة ، فلعبة السلطة ما تزال هي اللعبة المفضلة للساعين الى لبن البقرة الحلوب ،وهي ما تعني بقواميس الاشياء وناموسها ، أعادة الهيمنة للثروات والمقدرات واقصاء الآخرين. وهي لابد
من ان تكون مستبعدة عن الاذهان لانها مخالفة لروح العصر مثلما هي تدمير للبلاد والعباد.
إن قضية النزاهة قضية أخلاقية ومبدئية ، وهي سجل تاريخي يحرص الشرفاء على بقائه نظيفا برغم عواهن الدهر ونوائبه ولها علاقة بالبيئة والوجود الاجتماعي وغيرها ، وهي ايضا ما يجب ان تتحسبه القوى السياسية والاحزاب اذا ما ارادت بناء وتنمية وخدمة الجماهير وساحات خالية من المظاهرات .
ان اعادة النظر في الامور واعادتها على السكة ، وفق معطيات جديدة من مشاركة الجميع باناس ذوي كفاءة ونزاهة ويتحلون بالمسؤولية التاريخية واحترام الدستور والعمل به واتمام عملية الاصلاح على مراحل ، بعد اعادة الاموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين المفسدين قبل ان نكون بمواجهة مد جديد بحسابات اخرى معلومة ومجهولة.