22 نوفمبر، 2024 12:06 م
Search
Close this search box.

الاجتماع الشيعي: خصائصه وإشكالياته

الاجتماع الشيعي: خصائصه وإشكالياته

وظيفة «علم الاجتماع الديني الشيعي»
علم الاجتماع الديني هو أحد فروع علم الاجتماع، وعلم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية، سواء الظواهر الخاصة بمجموعة بشرية معينة أو الظواهر العامة للمجتمعات الأوسع، سواء كانت هذه المجتمعات حضرية أو بدوية أو ريفية. وهناك فروع عديدة لعلم الاجتماع، كالسياسي والديني والثقافي والمعرفي. أما علم الاجتماع الديني تحديداً؛ فهو يدرس الظواهر الاجتماعية والنظم الاجتماعية التي تفرزها الأديان والعقائد والمذاهب الدينية، كما يدرس مساراتها التاريخية، أي أنّ علم الاجتماع الديني لايدرس الأديان نفسها ولا المذاهب نفسها، كما أنه لا يخلق ظاهرة ولايبتكر ظاهرة؛ فالظاهرة موجودة، وإنّما يجد الظاهرة ويكتشفها، ثم يصفها ويحلّلها ويفسّرها، كما يكتشف علاقاتها وسياقات حركتها، وفق ما تفرضه العقائد والأنساق الفقهية والتراكم الاجتماعي التاريخي.
وبالتالي؛ فإنّنا في إطار «علم الاجتماع الديني الشيعي» نتحدث عن مجتمع التشيع أو مجتمع المذهب الشيعي، وليس المذهب الشيعي وعقائده وفقهه، أي أن وظيفة «علم الاجتماع الديني الشيعي» تتلخص في الكشف عن «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» ومكوناته وأنساقاته ومساراته وتراكماته التاريخية، وتوصيفه وتوصيف المؤسسة الدينية الشيعية والمرجعية الدينية التي تمثل قيادة النظام الاجتماعي الشيعي، وتوصيف أنساقها وتفسير حراكها.
هذا التوصيف ينبغي أن يتمّ من خلال باحث من داخل هذه المؤسسة، ومن داخل «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، وليس باحث من خارجه. لقد اطلعت على عشرات المؤلفات والبحوث التي تصف وتدرس الظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية والمرجعية الدينية، وتحلل حراكها، سواء ما كتبه المستشرقون أو ما كتبه الباحثون العرب السنة، وحتى الباحثون الشيعة من خارج المؤسسة الدينية، ومن خارج المعرفة الدقيقة بأنساق عمل المرجعية والاجتماع الديني الشيعي، فضلاً عن أن هذه الدراسات استخدمت قواعد علم الاجتماع الديني التقليدي، وليس علماً خاصاً بالظواهر الشيعية الخاصة؛ فظهرت فيها كثير من الأخطاء في التوصيف والتحليل والمصطلحات والأدبيات، ويدل كثير منها على جهل بطبيعة المرجعية الشيعية وطبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وبالتالي؛ هذا اللغط وهذا الجهل، يساهم في خلق الأزمة الطائفية والفتنة الطائفية، لأن ((الإنسان عدو ما يجهل))، فكلّما وصف الإنسان شيئاً يجهله، ثم بنى نتائجه على هذا الجهل؛ فإنه سيقع في أخطاء فاحشة، خاصة إذا كان ينطلق من مواقف مسبقة وأحكام جاهزة يستبطنها.
وتتضاعف خطورة هذا الجهل في بلد كالعراق؛ فهو بلد فيه مكوّنات كثيرة، وبينها صراعات طائفية وقومية تراكمية، وينبغي أن نحذر جداً عند توصيف بعضنا الآخر، كما ينبغي أن نعرف بعضنا الآخر بعمق، وليس معرفة تحمل أحكاماً مسبقة، أو معرفة سطحية عاطفية. هذه القضية تتعلق بانتماء الجميع للوطن، وبالحرص على عدم إثارة الفتن الطائفية والفتن الاجتماعية. مثلاً؛ إذا أردت أن أفهم ما يجري في داخل الفرق الصوفية؛ فيجب أن استمع إلى باحث من داخل الفرق الصوفية، وليس إلى مستشرق يصف ويفسّر هذه الحركات الصوفية على مزاجه ووعيه، ووفق فهمه للأذكار وطبيعة العلاقة بين المريد والمراد. وهكذا فيما يتعلق بفهم المرجعية الدينية وفهم الطقوس والشعائر الشيعية وفهم طبيعة عمل المزارات وطبيعة عمل جماعات المقاومة والأحزاب الشيعية، كل هذه يجب أن استمع إليها من باحث متخصص من داخل هذه المؤسسة، لكي يكون التوصيف دقيقاً.
وأن يكون الباحث ابن المؤسسة الدينية وابن النجف الأشرف؛ فعله يستطيع كشف وتوصيف وتفسير الأنساق والعلاقات وعمل المؤسسات المتعلقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وصفاً حسّياً دقيقاً وتحليلاً دقيقاً، يختلف عن وصف المراقب من الخارج وتحليله. وهذا أمر مهم جداً. ويمكن تشبيهه بكتاب “ماكس فيبر”؛ فالذي قرأ كتابه في «الأخلاق البروتستانتية»، سيجده دقيقاً جداً في وصفه وتحليله؛ إذ أعطي صورة واضحة عن الطائفة البروتستانتية، لأنّه ابن الطائف البروتستانتية وابن مؤسستها وابن الأخلاق البروتستانتية. وهكذا باقي الباحثين مثل «كارل ماكس» عندما اصدر دراساته عن المسألة اليهودية والايديولوجية العلمانية أيضاً، كان دقيقاً، وهكذا “دوركايم” والآخرين؛ فهم عندما يتحدّثون عن مجتمعاتهم فإنّهم يبدعون في توصيفها وتحليلها.
وعندما نُخضع «الاجتماع الديني الشيعي» أو «النظام الاجتماع الديني الشيعي» لقواعد علم الاجتماع الديني التقليدي، كما بلورها “آغوس كنت” و”إميل دوركايم” و”ماكس فيبر” وغيرهم؛ نجد أنها عاجزة عن إعطاء تفسير واضح ووصف دقيق لهما، بالنظر لخصوصية «النظام الاجتماع الديني الشيعي» أو «الاجتماع الديني الشيعي»، وبالتالي؛ كما لجأ علماء الاجتماع إلى التأسيس لفروع ثانوية وحقول جديدة متفرعة عن علم الاجتماع، كعلم الاجتماع الحضري أو الريفي وعلم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع الاقتصاد وعلم اجتماع المعرفة، من أجل دراسة الظواهر الفرعية التي يعجز علم الاجتماع العام عن دراستها؛ فكان لابدّ أن نلجأ إلى فرع جديد في علم الاجتماع الديني، نستطيع من خلاله أن نصف و نحلّل ونفسّر الظاهرة الشيعية المتفرّدة.
وتفرّد الظواهر الاجتماعية الدينية الشيعية يكمن في كونها ظواهر مركبة وليست بسيطة، وإن النظام الاجتماعي الديني الذي يجمعها هو نظام مركب، يمتزج فيها الديني بالسياسي بالاقتصادي بالمالي، وبكل مجالات حركة الحياة، وهو ما يميزها عن باقي المؤسسات الاجتماعية الدينية وعن باقي الظواهر الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية، سواء السنية أو الكاثوليكية أو البروتستانتية أو البوذية. وبما أن علم الاجتماع الشيعي يدرس نظاماً اجتماعياً متماسكاً وذا إنساق محددة؛ فإنه يختص بدراسة المجتمع الشيعي الإثني عشري تحديداً، وليس كل المذاهب الشيعية، كالزيدية والاسماعيلية وأغلب العلوية، وإن كان العلويون جزء من الشيعة الإثني عشرية، إلّا أن لبعضهم نظاماً اجتماعياً دينياً مستقلاً، وخاصة أتباع الطرق الصوفية منهم. ولابد من الإذعان بأن هناك مشترك عقدي واضح وتاريخ مشترك للاسماعيلية والزيدية مع الإثني عشرية، ولكن على مستوى النظام الاجتماعي الديني؛ فإن هناك استقلالية لكل من الاثني عشرية والاسماعيلية والزيدية، كما هو الحال ــ مثلاً ــ مع المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمدرسة الوهابية والمدرسة الصوفية؛ فلكل منها نظام اجتماع ديني مختلف ومستقل، رغم كونها تنتمي جميعاً الى التسنن.
وما يميز الظاهرة الاجتماعية الدينية الشيعية، إضافة الى كونها مركبة وتشتمل على مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والعبادية؛ هو أنّها ظاهرة مستقلة عن الدولة، أي أنها إزاء هاتين الميزتين، تستوعب كل ما له علاقة بتكاليف المرجع الديني وصلاحياته وولاياته الفتوائية والقضائية والمالية والحسبية والسياسية، في حين أن المؤسسة الدينية السنية ـــ مثلاً ـــ هي إحدى مؤسسات الدولة، وعملها يتقتصر على الجانب الديني المحض؛ فالدولة منذ العصر الأموي، أقصت المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية في داخل مدرسة الخلافة، وبات المرجع الديني السني أو المفتى أو شيخ الاسلام خلال العصور الأموية والعباسية والعثمانية، موظّفاً عند الخليفة أو السلطان. في حين أن الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي ليس الخليفة ولا السلطان ولا الملك ولا رئيس الجمهورية؛ إنّما المرجع الديني الشيعي، المستقل عن سلطة الدولة وإلزاماتها وشروطها، وهو الذي يمتلك صلاحيات قيادة المذهب الشيعي وأتباعه والاجتماع الديني الشيعي، من خلال تمتعه بالولاية على الفتوى والولاية على المال الشرعي وعلى القضاء والحسبة والحكم، وهذا اللون من القيادة والنظام الاجتماعيين الدينيين، غير موجود في أي ظاهرة اجتماعية دينية على مستوي المذاهب والأديان في كل العالم.
الاجتماع الشيعي بين عصري الإمام علي والإمام الصادق
في يوم «السقيفة» تأسّس نظام سياسي يقف على رأسه الخليفة الأول، ولايزال قائماً حتى الآن بشكل وآخر، وفي الوقت نفسه تأسس نظام اجتماعي شيعي مستقل يقوده الإمام على بن أبي طالب؛ فصار عندنا نظام سياسي يقوده الخليفة ونظام اجتماعي ديني موازٍ يقوده الإمام على. والنظام الاجتماعي الديني الذي أسسه الإمام علي بن أبي طالب وقاده بعد مفصل «السقيفة»؛ هو الذي سُمّي بالشيعة.. شيعة علي، أي مجتمع الشيعة أو المجتمع الموالي لعلي بن ابي طالب. أما الاجتماع السياسي الرسمي أو الاجتماع السياسي للدولة؛ فقد بقي الخليفة أو رئيس الدولة يقوده. واستمرت هذه الثنائية حتى خلال سنوات خلافة على بن ابي طالب.
وخلال هذه السنوات التحق أغلب الصحابة والتابعين بالإمام علي، بوصفه الخليفة الرابع وليس بوصفه الوصي المٌنَصّب من الرسول وفق ما يرى الشيعة؛ فهناك قادة عسكريون ورجال دولة وإدارة، من الصحابة والتابعين، كانوا جزءاً من جهاز الدولة في عصر أبي بكر وعمر وعثمان؛ التحقوا بالامام علي، بصفتهم جزء من جهاز الدولة أو بصفتهم مسلمين يرون الشرعية في الخليفة حصراً، أيا كان، بغظ النظر عن الخلافات العقدية والاصطفافات السياسية بين المسلمين، ولم يكن التحاقهم بالامام علي بصفته اماماً مفروض الطاعة، اماماً موصي به من الرسول، وكان الإمام علي بالنسبة لهم الخليفة الرابع فقط. وقد استشهد كثير منهم في البصرة وصفين والنهروان. هؤلاء كانوا ضمن الاجتماع السياسي للدولة وليسوا ضمن الاجتماع الديني الشيعي، أي أنهم كانوا على سنة الخلفاء وليسوا من شيعة علي، وعلاقتهم بالإمام علي لم تكن عقدية، بل سياسية، أي علاقة المواطن والموظف برئيسه في العمل أو برئيس الدولة.
أما الاجتماع الديني الشيعي؛ فقد استمر بقوة، وتوسّع أفقياً وعمودياً، في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، وخاصةً في عهد عثمان، وأصبح له حضور في بلدان المسلمين وفي الأحداث، من مصر وحتى ايران، وعندما جاء الإمام علي كان لديه جيش من العقائديين المعتقدين بإمامته ووصايته. ولذلك؛ كان هناك فرق بين العقائديين التابعين أساساً للإمام علي، وبين جهاز الدولة الذي انتقل للإمام على بعد مقتل الخليفة عثمان. وقد أصبح العقائديون جيشاً كبيراً صمد مع الإمام علي ثم مع ابنه الحسن. وبعد أن تقارب النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الشيعي في عهد خلافة الإمام علي؛ عاد الانفصال الى سابق عهده بعد سقوط دولة الإمام الحسن واختطاف الامويين للدولة؛ فكان انفصالاً حازماً وحاداً بين النظامين، ولايزال مستمراً حتى الآن.
ويمثل حراك الإمام الحسن وحراك الإمام الحسين، ثم الإمام زين العابدين والإمام الباقر، وصولاً الى نهاية المرحلة الأولى من حياة الإمام الصادق؛ امتداداً لعصر الإمام علي وحراك العصر الأول؛ فهذا المسار كله مرحلة تاريخية واحدة، مع الأخذ بالاعتبار ان حراك الإمام الحسين يتميز بأنه نهضة شاملة، لكنه جزء من حراك الإمام علي، وامتداد لاينفصل عنه، في حين الانتقال للمرحلة الثانية، أي حراك الإمام جعفر الصادق هو انتقال الى حراك مستقل، حراك منفصل بانعطافته الكبيرة. وقد اعتبرته المرحلة الثانية من مراحل تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وما أفرزته نهضة الإمام الحسين من حراكات سياسية وجهادية واجتماعية في كل العالم، لها مدخلية مباشرة جداً في مظهرية أو في نشوء مظاهر جديدة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ولكن أعود وأقول بأن نهضة الامام الحسين هي حلقة متصلة بحراك الإمام على بن ابي طالب، وليس مفصلاً تاريخياً، فقد بدأت حلقات هذه السلسلة في يوم السقيفة، ثم حكم الخلفاء الثلاثة المتصل به، وصعود بني أمية خلاله، ثم ما مر على الإمام علي في فترة حكمه، وخاصة خروج معاوية عليه، والذي أدى الى سقوط دولة الامام الحسن من جهة واستخلاف يزيد لأبيه معاوية من جهة أخرى، وهو ما ادى الى رفض الإمام الحسين لبيعته، وتصاعد نهضته، وصولاً الى استشهاده. هذه النكبة كانت عنواناً لسيرة الإمامين السجاد والباقر، وحتى نهاية المرجلة الاولى من حياة الإمام الصادق. أي أنها سلسلة مترابطة. في حين أن الانتقال الى المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإمام جعفر الصادق، يمثل انتقالاً تاريخياً مفصلياً لمرحلة مستقلة.
وهذه في الواقع معايير لها علاقة بالمنهجية التاريخية؛ فكل عصر أو مرحلة تبدأ بظهور قائد يقوم بعمل مفصلي كبير ويوصله الى الذروة، ثم تبدأ المرحلة بالأفول، حتى تنتهي، ثم يظهر رمز جديد يؤسس لعصر جديد، وهكذا. وربما يستمر كل عصر مائة عام أو خمسين عام أو ثلاثمائة عام أو اربعمائة عام، فالنهاية لها علاقة بظهور رمزية جديدة. ولذلك؛ قلت أنّ العصر الأول أسّسه الامام على بن أبي طالب، وأن حياة الائمة الأربعة من بعده، كانت مرتبطة بالعصر نفسه، حتى جاء الإمام الصادق وأسّس لعصر جديد. هذا العصر الجديد استمرّ حتى بداية الغيبة الصغرى وظهور الشيخ عثمان العمر الذي أسّس لعصر شيعي جديد، هو العصر الثالث، ثم أسس الشيخ الطوسي العصر الرابع، وأعقبه السيد اسماعيل الصفوي بتأسيس العصر الخامس، وأخيراً العصر السادس الذي نعيشه الذي أسسه الإمام الخميني.
وبالنسبة لعصر الإمام جعفر الصادق وما أضافه الى الاجتماع الشيعي؛ أقول ابتداءً بأنّ الامام جعفر الصادق لم يؤسس مدرسة عقدية فقهية جديدة؛ فهذه المدرسة كانت موجودة قبله، وقد تدرج تأسيسها منذ عهد رسول الله والإمام علي، وكان التدرح يسير وفق الوقائع وتراكم الحاجات، لكنها برزت وظهرت في عهد الامام جعفر الصادق وتبلورت، على اعتبار طول عمر الامام جعفر الصادق نسبياً، حوالي سبعين سنة، إضافة إلى حصول مرحلة انتقالية من العصر العباسي إلى العصر الاموي، خاصة بعد سقوط الدولة الاموية في الكوفة. هذه المرحلة أعطت الإمام الصادق فرصة كبيرة جداً لإظهار المدرسة الشيعية التي كانت مُقصية ومحاربة في عهد السلطة الأموية، وكذلك فرصة التأسيس لواقع شيعي جديد، دون خوف من تشريد الشيعة وقتلهم واعتقالهم، واقع جديد يسمح بالحركة العلمية والاجتماعية والتنقل بحرية، ويسمح بالتواصل مع الشيعة بعلانية وسهولة، و بتقوية شبكة الوكلاء، وتنقل تلاميذه ومعتمديه في كل البلاد الإسلامية وقيامهم بالتبليغ والتعليم. كما قام الشيعة بإنشاء مجتمعات شيعية منظمة ومتماسكة. ولذلك؛ إن الذي حصل في عهد الامام الصادق لم يكن اظهاراً للمدرسة العقدية والفقهية الشيعية الاثني عشرية، وانّما حصل تكريس لبلورة الهوية الشيعية، وتعميق للنظام الاجتماعي الشيعي وتماسكه وامتداداته من افغانستان وباكستان والهند وحتى الجزائر.
وهناك فارق جوهري كبير بين ارتباط الشيعة بأئمتهم، والسنة بفقائهم وخلفائهم؛ فالإمام المعصوم في المعتقد الشيعي هو القائد الديني والدنيوي للمسلمين، أي إمام الدين والحكم، حتى لو لم يكن يمسك بزمام سلطة الدولة، لكن الفقيه السني لا يطرح نفسه قائداً زمنياً، إنّما يطرح نفسه فقيهاً يُصدر الفتاوى. وقد قام الخلفاء العباسين بتدجين هؤلاء الفقهاء، وحصروا المذاهب كلها بأربعة مذاهب سنية فقط. وهذا شيء غريب جداً، أن يقوم الخليفة العباسي، وهو رجل دولة وإدارة وسياسة، أن يتدخل في شأن فقهي ديني صرف، ويحصر فقهاء المسلمين بأربعة فقهاء سنة، انتقاهم على أسس طائفية ومزاجية، من بين عشرات الفقهاء. وهذا دليل على تدخّل السلاطين في جزئيات المذاهب، وفرض بعض المذاهب السنية على المسلمين دون غيرها، بما في ذلك إمام المذهب الظاهري، الذي كان يوصف بأنه الأعلم بين فقهاء السنة. وهذا لا يمكن أن يحصل في المذهب الشيعي، ولايستطيع أي سلطان فعله، على اعتبار أنّ الإمام، وحتى وكيله الفقيه والمرجع؛ يعتبر قائداً دينياً وزمنياً للمجتمع الشيعي، ولذلك؛ لا يمكن أن نقارن بين موقع الإمام ونفوذه وصلاحياته، وبين موقع باقي فقهاء المذاهب السنية.
معنى تأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»
بحثنا في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» موضوع تأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة ومؤسسيه الثمانية، ونقصد بالتأسيس هنا؛ الجانبين الزماني والموضوعي، وليس تأسيس العقيدة الشيعية أو تأسيس المذهب الشيعي أو الحراكات الاجتماعية والسياسية الشيعية، ولانقصد أيضاً تأسيس الاجتماع الديني الشيعي بصفة عامة، إنما نقصد به تأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر غيبة الإمام المهدي تحديداً، وقد ذكرتُ في الكتاب أنّ هناك تأسيسين للاجتماع الديني الشيعي، التأسيس الأصلي، وهو التأسيس التلقائي الأول في المدينة المنورة، وقد جرى على يد الإمام على بن أبي طالب، بعد رزية السقيفة مباشرة. أما التأسيس في عصر الغيبة؛ فهو التأسيس الثاني أو التأسيس الفرعي الذي جرى في بغداد، على يد النائب الاول للإمام المهدي الشيخ عثمان بن سعيد العمري الأسدي.
وتأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة؛ له أصل تشريعي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإمام محمد بن الحسن المهدي وغيبته؛ فبعد وفاة الإمام الحسن العسكري، لم يتصد ولده وخليفته الإمام محمد المهدي لشؤون الإمامة وقيادة الشيعة علانية، بسبب ظروف القمع ومحاولات قتله؛ فأناب عنه أحد مقربيه وثقاة أبيه بمهمة قيادة الشيعة، وهو الشيخ عثمان بن سعيد العمري الأسدي، الذي سميّ بالنائب الأول أو السفير الأول. وفي النتيجة؛ فإن الذي أسس الاجتماع الديني الشيعي و«النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة تأسيساً تأصيلياً نظرياً، هو الإمام المهدي الغائب، بمعنى أنّه، من خلال تكليف الشيخ عثمان العمري بإقامة هذا النظام، وبأن يكون وكيلاً وسفيراً ونائباً من بعده؛ فانّه أسس تأسيساً نظرياً شرعياً، وبما أنني أتحدّث في إطار علم الاجتماع الديني الذي يدرس الظواهر العملية القائمة على الأرض؛ فلابدّ أن أقول بأنّ الشيخ عثمان هو الذي أسّس على الأرض هذا النظام، ولم يؤسس نظرياً.
وبذلك؛ فإن الشيخ عثمان لم يؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، بناءً على رغبته ومزاجه أو بناءً على رؤيته واستحسانه، وإنما بناء على تكليف مباشر من الإمام المهدي، أي بناءً على أصل تشريعي. ثم كان لِحُسن إدارة الشيخ عثمان وعبقريته؛ الفضل في المحافظة على الشيعة وكيانهم العقدي والفقهي ونظامهم الاجتماعي، لأنّ وفاة الامام العسكري تسببت في حصول بعض الفتن والتصدعات والشكوك في المجتمعات الشيعية، لكن التكليف الذي منحه الإمام المهدي الى الشيخ عثمان العمري الاسدي، وحسن إدارة الشيخ وتدبيره وقوته وأمانته؛ جعلته يمسك بالمجتمعات الشيعية بقوة في كل البلدان الإسلامية، من شرق آسيا والقوقاز وحتى بلاد الشام والحجاز وشمال أفريقيا، ويحوّلها إلى نظام اجتماعي ديني. وعليه؛ فإن الفضل في استمرار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بقيادته المفوّضة، وبتماسكه وسياقاته؛ يعود الى مفهوم نيابة الإمام المهدي بشكل خاص، ونيابة الإمام المعصوم بشكل عام.
هذا الواقع الجديد الذي خلقه مبدأ نيابة الإمام؛ يقود الى أهمية معرفة الفرق بين المهدي عند الشيعة والمهدي عند السنة؛ فهناك فرق كبير جوهري في الموضوع المهدوي بين السنة والشيعة؛ فالشيعة يؤمنون بظهور مهدي له اسم، أبوه معروف، سلسلة نسبه معروفة، تاريخه معروف، له حضور واقعي، في حين أن السنة يؤمنون بظهور مهدي، ولكن من هو هذا المهدي؟ ما هو تاريخه؟ ماهو نسبه؟ والأهم من كل ذلك ماهي صلاحياته ودوره في فترة غيبته؟. كل هذه الأمور لاتجيب عليها المذاهب السنية.
الأمر الآخر؛ إن المذاهب السنية لا تربط مستقبلها ولا نظامها الاجتماعي الديني بشخصية الامام المهدي الغائب، وانّما تربط كيانيتها ونظامها الاجتماعي الديني بالمؤسسة الدينية الحكومية القائمة في أي عصر ومكان، بينما يربط الشيعة شرعية وجود نظامهم الاجتماعي الديني بمبدأ الإمامة، وعبر هذا القائد الغائب، الذي ترك فيهم نواب خاصون أربعة ووكلاء، ثم نواب عامون بعد انتهاء عصر الغيبة الصغرى، وقد سمِّي هؤلاء النواب العامون بالمحدِّثين والفقهاء والمراجع، وهم الذين بدأت مهمتهم بعد انتهاء مرحلة السفراء الأربعة الخاصين للإمام المهدي، وأعقبتها مرحلة ولاية الفقيه أو ولاية المجتهد أو ولاية النائب العام للإمام المهدي أو المرجع الديني، وكلها تسميات لمنصب واحد.
ووكيل المهدي ونائبه الذي هو الفقيه، أصبحت له ولاية على شؤون المجتمع الشيعي خلال مرحلة غياب القائد الأصيل الذي هو الإمام، وهذه الولاية١، حسب ما منصوص في الأحاديث والروايات، كحديث الإمام الصادق ((فإني جعلته عليكم حاكماً)) أو حديث الإمام العسكري ((فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا)) أو الحديث المنسوب إلى الإمام المهدي نفسه؛ تجعل من الفقيه ومن المرجع الديني حاكماً زمنياً وحاكماً دينياً للاجتماع الديني الشيعي؛ فهو يقضي وهو يفتي وهو يدير الأمور الحسبية للشيعة، وفي نفس الوقت يتولى شؤون الأموال الشرعية والشؤون العامة، بما فيها الشأن السياسي.
هذه الشؤون والسياقات والنظم الفرعية؛ فيها كثير من الأمور التدبيرية الدنيوية، لأن الظواهر الاجتماعية التي تفرزها الأديان والمذاهب، بما فيها المذهب الشيعي، هي ظواهر دنيوية غالباً، ولها علاقة بإدارة المجتمع وادارة المال وادارة الاقتصاد وإدارة الحسبة، هذه كلها أمور دنيوية، لها علاقة بطبيعة حياة الفرد والمجتمع، ولكنها تستند إلى أصول تشريعية.
وعند وفاة النائب الرابع للإمام المهدي، وبدء عصر الغيبة الكبري، كانت هيكلية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وسياقاته وقواعده، قد تبلورت الى حد كبير، وهو ما سهّل على الشيخ المفيد ثم السيد المرتضي ثم الشيخ الطوسي قيادة المجتمع الشيعي وإدارة النظام؛ إذ كانت تدعمهم الشبكات التي أوجدها السفراء الأربعة نفسها، وحركة المال الشيعي نفسها، والتواصل بين الوكلاء نفسه، كان كل شي يسير وفق ما رسمه الشيخ عثمان العمر الاسدي، رغم مرور عدة عقود على وفاته.
لقد كان عثمان العمري مديراً مدبراً عبقرياً، وقوياً أميناً، وتفوق عظمة إنجازه في التأسيس، كل ما أنجزه المحدثون والفقهاء الشيعة من عصر الغيبة الصغري وحتى الآن؛ فلو لا إدارة السفير الاول عثمان العمري لما استطعنا أن نشاهد نظاماً اجتماعياً دينياً بهذه السعة الجغرافية وبهذا الترابط الاداري وبهذا الامتداد التاريخي، ومن جاء بعده من السفراء (الثلاثة) هم عيال على السفير الأول وامتداد له. أما الفقهاء الأربعة؛ فكان أحدهم يكمّل الآخر، بدءاً بالشيخ الصدوق، ثم المفيد، ثم الطوسي، ثم السيد المرتضي. وجميعهم (السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة) كانوا يعيشون في بغداد، وقادوا الواقع الشيعي من بغداد وتوفوا في بغداد، عدا الشيخ الطوسي الذي عاش آخر أربعة عشر عاماً من حياته في النجف ودفن فيه. أي أنّ المرجعية الشيعية ومركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، عندما انتقلت إلى النجف الأشرف، كان هذا النظام قد قام وتبلور نسبياً، وكانت له شبكة من الوكلاء وهيكلية أيضاً.
ميزات حراك الشيخ الطوسي وعصره
من أبرز العوامل التي ميّزت عصر الشيخ الطوسي وساعدته في النهوض النوعي والكمي بالواقع الشيعي، هو عامل الانفراج السياسي؛ فمن الطبيعي أن يزدهر المجتمع الشيعي في حالات الانفراج السياسي، وهو ما حصل في عهد الدولة البويهية الشيعية، وتحديداً بعد سيطرة البويهيين على بغداد في ظل الدولة العباسية؛ ففي هذه المرحلة التي تزامنت مع بدايات الغيبة الكبرى، وظهور الشيخ الصدوق في ايران والعراق، ثم زعامة الشيخ المفيد للشيعة، وحتى المرحلة الأولى من زعامة الشيخ الطوسي؛ حصلت انفراجة مهمة لشيعة العراق، وتخلّصوا من أعمال القمع والتشريد والتضييق التي كانت تطالهم قبل سيطرة البويهيين، وأصبح شيخ الطائفة أو سيد الطائفة أو زعيم الطائفة الشيعية يتحرك بحرّية. وقد كان هذا المفصل مهماً جداً في عملية إنضاج العملية التأسيسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي التي جرت فصولها في بغداد. ولذلك؛ ذكرت سابقاً أن تأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة، كانت تأسيساً بغدادياً عراقياً، بما في ذلك امتداداته الجغرافية التي حملت النكهة العراقية البغدادية أيضاً.
لقد عاش الشيخ الطوسي نهايات الدولة البويهية، وفي هذه الفترة هجم السلاجقة الأتراك، وهم محاربون متعصبون للمذهب السني، وطردوا البويهيين واحتلّوا بغداد؛ فانتقلت بغداد من الاحتلال الشيعي الفارسي إلى الاحتلال التركي السني، وحينها عاد الوضع الشيعي إلى ما كان عليه من التضييق والقتل والتشريد، وألقيت أغلب كتب الشيعة في نهر دجلة، وعادت المذابح في صفوف الشيعة كما كانت عليه سابقاً. ولذلك؛ هاجر شيخ الطائفة الطوسي الى النجف الأشرف مع أغلب تلاميذه، حيث مرقد الإمام علي، والحوزة العلمية الفرعية؛ فأعاد الطوسي بناءها، وحوّلها الى الحوزة العلمية الشيعية المركزية، وعاصمةً للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
حينها أصبح النجف، الحاضرة الشيعية المغلقة الوحيدة الشيعة؛ فبغداد التي مثلت سابقاً مركزية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» هي مدينة متنوعة مذهبياً، بمعنى أن فيها السلفية وفيها الشيعة وفيها السنة وفيها من مختلف المذاهب، وحتى فيها النصاري واليهود والصابئة، في حين أن النجف عندما انتقل إليه الطوسي، كانت حاضرة وبلدة شيعية محضة، وحتى محيطها، أي البلدات المجاورة لها، كان محيطاً شيعياً. هذا الأمر، إضافة إلى بُعد النجف عن بغداد، مركز القرار السياسي، أعطى الاجتماع الديني الشيعي دفعاً نوعياً وكمياً قوياً واستقلالية كاملة. بمعنى أن وجود مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي في بغداد سابقاً كان يؤثر نسبياً على استقلاليته في بغداد، إذ كان القرار الشيعي يتأثّر بشكل وآخر بالقرار السياسي للدولة، ويتأثّر بالأحداث، ويتأثر بطبيعة الجماعة القومية أو الطائفية التي تحتل العاصمة بغداد. ولكن هذا الأمر انتهي عندما انتقلت مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي إلى النجف.
وهناك فهم تاريخي مبتور في هذا المجال؛ إذ يقولون أنّ الشيخ الطوسي نقل المرجعية الشيعية من بغداد إلى النجف، والحال أنه لم ينقل المرجعية وحسب، إنّما نقل مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي الى النجف، وحوّل النجف، لأول مرة في تاريخ الشيعة، الى عاصمة دينية وعلمية واجتماعية شيعية خالصة، وهو ما لم يكن يحظ به الشيعة سابقاً، لا في الكوفة ولا في المدينة المنورة ولا في بغداد، ولذلك؛ ذكرتُ في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» بأن الطوسي أسس العصر الشيعي الرابع بعد إقامته في النجف، وبات الطوسي المرجع الديني والقائد المطلق للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، بكل مكوناته وعناصره الدينية والدنيوية.
والخلاصة؛ إن الذي تميز به الشيخ الطوسي هو نقله مركزية النظام الاجتماعي الديني ومؤسسة المرجعية الشيعية المركزية إلى النجف، البلدة الشيعية الخالصة، والابتعاد عن تأثيرات القرار السياسي للدولة العباسية في بغداد، وأصبح للشيخ الطوسي الحرية الكاملة في إرسال الوكلاء الى كل بلدان الوجود الشيعي، وفي استقبال الأموال وفي توزيعها، وفي استقبال الاستفتاءات وإرسال الفتاوى، وفي إدارة شؤون الشيعة في كل هذه البلدان. هذه المركزية والاستقلالية والحرية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، هي الدعائم الطوسية الثلاثة التي ظل الشيعة يتوارثونها عبر الأجيال، ولم يكن تحصل في ظل وجود التعسّف الذي تمارس السلطة في بغداد، عندما كانت مركزية النظام الشيعي في بغداد. وهذا أيضاً هو الفرق المؤسساتي الكبير بين ما قبل النجف وما بعد النجف، وإلّا فطبيعة عمل المرجعية الشيعية وصلاحياتها، سواء في عهد الطوسي أو في عهد الذين سبقوه، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى، هي واحدة من ناحية التأصيل التشريعي ومن ناحية صلاحيات المرجع.
لقد استثمر الشيخ الطوسي وجود بلدة شيعية خالصة، بعيدة عن القرار السياسي الضاغط طائفياً، وله حرية التحرّك فيه، وكانت فيها بالأساس حوزة علمية قبل أن ينتقل إليها، ووجود مرقد الإمام على بن ابي طالب، الأمر الذي أتاح للشيخ الطوسي تحويل النجف من بلدة دينية فيها مرقد الإمام علي وحاضرة علمية صغيرة، إلى عاصمة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ومركز عالمي دائم للعلوم الدينية الشيعية، لايزال قائماً حتى الآن، بمركزيته وعنوانه وصفته الذي أسس له الشيخ الطوسي قبل 1000 عام. وباتت هناك عناصر كثيرة تميز حوزة النجف الطوسية:
الميزة الأولى: وقد ذكرتها سابقاً، وهي أنّ النجف أول حوزة تنشأ في بيئة شيعية خالصة، إذ أن الحوزات العلمية السابقة، في الكوفة والمدينة ومكة وبغداد. سواء في عهد الأئمة وما بعد الغيبة، كانت تعمل في بيئات متنوعة مذهبياً، وحتى متنوعة على مستوى الأديان.
الميزة الثانية: إن الشيخ الطوسي قام بعملية مأسسة نوعية وكمية، وذلك عندما بنى هيكلية جديدة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف، كما أسس لسياقات وقواعد وأعراف متجددة ثابتة؛ فهو لم يؤسس لهيكلية موقتة أو هيكلية ظرفية، لتسيير أمور الطائفة لسنوات، وفق ما تسمح به الظروف، كما كان الحاصل في بغداد، إنّما أسس لهيكلية تدوم طويلاً، أي أنه تحرك بعقلية ستراتيجية وأسس لهيكلية ستراتيجية، وهذا جزء من عبقرية الشيخ الطوسي، الذي أسس لنظام نوعي ذي أفق بعيد الأمد. وكان يدعمه في ذلك الحرية شبه الكاملة التي كان يتمتع بها، بعيداً عن الضغوطات السياسية والطائفية، وفي إطار حاضنة محيطة محمية من العشائر العربية الشيعية في الكوفة وفي الحيرة وغيرهما من المناطق المحيطة بالنجف، أي أن الشيخ الطوسي كان محمياً من أي تأثيرات سياسية وأي تأثيرات اجتماعية معارضة، وباتت حينها شبكة الوكلاء ثابتة وواسعة وتتحرك بفاعلية، وباتت حركة المال الشيعي تتحرك بشكل انسيابي ودقيق.
والواضح أنّ الشيخ الطوسي كان يتمتع بقابلية إدارية كبيرة وقدرة قيادية عالية المستوي، وليس مجرد عبقرية فقهية وعلمية. هذا الذي جعله يعيد تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، لكي يبقي ويستمر؛ فهو لم يأت إلى النجف ليبق بضع سنوات، بنية الرجوع إلى بغداد أو الذهاب الى كربلاء أو قم أو طوس، بل جاء الى النجف ليبقي، جاء ليعيد تأسيس هذا النظام ليبقي آلاف سنين. وأنا أعتقد أن وجود هذا النظام القائم في النجف حتى الآن هو جزء من العبقرية التنظيمية والإدارية والقيادية للشيخ أبي جعفر الطوسي.
هنا يأتي موضوع الكفاءة لدى المرجع، أي الكفاءة الإدارية والتدبيرية والسياسية والاجتماعية والقيادية، والتي بحثتها بدقة في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»؛ فلو كان هناك مرجع آخر غير الطوسي، توافرت له الظروف نفسها، ولكن ليس لديه القابلية على التدبير والإدارة والقيادة، وليست لديه الوعي بالشأن العام، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وليس لديه النظرة الستراتيجية والتفكير العميق؛ لما تأسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف، بهذه البنية والشكل المتماسكين العالميين، ولبقي هشّاً، حتى يقيّض له شخص آخر ليقوم بهذا الدور.
وبالتالي؛ فإن كفاءة المرجع الأعلى، حتى في البعد السايكولوجي، لها مدخلية في طبيعة بنية هذا النظام، ولها مدخلية حتى في الفتوى والحكم الشرعي في الشأن العام. ولذلك؛ ركّزت كثيراً في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» على أهمية الكفاءة وضرورتها، وعلى ضرورة دراسة الجانب السايكولوجي في شخصية الفقيه، لكي يكون المرجع الأعلى دائماً بمستوى التحديات، وليس فقط النظر الى شروط الأعلمية والفقاهة والعدالة، وإنّما الكفاءة الإدارية والكفاءة السياسية والوعي بالشأن العام، على اعتبار أن المرجع الأعلى هو مرجع زمني وديني، وليس مجرد مفتي.
ورغم ثقل الطوسي المؤسس وزعامته العامة للشيعة، إلّا أن رحيله لم يؤد الى ضعف النجف، لأن ولده الملقب بالمفيد الثاني، والذي تصدى لزعامة الشيعة بعد وفاة أبيه، وجد مؤسسة قائمة راسخة البناء. وهكذا سار الحراك الاجتهادي الفقهي والبناء العقدي بعد الطوسي بشكل انسيابي. والحقيقة أن حراك الاجتهاد الفقهي والعلوم الشرعية لا يتوقّف عند أحد، حتى لو كان بحجم المفيد أو الطوسي أو ابن ادريس أو كاشف الغطاء أو الأنصاري، والفتوى لا تتوقف عند أحد، لأنً الوقائع الجديدة والأحداث المستجدة مستمرة، وعملية الاستنباط مستمرة، ولا تقف عند زمن معين، ولا تقف عند فقيه معين؛ فكلما استجدّت الموضوعات وكلما ظهرت وقائع جديدة، كان لابد من إجابات عقدية وفقهية جديدة. وهذا الموضوع له علاقة بالزمان والمكان ومتطلباتهما وحاجاتهما التي تتزايد باطراد، كما أن له علاقة بإمساك الشريعة بالعصر والاستجابة لحاجات المجتمع والفرد.
وما قام به المحدثون والفقهاء والمتكلمون الشيعة في عصر غيبة الامام المعصوم، يمثل استجابة لحاجات الفرد والمجتمع بكل ما يحتاج من معالجات عقدية وأحكام فقهية. وهذا التطور الذي رافق مسارات الابتعاد عن عصر التشريع وعصر الإمامة الحاضرة؛ نقل عالم الدين من كونه محدثاً الى كونه فقيهاً مجتهداً، ثم زعيماً للشيعة، وظهرت الحاجة لعلوم جديدة كعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلم دراية الحديث وعلوم القرآن. هذه العلوم لم يكن لها حضور في السابق، لكنها استجدّت بمرور الزمن، تبعاً لطبيعة الحاجة؛ فعلم الرجال وعلم الدراية وعلوم القرآن والمعارف الاجتهادية، لم تكن لها أهمية أو حاجة بوجود الإمام المعصوم، الذي يعطينا الحكم الشرعي المساوق لحقيقة مراد الشارع، ولايتعامل بالأحكام الظنية، ويعرفنا بحقية تفسير الآية وبالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وأسباب النزول، وهو الذي ينقل لنا الحديث عن آبائه عن الرسول. ولكن بمرور الزمان، باتت هناك ضرورة لانشاء علوم جديدة تستجيب لحاجات التفقه والاجتهاد والمعرفة الدينية، وتؤسس لواقع علمي ومعرفي ديني جديد. وهذا هو ما قام به الفقهاء على مرّ هذه العصور. سواء قبل الطوسي، كالكليني وابن الجنيد والصدوق والمرتضى وأبي عقيل والغضائري والمفيد والمرتضى، أو ما بعد الطوسي، كالمفيد الثاني وسلار والديلمي وابن ادريس، وكذلك المحقق الحلي وابن طاووس والعاملي الأول والعاملي الثاني والعلامة الحلي، وصولاً الى الوحيد البهبهاني والمقدس الأردبيلي وكاشف الغطاء وبحر العلوم والجواهري والأنصاري، وانتهاء بالحكيم والخوئي والخميني والصدر والسيستاني والخامنئي.
إصلاح المتغيرات في »النظام الاجتماع الديني الشيعي«
بعد تأسيس «النظام الاجتماع الديني الشيعي» في عصر الغيبة وإلى عصر الشيخ الطوسي؛ أصبحت هناك أنساق وأعراف وظواهر ثابتة مطردة، وهي ليست ظواهر مؤقتة أو عابرة، وفق تعريف العرف في القانون وفي الشريعة، وكذلك تعريف علم الاجتماع للظاهرة، والتي تشكّلت من مجموعها ظواهر وأنساق متشابكة منظمة بمرور الزمن، وقد أسميناه في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» بالنظام. هذا النظام يتأطر في هيكلية، أصبحت عرفاً قائماً شبه ثابت بمرور الزمن، ولم تتغير ثوابتها منذ عهد الشيخ المفيد والشيخ الطوسي وحتى عهد السيستاني والخامنئي؛ فكليات النظام لاتزال هي نفسها، ولكن تبرز بين فترة وأُخرى، أشكال مؤسساتية جديدة وأنساق متجددة ومصطلحات جديدة، وفق متطلّبات الزمان والمكان، لكنها تبقى محافظة على الأصول التشريعية أولاً، والقواعد التأسيسية العرفية ثانياً.
وقد شرحت هيكلية «النظام الاجتماع الديني الشيعي» في الفصل الأول من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»، وهي تبيِّن وتفسِّر طبيعة النظام وطبيعة حركة المرجعية وعمل الحوزة العلمية وبيت المال ووظيفة مكتب المرجع والحاشية والبرّاني وكل التسميات الرديفة. هذه التسميات لها علاقة بالأنساق والأعراف، يعني هي أمور تنظيمية تدبيرية ترتبط بقدرة المرجع على إدارة المؤسسة الدينية العلمية أولاً، أي الحوزة العلمية بكل تفرعاتها، ثم المجتمع الشيعي بكل تعقيداته ثانياً. وأذكّر هنا بما يقوله بعض علماء الاجتماع الديني، مثل “دور كهايم” و”ماركس فيبر” و”اكوا فيفا”؛ إذ يؤكدون بأن الاجتماع الديني لمذهب معين أو لدين معين، كلما تعرّض إلى الضغط أكثر، كلما أدّى ذلك إلى تعقيد بُناه الاجتماعية الدينية، وتماسكه.
وفي تلك المعادلة يكمن الجواب على سؤال: لماذا تكون هذه البنى بسيطة أحياناً وأخرى معقدة ومركبة؟. تكون بسيطة في حال كانت الطائفة الدينية أو المذهبية تعيش حالة استقرار واسترخاء، في ظل واقع ديني وسياسي واقتصادي داعم، وتكون معقّدة ومركّبة، في حال كانت تتعرض لضغوطات دينية وسياسية، لكي تحمي نفسها، وتتخلص من الضغوطات، من القمع، من التشريد، وهذه غريزة إنسانية. ولذلك؛ فإن بعض أنساق النظام الاجتماعي الديني الشيعي أو المرجعية الشيعية معقدة وضبابية وغير مفهومة لغير أبناء المؤسسة، وهي سياقات اعتادت عليها المرجعية منذ قرون طويلة، نتیجة القمع الشديد من قبل السلطات المتعاقبة لمجتمع المؤمنين الشيعة.
وبالتالي؛ من الطبيعي والضروري أن تكون هيكلية هذا النظام هيكلية معقّدة، بما فيها المقر المحيط بالمرجع الديني؛ فالمرجع ــ نتيجة ظروف القمع والرقابة المتراكمة ــ يعتمد في إدارة مؤسسة المرجعية والشأن العام على فريق خاص من الثقاة المقربين، وخاصة من بين تلاميذته وأسرته، وهم مكتبه وحاشيته الخاصة، أي أن الظروف هي التي جعلت المرجعية تعتمد على السياق الموروث التقليدي من الإدارة منذ مئات السنين، مايعني أن هذه السياقات ليست من اختراع الحكيم أو الخوئي أو الخميني أو السيستاني أو الخامنئي.
لقد كان النائب الثاني للإمام المهدي في عصر الغيبة الصغرى هو ابن النائب الأول، وكان الصدوق الثاني ابن الصدوق الأول، وكان الشريف المرتضى كان يسند الإدارة الى أخيه الرضي، وكان الشيخ الطوسي يعتمد على ابنه في إدارة مكتبه وحاشيته، وابنه هذا أصبح المرجع الأعلي للطائفة بعد أبيه، وكان يلقّب بالمفيد الثاني، والعلامة الحلي كان يعتمد على ابنه وصهره. وهكذا ظل المرجع مضطراً لأن يؤسس لفريق خاص، يثق به ويحيط به، ليستشيره في الجانب الفقهي، وفي الشأن السياسي، وفي الشأن المالي، وفي الشأن المعيشي، وفي كل شؤون الحسبة التي لها علاقة بالمجتمع.
ولذلك؛ ليس بدعة أن يعتمد المرجع الآن على حاشيته وفريقه الخاص. والحاشية هي البطانة وتعني الفريق الخاص، وتسمّي بالمكتب أيضاً، وكان اسمها البرّاني؛ إذ أن بيت المرجع ينقسم الى قسمين: دخلاني وبرّاني؛ فالدخلاني هو الذي تسكن فيه عائلته، أمّا البرّاني فهو المكتب ومركز حضور الفريق الإداري واللجان والحاشية، وكذلك المراجعين وعموم المؤمنين. وأحياناً يكون البراني مَدرَساً، أي قاعة للدرس الذي يقدمه المرجع نفسه، وأحياناً يقوم المرجع بإعطاء دروسه في الصحن العلوي أو أحد أروقة الضريح أو أحد المساجد والمدارس والحسينيات المنتشرة في النجف القديمة.
وفريق المرجع الذي يعرف بالحاشية كما ذكرنا، ينقسم إلى طبقات؛ فهناك الحاشية الخاصة جداً، وهم كبار تلاميذ المرجع، وأكثرهم فقهاء وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، لكنهم بقوا يعيشون في ظل المرجع الأعلى، وأصبحوا بطانته الخاصة، وهناك الحاشية العامة، أي صغار التلاميذ أو تلاميذ رئيس الحاشية. بالتالي؛ فإن مصطلح الحاشية ليس مصطلحاً سلبياً إطلاقاً؛ فهو يعني فريق الثقاة الخاص بالمرجع، وهو ليس بدعة ولا اختراعاً جديداً. وتجد ذلك مفصلاً في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي».
وأودّ الأشارة هنا إلى قضية منهجية تتعلق بإصلاح النظام الاجتماعي الديني الشيعي أو تطويره أو إعادة مأسسته، هذا العمل التخصصي المهم ينبغي أن يتم التخطيط له وتنفيذه يجب من داخل النظام نفسه وليس من خارجه، وهكذا بالنسبة لتطوير بنى المؤسسة الدينية الشيعية؛ فينبغي أيضاً أن يتم من داخل المؤسسة وليس من خارجها، وهكذا منظومة المرجعية الدينية. ويعني ذلك أن هذه المهمة ليست مهمة المثقف أو الأكاديمي، وإن كان دكتوراً في النُظُم أو علم الاجتماع الديني، فيعطي لنفسه مطلق الحق بالتنظير لثوابت المرجعية الدينية ويخطط لإصلاحها، ویقول يجب أن تفعل المرجعية کذا وتعمل کذا، لأن المرجعية أدرى بشؤونها. نعم؛ المرجعية من المفترض أن تستمع الى أصحاب الاختصاصات في النظم والقانون الدستوري والقانون الدولي وعلم الاجتماع والانتربولوجيا والإدارة والاقتصاد والمالية، وتستشيرهم في عملية الإصلاح، لماذا؟، لأنّ المؤسسة الدينية الشيعية ليست مؤسسة فتوي، إنّما هي زعامة النظام الاجتماعي الشيعي. اليوم الشيعة موجودون في (120) دولة في العالم. هؤلاء لديهم مجتمعات كبيرة، مؤسسات، مساجد، حقوق شرعية، مشاكل مع السلطات، مشاكل قانونية، علاقات داخلية وخارجية، إشكاليات سياسية وثقافية. هذه كلها مسؤولية المرجع في النجف أو في قم، مسؤوليته ان يرعاهم ويهتم بهم. هذه الأمور هي صلاحية المرجعية وواجبها، وليس مهمة الدولة.
ومن البديهي أن تكون عملية التطوير والإصلاح وإعادة المأسسة منسجمة مع متطلبات الزمان والمكان، أي حاجات العصر، وكذلك مع طبيعة صلاحيات المرجع وطبيعة مسؤوليات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ فلو كانت صلاحيات وواجبات المرجع الأعلى الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ تتلّخص في الفتوى فقط؛ فلن تكون هناك حاجة إلى عملية إصلاح معقّدة، أي يكون هناك تجديد في الفكر الفقهي وفي الفكر الأصولي وفي علم الدراية وفي علوم القرآن، وينتهي الموضوع، باعتبار أن القضية قضية اجتهاد وفتوى وحكم شرعي لا اكثر، ولكن المرجع الديني ليس مفتياً وحسب، ولا تنحصر مهمته بالافتاء، وإنّما بزعامة المجتمع الشيعي برُمّته.
وقد أشرت في هذا كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» إلى ضرورة ايجاد مؤسسة من المجتهدين، نسمّيها ــ مثلاً ــ مجمع أهل الخبرة، وأهل الخبرة هم المجتهدون، ولنفترض أن عددهم خمسون مجتهداً أو مائة، ويكونون بمثابة مؤسسة استشارية ومؤسسة لاختيار المرجع الأعلي. هذه فكرة، مجرد مقترح، لكي يتم انتخاب المرجع الأعلى من طريق أهل الخبرة، بهذه الطريقة المؤسساتية، إضافةً إلى أن يكون لهم دور استشاري في قضايا المجتمعات الشيعية، الدينية او السياسية أو المعيشية أو الاجتماعية. والمعروف أن سياق توصل الشيعي الى المرجع الذي يريد تقليده، يكون من خلال الشياع أو شهادة خبيرين مجتهدين عادلين، وهي سياقات عرفية عقلائية غالباً، وهنا ننحدّث عن تجديد هذا وتطويره، من خلال مؤسسة للمجتهدين الخبراء والمستشارين، وتأخذ على عاتقها اختيار مراجع التقليد وتعرفهم لجمهور الشيعة، كما تختار المرجع الأعلى المتصدي من بين المراجع المطروحين، وتتحمل مسؤولية الاستشارة في كل الشؤون التي لها علاقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ويكون هناك مجلس آخر من كل الاختصاصات العلمية والشرائح الاجتماعية، لتقديم المشورة الى المرجعية الدينية والى مكتب المرجعية بشأن الموضوعات والقضايا والمصالح.
ولاشك أن أيّ عملية إصلاح لن تكون مفروشة بالورود، أو يسير فيها المصلحون على سجاد أحمر، خاصة حيال تقاليد متشابكة تراكمية موروثة، كتقاليد الاجتماع الديني الشيعي؛ فهذه العملية معقّدة وشائكة جداً، وتحتاج إلى عقول تنظيمية وإدارية، تعمل بحذر ودقة بإشراف المرجع وتوجيهة، لكي لاتصطدم بأصل تشريعي أو تكييف فقهي أو مصلحة عامة، لأنّ الإصلاح وإعادة البناء ليست عملية اعتباطية أو مزاجية، أو فكرة ناجزة أو مقترح جاهز ناجز، لكن يبقى أن طرح الفكرة، والقبول بها، يعدّ بحد ذاته أمراً مهماً، وأقصد هنا أصل فكرة الإصلاح والتطوير، وإمكانية التفاعل معها؛ فاستحصال القبول بالفكرة؛ سيؤدي إلى التفكير بعملية الإصلاح والتخطيط لها، ولمأسسة بعض سياقات حركة النظام ومؤسسة المرجعية، ومنها ما يرتبط بمجلس أهل الخبرة المجتهدين، أو ما يتعلق بالمجلس الخاص الآخر الذي يتكوّن من الخبراء في الشأن العام، كالخبراء في السياسة والعلاقات الدولية والإدارة الاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والانتروبولوجيا. هؤلاء أيضاً يكوّنون مجلساً استشارياً علمياً لتشخيص مصلحة الشيعة وحل مشاكلهم في كل بلدان العالم. وهذا اللون من المأسسة سيريح المرجع الأعلى، وسيزيل عن كاهله وعن كاهل مكتبه وفريقه المقرّب حملاً ثقيلاً، على اعتبار أنّ المرجع يرعى شؤون الطائفة في كل مكان، وبالتالي؛ فإن الاستعانة بالمستشارين والخبراء ستخفّف من هذا العبء وستجعل القرار سهلاً من قبل المرجع، وأكثر مقاربة للمصلحة.
ونشير هنا الى موضوع أرجحية موقف المرجع الأعلى على مواقف باقي المراجع، أو غلبة المدرسة الأصولية الشيعية، هذه الغلبة لاتشبه إطلاقاً ما قامت به السلطة العباسية من حصر المذاهب وإقصائها، لأن ذلك كان قراراً سياسياً وإقصاءً طائفياً، بينما في الوسط الشيعي؛ فإن القضية مختلفة تماماً ولاعلاقة لها بالسياسة والسلطة والمصالح الخاصة، بل لايوجد نوع من أي نوع من أنواع التحكم؛ فهناك قضايا علمية وفقهية كثيرة مختلف عليها، ويتم تناولها بحرية كاملة وانفتاح، ويكون التقدم والتفوق للرأي الأرجح عادة، ولايوجد أي اقصاء لأي رأي علمي وفقهي، وهذا هو سبب حيوية الفقه الشيعي. فضلاً عن أن هناك معايير وسياقات حازمة لفرز المرجع الأعلم والفقيه الأعدل والأكفأ، ولايوجد إقصاء لأحد، بل يمارس جميع الفقهاء والمراجع أعمالهم العلمية والدينية والاجتماعية الى جانب المرجع الأعلم أو المرجع الأعلى بمطلق الحرية.
وهناك أيضاً هناك ضرورات عقلائية تتعلّق بالشأن التدبيري والإداري والقيادي، وقد صارت عرفاً؛ فلا بدّ أن يكون للمجتمع الشيعي في الجانب الزمني الدنيوي، زعيماً واحداً أو مديراً واحداً، لكي لا تتعارض الآراء ولا تتضارب المواقف، وخاصة في الشأن العام، مما يؤدّي إلى تمزيق المجتمع الشيعي وإلى تشظي المجتمع الشيعي، على اعتبار أنّ المرجع الديني أو الفقيه الشيعي الأول الذي يقف على رأس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، هو ليس مفتياً وحسب كما ذكرنا، وهو يختلف عن الفقيه السني اختلافاً جوهرياً بنيوياً، فالتشابة هنا هو في التسمية وجزئية الإفتاء، ولكن في الجانب العملي هناك فرق جوهري بين الفقيه الشيعي والفقيه السني.
وبالتالي؛ فإن وحدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وعالميته وتماسكه، تتطلب أن يكون هناك فقيه واحد يدير النظام أو فقيهين في مكانين مختلفين حداً أعلى، وهذه قضية تنظيمية تدبيرية إنسانية يعي أهميتها كل عاقل. ومن الأمور التدبيرية التي لحقت بهذا الموضوع، مفهوم الأعلمية وتقديم الفقيه الأعلم، في حال تعدد الفقهاء. مثلاً؛ إذا كان هناك في زمن واحد مائة فقيه؛ فكيف يمكن أن نختار من بينهم زعيماً واحداً لإدارة المجتمع الشيعي والنظام الاجتماعي، وتوجيه الشبكة الواسعة من الوكلاء، وإدارة المال الشيعي الشرعي الضخم؛ فبرزت مصطلحات تدبيرية كالأعلمية وغيرها من الاشتراطات، وظهرت مصطلحات كالمرجع الأعلى، الذي يتقدم باقي مراجع الدين. وهذا ليس إقصاءً، وإنّما هي عملية طبيعية تنظيمية تدبيرية؛ فهناك فقيه عالم وهناك فقيه أعلم أو أكفأ، ولابدّ من الرجوع إلى الأعلم والأكفأ، وفق ما تمّ تكييفه من قبل الفقهاء.
عالمية الاجتماع الشيعي وشبهة جنسية المرجع
سبق أن شرحت بالتفصيل الإشكاليات ذات العلاقة بعالمية النظام الاجتماعي الشيعي وبقومية المرجع الديني الشيعي وجنسيته، في الفصل الثامن من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»، وأشير هنا الى بعض المقاربات التكميلية.
الإنسان الشيعي، ككل البشر المتحضرين، له هوية مركبة، وله تبعية وانتماء للوطن الذي يحمل جنسيته من جهة، وله تبعية للمرجعية الدينية التي يقلدها أو المرجعية التي تقود «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» من جهة أخرى. وهذه التبعية المركبة ليست عملية معقّدة؛ فالذي يعقّد الموضوع هي الدعاية المخاصِمة و(بروباغاندا) الخصوم، ليحوِّلوها الى تهم وشبهات ضد الشيعة وضد نظامهم الاجتماعي الديني، وإلّا فإن الموضوع ليس فيه ذلك التعقيد، لأنه يرتبط بطبيعية عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» الذي يقوده المرجع الديني، وهذه العالمية جزء من ثوابت النظام التي إذا تغيرت سينهار ركن أساس منه؛ فهو منذ تأسيسه في عصر الغيبة الكبرى على يد نواب الإمام الخاصين الأربعة ثم الفقهاء الأربعة، وصولاً الى الشيخ الطوسي، وحتى الحال الحاضر، هو نظام اجتماعي ديني عالمي متماسك، وهذا التماسك ناشيء من الاستفتاءات الواردة الى المرجع من كل شيعة العالم، والفتاوى الصادرة منه الى كل شيعة العالم، وعبر شبكة الوكلاء العالمية، وعبر المال الشرعي الذي يدار عالمياً أيضاً؛ فيصل الى المرجع من كل شيعة العالم، ويوصله المرجع الى مستحقيه في كل العالم، وعبر المؤسسات والمشاريع المرجعية المنتشرة في كل العالم، ويتم الإشراف عليها مركزياً، وعبر الحوزات العلمية الفرعية والمدارس الدينية المنتشرة في أغلب بلدان العالم، وهي تابعة الى المرجع، وعبر التوجيهات الصادرة من المرجع في الشأن العام الى الشيعة. هذه كلها يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وهي من المسلّمات التي لا اختلاف فيها.
مثلاً؛ الممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، قبل الاحتلال البريطاني، كان يوجهها ويرعاها طيلة قرون، المرجع الديني في إصفهان، أو المرجع الديني في النجف، وكانت شاه الدولة الصفوية يأخذ شرعيته من مرجع لبناني، هو الشيخ الكركي أو الشيخ البهائي، وكان شاه الدولة القاجارية في ايران يستمد شرعيته من مرجع عراقي؛ فالشاه فتح علي القاجاري ــ مثلاً ــ لديه إجازة بالتصرف في الحكم من مرجع النجف الشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف، ويخوّله فيها بقيادة الجيوش والتصرف بالأموال والخراج وغيرها.
وهكذا الأحزاب والحكومات وجماعات المقاومة الشيعية اليوم؛ تأخذ شرعية عملها من المرجع الأعلى وليس العكس، أي أنها جزء من النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده المرجع الأعلى، منذ عهد الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي ولحد هذه اللحظة. الوجودات الشيعية القائمة، بصرف النظر عن أدائها وسلوك أعضائها، تأخذ شرعيتها من المرجع، كما كان يحدث دائماً في التاريخ الشيعي. ولنأخذ العراق ـــ مثلاً ــ؛ ففي ثورة النجف أو ثورة العشرين، كانت الجماعات المسلحة والعشائر المسلحة عبارة عن حركات مقاومة تأخذ فتواها من المرجع الأعلى، أي أنها كانت تابعة للمرجع الاعلى، وهكذا في ثورة التنباك في ايران، وكذلك في ثورة المشروطة في ايران، وصولاً الى الثورة الإسلامية في ايران، والجماعات الإسلامية العراقية في زمن النظام البعثي، والتي كانت تعمل بفتوى المرجع في ممارسة العمل المسلح، وهكذا جماعات المقاومة الشيعية اليوم في العراق وايران ولبنان وسوريا واليمن وافغانستان. وهذه واحدة من أهم التمايزات ذات العلاقة أيضاً بعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، والمتمثلة في استمداد الحكومات والأحزاب والجماعات والمؤسسات الشيعية، شرعيتها من المرجع الأعلى، بغض النظر عن جنسيتها؛ فالخليفة والسلطان والرئيس لا يعين الفقية الشيعي، وإنما الفقيه هو الذي يمتلك صلاحية تعيين الحاكم التنفيذي.
ولكن ظهور الدولة القومية التي لديها حدود جغرافية سياسة وقوانين محلية وجنسية وطنية؛ أصبح على المواطن الشيعي أن يتقيّد بالدرجة الأساس بانتماءه الى وطنه الذي يحمل جنسيته، وأيضاً يتقيد بقوانين البلد، وفي الوقت نفسه يعبِّر عن انتمائه الطبيعي لمرجعيته الدينية، بغض النظر عن جنسيتها ومحل إقامتها، كما يعبر عن انتمائه للنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، أيا كانت جغرافيا ركزيتها. والتقيد بهذه الأمور ليست بالعملية العسيرة والمعقّدة؛ فحتى الأنظمة الطائفية بات لديها تفّهم نسبي لهذا الموضوع.
ولعل هناك من يتساءل عن احتمال تقديم المرجع مصالح البلد الذي يحمل جنسيته على البلدان الأخرى التي يتواجد فيها الشيعة، وهذا التساؤل يصح حيال أي شخص عدا المرجع الديني الشيعي، لأنّ من أهم شروط المرجع الشيعي أن يكون عادلاً، أي أن يتمتع بالعدالة والتقوى والقابلية على تقدير مصلحة الشيعة في كل البلدان، وهنا نتحّدث عن المرجع الأعلى، وليس عن أي مرجع وفقيه؛ فالمرجع الأعلى ليس رجل سياسة ولا تاجر، ولا زعيم ساذج بحيث لايعي خصوصيات كل مجتمع شيعي في بلده، ولايعي التزاماته القانونية والوطنية. كما أن المرجع الديني لايربط مواقفه وأحكامه الشرعية وتوجيهاته في الشأن العام، بسلطة أو دولة؛ فهو مستقل في مواقفه، بغض النظر عن جنسيته، بل حتى لو كان هو على رأس الدولة. وعندما يقوم المرجع بإصدار توجيه للشيعة في أي بلد من البلدان؛ فلا شك أنّه يراعي مصالحهم والتزاماتهم الوطنية، وعندما يتعرضون الى القمع والاضطهاد؛ فإنه يعمل بتكليفه الشرعي في متابعة شؤونهم ومطاليبهم والدفاع عنهم، وربما يشير عليهم بردع الحاكم الظالم والدفاع عن أنفسهم، وغالباً ما يترك المرجع لحكماء الشيعة في بلد ما، وهم وكلاؤه غالباً، أن يتصرفوا بما يرون فيه مصلحة الشيعة، وبالتالي؛ فهو يوجه الأمور وفق مصلحة شيعة البلد، لأن وظيفته الشرعية أن يدفع عنهم السوء والمفاسد ويجلب لهم المنافع والخير والصلاح، وفي مقدمة ذلك أنه لايدفعهم الى الاصطدام بقوانين بلدانهم، إلّا إذا كان في ذلك دفعاً لضرر أكبر يتعرضون له.
والمشكلة ليست في تبعية الشيعي لمرجع من جنسية أخرى أو يقيم في بلد آخر، لأنه أمر طبيعي ومتوارث منذ مئات السنين، بل المشكلة في الأنظمة الطائفية التي تقمع المجتمع الشيعي، ولا تريد له أن يندمج في واقعه، ولا تريد أن تجعل أبناءه مواطنين من الدرجة الأولى، بل تعمل على الإبقاء عليه مهمّشاً، كما كان يحدث في العراق، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وصولاً الى زمن البعث؛ فمن الطبيعي أن يتدخّل المرجع للدفاع عن هؤلاء الشيعة جراء ما يتعرضون له من قمع وإقصاء وظلم، وهذا واجبه، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو لبنانياً أو هندياً، وسواء كان يقيم في بغداد أو قم أو النجف أو طهران أو سامراء أو كربلاء أو لبنانياً، وإذا لم يفعل فهذا يعني أنه تخلى عن واجباته البديهية في حماية المذهب وأبنائه.
لقد كان مرجع النجف الأعلى يتحرك لرفع الظلم عن شيعة ايران، ويدفع باتجاه إسقاط نظام الشاه في ايران، وهكذا كان يعمل مراجع النجف وقم حيال ما يتعرض له الشيعة في العراق في عهد البعث، لأن هذه الحكومات انحرفت عن الجادة، وعرّضت الشيعة لأبشع ألوان القمع. وعندما يقوم المواطن الشيعي بأي فعل يتعارض مع سياسة هذه الدولة وتلك بضوء أخضر من المرجع؛ فهو إنما يدافع عن نفسه، للتخلص من ضغط الاستبداد وضغط الانحراف، وبما يتفق ومصلحة المجتمع الشيعي التي يشخّصها المرجع الديني باستشارة حكماء البلد المعني، انطلاقاً من واجبه الديني كقائد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهذا ليس فيه أي تعارض مع الهوية الوطنية؛ فإذا كانت الأُمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، بل حكومات الدول، تتدخل وتدافع عن حقوق الإنسان وتطالب بالعدالة والديمقراطية؛ فكيف نتوقع من المرجع الشيعي أن يصمت إزاء ما تتعرض له رعيته في أي بلد كان، وأينما كان هناك شيعي؟. المرجع يدافع عن مصلحة المواطن الشيعي والمجتمع الشيعي هذا المواطن، بصرف النظر من هويته وجنسيته، وهذه المصلحة تشكل أولوية في واجبات المرجع.
ويختلف النظام الاجتماعي الديني الشيعي المركّب عن غيره من الأنظمة الاجتماعية الدينية للطوائف والمذاهب الأخرى، وهذا الاختلاف يرتبط ــ غالباً ــ بقيادة هذا النظام، وهي المرجعية الدينية، هذه المرجعية بصلاحياتها وهيكلتها وسياقات عملها، غير موجودة في أي مذهب من المذاهب الاسلامية الأخرى، ولا الأديان الأخرى، ولذلك؛ فإن المرجع الديني للسنة في مصر هو مصري، ويعينه رئيس الدولة، وله درجة حكومية، سواء تمثل بشيخ الازهر أو المفتي، وليس له صفة خارج مصر، وليس له دالة على المسلمين السنة في الدول الأخرى، وهكذا؛ فإن المفتي الديني للسنة في سورية هو سوري وفي اندونسيا اندونسي وفي نيجيريا نيجيري، وأن عمل كل هؤلاء محدود في بلدانهم، ويعملون وفق توجيهات حكومات بلدانهم.
أما عند الشيعة؛ فهناك مركزية عالمية للمذهب وللنظام الاجتماعي وقيادة مركزية وشبكة عالمية لتوجيه الظاهرة الاجتماعية الدينية، سواء تمثلت هذه المركزية في يوم ٍما بالنجف أو الحلة وكربلاء وجبل عامل وسامراء وإصفهان سابقاً أو بقم. هذه المركزية فيها مرجع ديني يقود أغلب الواقع الشيعي، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو هندياً أو باكستانياً أو لبنانياً، و يتبعه الجمهور الشيعي ليس تبعية فتوائية ودينية فقط، يعني ليس مجرد رؤية الهلال، أو توقيتات الصلاة والصوم أو معرفة أحكام الحج وعقد الزواج، وفي حدود أبناء البلد الذي يحمل جنسية المفتي والموظف عند رئيس الدولة فقط، لا ليس هكذا الأمر عند الشيعة، إنّما هي تبعية اجتماعية ودينية ومالية وقضائية، وصولاً إلى ما يتعلق بقضايا الدولة والسياسة. وهنا تكون الحدود والقوميات واللغات باهتة في داخل المذهب الشيعي. هذه التبعية الشاملة لا وجود لها في باقي المذاهب، بل ولا وجود لها في كل الأديان، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الطوائف السنية والطائفة الشيعية الإثني عشرية.
وشبكة الوكلاء العالمية في النظام الاجتماعي الشيعي هي ميزة أخرى للنظام الاجتماعي الديني الشيعي عن كل المذاهب والأديان الأخرى؛ فالمرجع الديني الأعلى في النجف ــ مثلاً ــ لديه مئات الوكلاء المنتشرين في كل بلدان العالم، من أمريكا وحتى استراليا، ومن روسيا وحتى جنوب أفريقيا، هؤلاء الوكلاء هم شبكة عالمية متماسكة، لديهم مرجعية واحدة وتوجيهات مركزية على كل الصعد، وهم بمثابة نوّاب وممثّلين ومعتمدين ومندوبين وسفراء، لهم صلاحيات في حدود ما يمنحه لهم المرجع، كصلاحية استلام الحقوق الشرعية وتوزيعها، وصلاحية التنظيم الاجتماعي والأمور الحسبية، وصلاحية نشر الفتاواي واستلام الإستفتاءات، وبناء وإدارة المساجد والحسينيات والمراكز الثقافية والصحية ومؤسسات رعاية الفقراء والأيتام وغيرها، ومتابعة الشأن العام للشيعة في البلد، بما فيه الشأن السياسي.
كما أن التواصل بين الوكلاء والمرجع، بل بين عموم الشيعة والمرجع، هو ميزة أخرى في النظام الاجتماعي الشيعي العالمي، وهو بسيط، ولايزال نفسه منذ عصر الشيخ المفيد والشيخ الصدوق والسيد المرتضى والشيخ الطوسي؛ فهناك التواصل المباشر بين الوكلاء والمرجع وكذلك بين عامة الشيعة والمرجع، دون حواجز وتعقيدات وبروتوكولات، وهناك التواصل عبر الرسائل. وقد ظل الوكلاء أو عموم الشيعة، يحضرون الى مركز المرجعية، سواء في بغداد او النجف أو قم وغيرها، وهناك حلقة مهمة هي مكتب المرجع، الذي يسمى (البرّاني) أو (البيت)، وهو ــ رغم بساطته اللافتة ـــ يمثل المقر الشيعي العام، أو المقر المركزي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويدير المقر ــ عادة ــ عدد من أسرة المرجع وتلاميذه، كأبنائه وأصهاره وإخوته وتلاميذه المقربين، ويكون التركيز دائماً على تلاميذ المرجع من الصف الأول؛ فلكل مرجع تلاميذ من الصف الأول، يعتمد عليهم أحياناً في الشأن الإداري والمالي، إضافة الى الشأن الديني والفتوائي؛ فيكون أحد تلامذته مسؤلاً عن بيت المال ــ مثلاً ــ، وآخر يكون عن مسؤلاً عن لجنة الفتواء، وهكذا مسؤولي اللجان الحسبية والاجتماعية. وهكذا الأمر بالنسبة للوكلاء في البلدان والمدن الأخرى؛ فهم يمارسون الشؤون نفسها غالباً، كل في حدود البلد الذي يقيم فيه.
هذه الأمور تنظيمية تدبيرية متغيرة، ولها علاقة بالزمان والمكان؛ فكلما تعقّدت الحياة وتطورّت، تكون هناك أمور تنظيمية أكثر تطوراً وتعقيداً، وليس بالضروة أن يكون لهذه النظم أصول تشريعية، لأنها شأن إداري تنظيمي، ولايتعارض مع الأصول التشريعية. مثلاً؛ المرجعية النجفية لجأت إلى تقسيم العالم إلى قارّات أو إلى مناطق جغرافية، يكون على رأس كل منطقة جغرافية كبيرة وكيل عام مطلق، هذا الوكيل العام المطلق يتصل به مجموعة من الوكلاء الأقل صلاحية في الدول الأخرى، ويشرف كل وكيل على مجموعة من الوكلاء في المدن، وصولاً الى الوكلاء في القرى والأرياف. وهذه الشبكة متماسكة ومتعاضدة، ولا يقتصر عملها على الجانب الديني والفتوائي كما ذكرنا، بل يتسع حتى الى الجانب السياسي وتنظيم العلاقة بسلطات الدولة، وبالتالي فهم هيكلية إدارية عالمية متماسكة، ترتبط بالمركز، سواء عبر مناطق جغرافية أوسع أو من خلال اتصال بالنجف أو بقم مباشرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الدراسة مستخرجة من أجوبة المقابلة التي أجراها معي الإعلامي سعدون ضمد في قناة العراقية.

 

أحدث المقالات