كان من اهم أولويات التغيير الذي حدث في ابريل عام ٢٠٠٣ ، والذي أزاح الديكتاتورية الجاثمة على صدر العراق ، هو الخلاص من حزب البعث وأزلامه المتسلطين على زمام الامور في العراق ، وهو ما اتفقت عليه اركان المعارضة حينذاك في مؤتمري لندن وصلاح الدين تحت مسمى اجتثاث البعث والذي كان محل اجماع واتفاق من قبل جميع الأطراف المشاركة في إسقاط نظام البعث واستلام السلطة فيما بعد، وقد حدث ذلك فعلا حيث كان قرار حل حزب البعث في السابع عشر من أيار من عام ٢٠٠٣ ، واعتباره حزباً محظورا في البلاد والذي اصدرته سلطة قوات التحالف وبدفع وإلحاح من قبل القوى السياسية العراقية المشاركة في التغيير ، اذ كان هذا القرار يمثل اهم مظهر من مظاهر التغيير المنشود ..
وما ان تشكل مجلس الحكم العراقي كسلطة عراقية وطنية مثلت جميع اطياف الشعب العراقي، انبثقت أولى خطوات تشكيل ( الهيأة الوطنية العليا لاجتثاث البعث) اذ كان أول محاضر الاجتماعات التي اقرّت تأسيس تلك الهيأة في اغسطس ٢٠٠٣ ، وفي مطلع العام ٢٠٠٤ ، أعلن رسمياً عن تأسيس احدى اهم مؤسسات العدالة الانتقالية في العراق برئاسة المرحوم الدكتور احمد الچلبي وبمشاركة وتمثيل عدد من الأحزاب العراقية كحزب الدعوة الاسلامية والحزبين الكرديين والمجلس الاعلى الاسلامي في العراق..
لقد أخذت الهيأة الوليدة على عاتقها العمل على تخليص المجتمع العراقي من كل اثار البعث وثقافته وافكاره بالطرق القانونية وفقا لما رُسم لها في نظامها الداخلي الذي نص على مكافحة البعث فكراً وثقافةً ووجوداً والعمل على ازالته نهائيا ، ولم تدخر الهيأة في ذلك جهدا ، وقدمت في هذا السبيل الشهداء وواجهت صنوف التهديدات والمعوقات ومع ذلك ، كان الإيمان الراسخ أساس عمل تلك المؤسسة وبُناتها الاوائل…
تكلل عمل الهيأة الوطنية العليا لاجتثاث البعث بالنجاح الحقيقي عندما صوّت مجلس النواب العراقي في عام ٢٠٠٨ على قانونها المسمى ( قانون المساءلة والعدالة رقم ١٠ لسنة ٢٠٠٨) والذي نقل هذه المؤسسة – وهذا الذي قلّ ما يُلتفت اليه – من واقعها الانتقالي المؤقت الى واقع التشريع القانوني والدستوري الذي منحه إياها مجلس النواب العراقي بتصويته على قانونها ومصادقة رئاسة الجمهورية عليه ، فالمساءلة والعدالة في العراق ليست مؤسسة مؤقتة كما يظن البعض ممن نراهم يظهرون على شاشات التلفاز وفي حقيقة الامر فان اغلب من تحدث في وسائل الاعلام عن موضوعة المساءلة والعدالة لم يطلعوا بشكل دقيق ومفصل على قانونها وهذا هو السبب الأساس الذي أوقعهم بهذه الشبهة -اعني كونها مؤقتة-..
ان من يطالع بعض فقرات قانون المساءلة والعدالة رقم ١٠ لسنة ٢٠٠٨ يجد بوضوح لا لبس فيه ، انه لم تُذكر فيه كلمة(( الانتقالية )) على الإطلاق وإنما صيغ هذا القانون على نحو من الديمومة والاستمرارية ، كونه مستل من مواد الدستور العراقي ، حيث جاء في المادة الثالثة من قانون الهيأة في الفقرة (اولا) منها:
((منع عودة حزب البعث فكراً وإدارة وسياسة وممارسة تحت اي مسمى الى السلطة والحياة العامة في العراق.))
وجاء ايضا في نفس المادة في الفقرة (سادساً )منها
((خدمة الذاكرة العراقية من خلال توثيق الجرائم والممارسات غير المشروعة لعناصر حزب البعث واجهزته القمعية وتوفير قاعدة بيانات (( متاحة)) عن العناصر المذكورة لتحصين الأجيال القادمة من السقوط في براثن الظلم والطغيان والاضطهاد .))
كما ورد في نص قانون المساءلة والعدالة في المادة الرابعة منه(( مهام الهيأة))في الفقرة (خامسا/ ج) منها:
((المساهمة في تطوير البرامج الاجتماعية التثقيفية التي تؤكد على التعددية السياسية، والتسامح ، والمساواة ، وحقوق الانسان ، وتشجب في الوقت نفسه الجرائم التي ارتكبها النظام البائد وثقافة الحزب الواحد والتهميش والإقصاء .))
مما تقدم من نصوص قانونية يتضح جليّاً ان المهام المناطة بهيأة المساءلة والعدالة غير منحصرة بشمول من انتمى الى حزب البعث المنحل بإجراءاتها فقط بل الامر اشمل من ذلك بكثير ولا أظنني اُجانبُ الحقيقة اذا ماقلتُ ان الهيأة لازالت في بداية الطريق الذي رسمه لها القانون ، وأمامها الكثير في إنجاز انبل مهمة اضطلعت بها مؤسسة من مؤسسات الدولة العراقية بعد عام ٢٠٠٣ ولحد الان..
ولايفوتني هنا ان اذكر ان وسائل التواصل الاجتماعي بتنوعها وقربها من المتلقي بالرغم من انها قد تكون ذات فائدة ملموسة الا انها في حقيقة الامر زادت في مهمة الهيأة تعقيداً وصعوبة، بلحاظ تنامي الأفكار والتيارات الخادعة التي تحاول تصوير فترة البعث المظلمة على انها( زمن الخير ) و( الزمن الجميل ) وأيام ( القوة او الهيبة ) ومحاولة التضليل المستمر لأجيالنا الشابة والفتية التي لم تذق مرارة المحن والمعاناة التي تجرع مرارتها العراقيون في ظل حقبة البعث السوداء وهذا معنى عبارة (( تحصين الأجيال من السقوط في براثن الظلم والطغيان والاضطهاد)) اذ لازالت محاولات العودة بنا الى الوراء وجرّنا الى مستنقع الديكتاتورية محمومة ومتزايدة ، فيجب الحذر والانتباه لذلك..
( فأن صاحب الحرب الإرِق، ومن نام لم يُنم عنه)..