23 ديسمبر، 2024 5:31 ص

الابراهيمية مشروع استعماري امريكي اسرائيلي بابوي بالغ الخطورة والابعاد والهرولة مستمرة

الابراهيمية مشروع استعماري امريكي اسرائيلي بابوي بالغ الخطورة والابعاد والهرولة مستمرة

الإبراهيمية مصطلح غامض فضفاض ذو طابع ديني، كثُر استخدامه في السنوات الأخيرة، حيث تم توظيفه لتنفيذ رؤى واستراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر دولة في عالم اليوم، في منطقة الشرق الأوسط. فقد أعلنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبصورة مستمرة أن من أهم أولويات سياستها الخارجية، المحافظة على أمن حليفتها إسرائيل وضمان تفوقها في فضائها الإقليمي. حيث جاء الحديث عن الإبراهيمية كدعوة لنبذ الخلافات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، والبحث عن المشتركات من أجل تجسيد قيم الإخوة والتسامح والتعايش في المنطقة، بهدف إنهاء حالة الصراع العربي -الإسرائيلي المستمرة منذ أكثر من سبعين عامًا، ومن ثم تحقيق السلام الشامل. هنا، يظهر هدف الدراسة، وهو محاولة الإجابة عن التساؤل التالي: هل مثلت الدعوة (الإبراهيمية) وصفة ناجعة لتعايش إسرائيل ككيان غريب في محيطها الإقليمي أم وسيلة جديدة للسيطرة والتحكم بدول وشعوب ومقدرات المنطقة؟

ربما لم يبحث الكثير من أبناء الأمة عن مشروع الإبراهيمية أو المشترك الإبراهيمي الذي يرتبط جغرافيا وديمغرافيا وسياسيا واقتصاديا بالمشرق العربي امتدادا إلى تركيا وإيران. والتجارب السابقة لنا كأمة عربية مع الاستعمار الغربي كانت كافية لتقديم أحكام مسبقة لكل ما يقدم من مشاريع في أروقة القرار السياسي لدى هذه الدول منذ الحملات الصليبية، مرورا بفترة التداعي على المنطقة بعد النهضة الأوروبية والتحكم بطرق الملاحة الدولية، وصولا إلى مرحلة الاستعمار، وانتهاء بالاحتلال الإسرائيلي، وما يسوَّق بين فترة وأخرى من مشاريع تخدم هذا الاحتلال الذي يتحكم بمجريات السياسة الدولية، وتوظف المشاريع في الشرق الأوسط لصالحه، وكلها مشاريع تتسق مع بعضها البعض في إطار استعماري واحد، منها مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومشروع صفقة القرن، ومشروع الضم الذي يتلخص بضم مناطق شاسعة من الضفة الغربية ومناطق غور الأردن لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأخيرا وليس جديدا مشروع المشترك الإبراهيمي الذي يبدو في ظاهره البحث عن المشتركات والقيم الإنسانية الجميلة لما يسمى بالإبراهيمية، وإسقاطها على الواقع السياسي والديني في منطقة المسار الذي سلكه سيدنا إبراهيم عليه السلام في رحلته من حدود تركيا وصولا إلى مكة بما فيها مصر وإيران، وقد يتوسع المشروع وفق ما قدم من دراسات ليشمل إفريقيا وبعض الدول الأخرى ليغطِّيها هذا المشروع الاستعماري الزاحف على المدى البعيد لنشر الديانة الإبراهيمية المستحدثة أو المشترك الإبراهيمي الذي يحاول الجمع بين سكَّان هذه المناطق في دائرة سياسية واحدة وفقا للقيم والمشتركات الإنسانية التي تجمعهم بسيدنا إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام، ونشرا للتسامح والقيم الإيجابية الروحية، واختيار ما يناسب من مشتركات في الديانات السماوية الثلاث التي تغطِّي هذه المساحة الجغرافية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، واليهودية هنا لا تعترف بما جاء بعدها من ديانات رغم اعتراف الأديان الأخرى بها .

السياق أعلاه استعرض وصف الإبراهيمية من زاوية المؤامرة، وهذا هو الواقع المنظور الذي قدمته لنا التجربة الغربية في المنطقة، وللحديث بشكل أكثر تفصيلا عن مشروع المشترك الإبراهيمي الذي جاء وفقا لدراسات قامت بها لجنة الدراسات الإبراهيمية في جامعة هارفرد كبرى الجامعات العالمية والتي ترتبط مع دوائر القرار العالمي وفقا لدراسة قدمتها الدكتورة هبة جمال الدين حول الإبراهيمية كدين جديد يعيد رسم الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، كما أن هناك عددا من المفكرين والسياسيين والدعاة الذين تطرقوا لهذا المشروع، وكل ما تم تقديمه من دراسات وأبحاث ومقالات قدم من زاوية التآمر الاستعمارية، وهو ليس بجديد في العلاقة بين الشرق العربي الإسلامي والغرب على العموم، واتفاقية سايكس ـ بيكو ووعد بلفور وسان ريمو التي نتذكرها في مئويتها، لا شك أنها كافية للتحذير من هذه المشاريع حفاظا على هذه الجغرافيا التي ما برحت منذ قرون تواجه هذه المخططات وحفاظا على مستقبل الأجيال القادمة، وتقديم التحذيرات مما يسوَّق لنا في مطابخ السياسة الدولية، وبالتالي يدرك القائمون على هذه المشاريع حساسية تقديم أي مشروع في إطار سياسي وارتياب أبناء الأمة العربية بالذات منه، بالإشارة إلى الخلفية التاريخية السابقة المليئة بالمؤامرات، لذلك تم تقديم هذا المشروع في إطار مختلف يقوم على المشترك الإبراهيمي نظرا لما يربط أبناء المنطقة عموما بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وانتقاء القيم السلوكية الإنسانية الجميلة لتقديمها كعرض مغرٍ في سبيل تسويق هذا المشروع أو المعتقد الإبراهيمي، كما يحلو توصيفه أحيانا. علما أنه لا يوجد على الإطلاق دين يسمى الإبراهيمية، ولا يمكن جمع هذه الأديان في إطار واحد عدا فكرة الوحدانية لله، وبعض هذه الأديان لا تتفق حول ذلك في بعض العقائد المحرفة .

واستكمالا لما سبق حول بداية تقديم مشروع الإبراهيمية والتي سبق أن ظهرت في الأفق السياسي عام ١٩٩٠م لحل النزاع العربي الإسرائيلي، وبدأت تتشكل فكرتها في أروقة السياسة الدولية، من خلال عدد من المؤسسات البحثية على رأسها لجنة الإبراهيمية التي قدمت في جامعة هارفرد كبرى الجامعات العالمية والمرتبطة مع مراكز القرار السياسي في العالم كالخارجية الأميركية والبنك وصندوق النقد الدوليين، إضافة إلى عدد من المؤسسات العالمية كمعهد الحرب والسلام وجامعة فلوريدا وغيرها لتقديم الفكرة بكل تفاصيلها خدمة للمشروع الاستعماري في المنطقة. وتقوم الفكرة على سيادة المشترك الإبراهيمي على المنطقة الجغرافية المذكورة أعلاه من خلال انتقاء كل المشتركات وتوظيفها في كتاب واحد تضفى عليه قدسية خاصة، بحيث يتم تجاوز الحدود السياسية، وتجاوز النظم السياسية، وتكون الأولوية فيه للمعتقد الإبراهيمي الجديد، مع استبعاد كل الجوانب السلبية التي تحض على القتال والعنف، وهنا تبدو جمالية الصورة للمشترك الإبراهيمي، ولكن في النهاية لا يعترف أو بالأحرى يتجاوز التشريعات التي وردت في الديانات الثلاث وتثبيت المشترك الإبراهيمي ككتاب وديانة جديدة مقدسة تلغي ما سبق، وتخفي وراءها مشروعا استعماريا خطيرا يطبخ على نار هادئة لمحاولة تمريره في المستقبل .

تمت الإشارة لفظيا (فقط) في عدد من المبادرات السياسية بالمنطقة مؤخرا لإضفاء مع هذا المشروع صفة معينة، وبدأ الحديث عنها خصوصا ما يتعلق بمشاريع التطبيع التي نادت مؤخرا بالمشترك الإبراهيمي، وقد جاز تسميتها في بعض الاتفاقات الأخيرة باتفاق إبراهيم الذي يراد الإشارة إليه بجمع الديانات الثلاث في إطار السلام والتعايش والتسامح والقيم الإنسانية، مع استبعاد بعض الجوانب السلبية التي شوهت العلاقة مثل الصراعات وإنهاء لهذه الإشكالات لا بد من العودة للديانة الإبراهيمية الجامعة التي تجمع سكان هذه الأرض وتمرير هذه الفكرة؛ لكي تكون الأرض والموارد مشتركة لا تحمل أي صفة سياسية قومية أو وطنية، وبالتالي يحق لجميع قاطنيها الاستفادة منها وفقا لهذه الخريطة السياسية الجديدة، مما يعيد للأذهان مشروع “إسرائيل” الكبرى التي تتفق تماما مع هذه الخريطة السياسية من النيل إلى الفرات، وتم إشراك تركيا كواجهة إسلامية يتم تسويقها لقبول المشروع، إضافة إلى إيران لوجود مساحة كبيرة من الثروة النفطية والغازية بها، وبالتالي يكتمل المشروع وفق أجندته السياسية للسيطرة على المنطقة من قبل القوة الأكثر نفوذا وهي “إسرائيل” .

إن المتتبع والقارئ العربي قد لا يستغرب مثل هذه المشاريع ومدى حرص دوائر القرار الدولية على تنفيذها، بل والمثابرة واللهاث الكبير خلفها لإتمامها. وقد تحدث كوشنير في مقابلة سابقة مع محطة سكاي نيوز في الـ٢٨ من فبراير ٢٠١٩م عن الإبراهيمية بشكل مقتضب، وهناك العديد من السياسيين الذين أشاروا للفكرة في معرض حديثهم خلال مناسبات سابقة مثل هيلاري كلينتون التي عملت منذ عام ٢٠١٣م على تسويق هذه الفكرة والرئيس باراك أوباما وعدد من أقطاب السياسة الدولية في العالم مثل توني بلير، وما زالت تصدَّر لنا حتى اليوم بثوبها الجميل، وقد وجدت بعض التعاطي الرسمي على الأرض العربية من خلال بعض الأعمال التي أقيمت من أجلها كالمعبد الإبراهيمي، ومحاولة حذف بعض الآيات والأحاديث من المناهج الدينية التي قد تفسر بشكل خاطئ مما يترك في ذهنية الأبناء مشتركات سلبية لا يراد لها الظهور حتى وإن كان الإلغاء على حساب القرآن والسنة المحمدية وذلك توازيا مع هذه المشاريع .

خلال الأسبوع المنصرم أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين بيانا تحذيريا استباقيا للتحذير من خطورة هذا المشروع على مستقبل الأمة، هذا المشروع الذي يراد له الظهور في السنوات القادمة لتسويق وتحقيق أجندة الغرب في المنطقة، والمساعدة على تحديد خريطة جديدة للمنطقة تتسيدها إسرائيل بإلغاء الحدود السياسية الحالية، وذلك خلافا لما كان الحديث حوله من التزام دولي بحل الدولتين في الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧م، وتأكيد هوية القدس كعاصمة لفلسطين، وحق العودة وغيرها من القضايا التي استغرقت أكثر من خمسة عقود منذ ٦٧م حتى اليوم لإنهائها، لذلك تنتقل بنا هذه المشاريع من فكرة إلى أخرى أخطر منها، وعلينا ككتَّاب وباحثين الإشارة إلى هذه المشاريع والمخططات وكشفها، وقد أحسن بعض الدعاة والسياسيين والمفكرين العرب التركيز على مشروع المشترك الإبراهيمي وما يسمى الدبلوماسية الناعمة والقيم الروحية، وكلها مفردات براقة تقود إلى مشاريع استعمارية تعنى بحياة الأجيال القادمة، وتهدد المستقبل الديني والسياسي والاقتصادي والديموغرافي والهوية الوطنية والقومية لأبناء الأمة العربية عندما يحل بدلا عنها المشترك الإبراهيمي بمعتقداته المستحدثة لتسود الأرض والجغرافيا العربية وفقا لهذا المشروع، ويستلم زمام القيادة والإدارة كيان الاحتلال بكونه الأقوى في المنطقة، وهكذا هي مشاريع الصهيونية العالمية تصدر للمنطقة بكل وضوح ودون مواربة مستغلة نفوذ القوى الكبرى في المنطقة وضعف الأنظمة السياسية لتمرير مشاريعها الاستعمارية.

وختاما نؤكد على أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما ذكر، وأنها قادرة على مجابهة أي مشروع استعماري جديد كما سبق لها أن وقفت في وجه المشاريع والصفقات الأخيرة منذ الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير في بداية الألفية إلى مشروع صفقة القرن ومشروع الضم في الفترة الأخيرة، وكلها مشاريع تتسق مع مشروع “إسرائيل” الكبرى، ولكن هذه المجابهة لا تعني توقف هذه المشاريع، بل تكرار مساعيها الدائمة حسب المعطيات الزمانية والمكانية والظرفية لتمرير هذه المشاريع ولكنها تصطدم بملايين البشر من أبناء الأمة في رفض هذه المشاريع وكشفها ومجابهتها بقوة، وكما فشل كيان الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود الماضية الأخيرة في تحقيق انتصارات على الأرض بفضل قوة المقاومة واستنساخها مع الزمن، فإنه مهما تكررت المحاولات بأي شكل من الأشكال في تنفيذ أجندته سيفشل، والمشاريع التي تم تسويقها منذ بداية الألفية رغم تعدد أشكالها لم تجد طريقها إلى النجاح، ولن يتم الاعتراف بكيان الاحتلال طالما كان هناك احتلال لأراضٍ عربية واغتصابا للحقوق ومحاولة لتجاوز مسارات الحل النهائي، فعودة الحقوق كاملة هي وحدها التي تعيد السلام والأمن للمنطقة والعالم .

التاريخ يكتبه الأقوياء ليقرأه الضعفاء، والفاعل في الجملة الفعلية تراه على الدوام مرفوعاً والمفعول منصوباً كمرمى سهام، والناس إما يدٌ عليا أو سفلى تُبسط لجمع الفتات، وبمثله صح المعنى لقائله: من لم يكن لديه مشروع صار ضحية لمشاريع الآخرين، وهكذا نحن، نعيش منذ السقوط نكتفي بالإشارة إلى كيد الآخرين، نعد خطوات الخصم إلينا ولا نبرح مربع السكون.

ضمن إحدى غفواتنا الطويلة، لمع في الأفق مشروع صهيوني جديد، نردد عنوانه ونحن نتثاءب على نحو قرائتنا لخبر يروج لحفلة أوبرا. «الديانة الإبراهيمية» ذلك هو عنوان المشروع الأخطر في ألفيتنا السعيدة، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه ضياع الهوية والدين والأرض، القائم عليه الكيان الإسرائيلي والصهيونية المسيحية، التي تقود أمريكا، وحلفاؤها من الاتحاد الأوروبي، والمنظمات العالمية التي أنشئت من أجل تحقيق مصالح الأقوياء.

الدين الإبراهيمي الذي يراد للمنطقة، يتألف من القيم المشتركة لأصحاب الكتب السماوية الثلاثة من أبناء إبراهيم عليه السلام: اليهود والمسيحيين والمسلمين، ليصبح دينا عالميا قائما على معاني المحبة والتسامح والعدل والرحمة، تصبح له قدسيته التي تغطي على قدسية الكتب المنزلة، وأما المختلف فيه، فيتم تنحيته، سواء كان عقائد أو تصورات أو تشريعات أو معاملات، وذلك بإعادة تأويل النصوص وتكييفها مع متطلبات التوافق، ومن ثم ـ وفق هذه الرؤية – يصبح العالم محكوما بسياسة دينية واحدة، على أرضيتها تزول الخلافات وتذوب الفوارق وتُحل الصراعات. هذا المشروع رغم خطورته وذيوع اسمه، لا يجد اهتماما كافيا يليق به من قبل الساسة والباحثين والنخب الثقافية والدينية، إلا أنه انبرت لفضح ذلك المخطط وبيان أبعاده ومساراته، الدكتورة هبة جمال الدين، مدرسة العلوم السياسية في معهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، من خلال كتاب عنوانه: «الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد» وقد اعتمدتْ فيه على الوثائق والتقارير الغربية لعدم وجود مراجع عربية تخدم البحث، بما يعكس الإهمال البحثي المتفاقم في العالم العربي، بل الأدهى من ذلك أن هذا البحث خاضت غماره بسبب تناول أحد الباحثين له في أحد المؤتمرات بالثناء والإطراء، والمفاجأة أنها سألته عن المراجع التي اعتمد عليها، فأجابها بأنه ليس لديه مراجع بهذا الشأن، بمعنى أن الرجل ردد ما يقوله أرباب المشروع فحسب. والحق أن هذا العمل الذي قامت به الدكتورة هبة جمال، يعد أول ما كتب في هذه القضية، وغدا المرجع الأبرز لكل باحث يسعى لجمع أطراف الموضوع، أو على الأقل اعتباره منطلقا للبحث فيه.

المشروع روحي قيمي، أما مساراته فسياسية بامتياز، تمثل صورة جديدة للهيمنة الاستعمارية، ويراد منها تصفية القضية الفلسطينية

لم تكن مصادفة أن يطلق ترامب على اتفاقية التطبيع بين الإمارات والكيان الإسرائيلي ـ وتلتها الاتفاقية ذاتها بين البحرين والكيان – اسم «اتفاقية إبراهيم» رغم أن الأعراف السياسية جرت على أن تتم تسمية الاتفاقية السياسية باسم الدولة الوسيط، مثل اتفاقية كامب ديفيد أو جنيف… لكن تسمية ترامب أظهرت أنها اتفاقيات ذات صبغة دينية، فإن التطبيع بجميع أشكاله هو أبرز مفردات مشروع الديانة الإبراهيمية، ولم تقصر حكومة الإمارات في هذا الشأن، حيث أعلن أحد مسؤوليها البارزين في الشهر الذي أعقب الاتفاق، اعتزام بلاده افتتاح معبد الديانات الإبراهيمية الثلاثة في أبو ظبي. مشروع الديانة الإبراهيمية في ظاهره يُطرح ضمن مفهوم الدبلوماسية الروحية لفض النزاعات ذات الخلفية الدينية، وتحظى مراكز الدبلوماسية الروحية، بتمويل من قبل أمريكا ودول أوروبا ومنظمات دولية ضخمة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تقدم هذه المراكز نفسها في قوالب تنموية وطبية وإغاثية، ويمتد أثرها إلى المناهج التعليمية، خاصة في مدارس الإنترناشونال الرافضة لتدريس مادة الدين، ليحل محلها كتاب للقيم، ونوقشت هذه الفكرة بالفعل في بعض من الدول العربية لتعميمها في المدارس المحلية. يصدمنا مشروع الديانة الإبراهيمية بأصل مهم لدى القائمين عليه، وهو إعطاء الشعوب الأصلية الحق على الخريطة السياسية، بما يعني قبول الادعاءات الإسرائيلية بالحق التاريخي في دول عربية، والمطالبة بتعويضات من الدول العربية التي كانت تضم اليهود قبل هجرتهم منها، وهو ما يفتح المجال كذلك لتقديم خرائط إسرائيلية تبحث عن حقوق لها في الجزيرة العربية. يعتمد المشروع على عدة أدوات، منها القيادات الروحية التي تحظى بأتباع كثر، وفضّلت المراكز البحثية الأمريكية أن تكون قيادات صوفية، لقربها من الصوفية العالمية التي تؤمن بالمسار المفتوح للتدين، بالمشاركة مع دبلوماسيين وسياسيين، يضعون المشتركات التي يتفق عليها رجال الدين من الأطراف الثلاثة على الخريطة السياسية، لتكون صياغتها هي أساس الحكم في العالم.

توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، له جمعيتان للشرق الأوسط وافريقيا، للاهتمام بدعم الحوار الإبراهيمي، أي تعزيز فكرة الديانة الإبراهيمية، وتناول أمر آخر يعد تطبيقا وتنفيذا للمشروع، وهو الحوار الشعائري، أي نقل المشترك بين الأديان إلى شكل شعائر مشتركة. مدخل المشروع روحي قيمي، وأما مساراته فهي سياسية بامتياز، تمثل صورة جديدة للهيمنة الاستعمارية، ويراد منها تصفية القضية الفلسطينية التي هي أم القضايا، عن طريق تغييب التناقض الوجودي بين الحق الفلسطيني والمشروع الاستيطاني الصهيوني، فلا تبقى هوية ولا أرض ولا حدود.

الآن وبعد مرور ثلاثة عقود تقريبا تراجعت أمريكا عن فكرة فرض النموذج الخاص بها من خلال أطروحة فوكوياما المعروفة بـ»نهاية التاريخ» واستبدلته بفكرة أن فرض ذلك النموذج الأمريكي لن يتأتى إلا من خلال انصهار الأديان. لقد انبعثت من داخل أروقة جامعة هارفرد الأمريكية، بروتستانتينية النشأة والمسار، أبحاث لدعم فكرة المسار الإبراهيمي الذي يتتبع رحلة سيدنا إبراهيم في المعتقدات الثلاثة، على بعض الاختلاف بينها، التي تبدأ من تركيا وتنتهي في مكة، وتدويل هذه الأماكن بحيث لا تصبح ملكا لساكنيها، والخرائط الخاصة بذلك المسار تتفق مع خريطة أرض إسرائيل الكبرى، ولعل هذا ما عناه كوشنر عندما تحدث عن أن هدف صفقة القرن هو إزالة الحدود السياسية.

في المعتقد الإسلامي يؤمن المسلمون بأنهم على ملة إبراهيم كما جاء في القرآن الكريم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» بل أمروا أمراً باتباع ملة إبراهيم «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» فملة محمد صلى الله عليه وسلم هي ملة إبراهيم، وهي الحنيفية السمحة، وعلى ذلك فالقضية منتهية لدى المسلمين، فليسوا بحاجة لاستحداث دين جديد يدخلونه بموجبه في ملة الإبراهيمية. أما اليهود والمسيحيون، فكل من يتمسك منهم بمعتقده على وجه الديانة لا السياسة، فسوف يرفض حتما هذه المشروع الذي يسلبه ما عقد قلبه عليه، فلن يقبل به سوى أصحاب الأطماع الاستعمارية، ولذا يتبناه من اليهود والمسيحيين فقط الصهاينة (والفرق حتما واضح) وكذلك يقبله من المسلمين فقط المتصهينون وأذناب الصهاينة.

أقول إننا كمسلمين نعيش تحت ظلال ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، ولا نحتاج من أجل إقرار السلام العالمي والسلم المجتمعي لأن نقبل باستحداث اختراع صهيوني يختزل هويتنا، وليست المشكلة في الإسلام، إنما في ثلة المنحرفين المنتسبين للإسلام المارقين عن تعاليمه، والمشكلة كذلك في الخصوم الذين يصورون الإسلام على أنه دين تخريب وقتل، مع أن الحرب العالمية التي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، كانت بين دول العالم المسيحي. مشروع الدين الإبراهيمي أكبر بكثير من أن يحيط به مقال، فقط أردت الإشارة إلى مدى خطورته، لتكون دعوة لتناوله بجدية وتوسع من قبل الباحثين والمثقفين والنخب السياسية والفكرية والدينية، والطرْق على هذه القضية لتحصين وعي الجماهير، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.

وللإجابة عن التساؤلات السابقة ستقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام، على النحو التالي: (1) تأصيل مصطلح الإبراهيمية؛ (2) خلفية تسمية اتفاق التطبيع الإسرائيلي الاماراتي البحريني بــــ (إبراهيم)، ودلالتها؛ (3) مظاهر وأهداف الدعوة الإبراهيمية.

أولًا: تأصيل مصطلح الإبراهيمية

عندما يشار إلى الديانات الإبراهيمية فيُفهم بأن المقصود عادة هي الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام. وهناك في الواقع المزيد من الديانات الإبراهيمية أيضًا، مثل العقيدة البهائية واليزيدية والدرزية والسامرية، لكن قلة عدد أتباع هذه العقائد، مقابل كُثر أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام، رجح كفة الأولى. ويسلط مصطلح “إبراهيم” الضوء على الدور المهم للغاية لشخصية النبي إبراهيم عليه السلام كشخصية محورية في كل من هذه الأديان، وينظر اليهود والمسيحيون والمسلمون إلى نصوصهم المقدسة لمعرفة تاريخ النبي إبراهيم عليه السلام وكيف تم تفسيره عبر العصور].

ففي الديانة اليهودية، يرجع اليهود ديانتهم إلى عصر النبي إبراهيم وإسحق ويعقوب -عليهم الصلاة والسلام- والذي ترجع حوادثه إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، وقد يطلق على هذه الفترة في الكتب اليهودية اسم عصر الآباء، وقد تشمل تسمية الآباء غيرهم من الأنبياء ممن جاؤوا بعدهم حتى تشمل النبي موسى عليه السلام. ولكن الثابت يهوديًا أن النبي إبراهيم هو المبدأ، وتبدأ فترة الآباء بظهوره كأول شخص عبراني، ويعد بعض الباحثين هجرة إبراهيم مع قومه من منطقة (أور) في العراق إلى فلسطين أنها كانت الهجرة الأولى للقبائل اليهودية].

وفي المسيحية فإن الكتاب المقدس العبري هو العهد القديم، وهو مقدمة العهد الجديد الذي يروي ولادة يسوع المسيح وخدمته وموته وقيامته إضافة إلى سيرة ووعظ أتباع يسوع الأوائل. وبالنسبة إلى الفهم المسيحي لإبراهيم، فإن رسائل القديس بولس لها أهمية خاصة، الذي قال: ” لطالما كان إبراهيم أبًا لكل من يؤمن”].

أما في الإسلام فان إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فلم يبعث نبيًا من بعده إلا من نسله، وقد كان له ولدان اصطفاهما الله بالنبوة وهما إسماعيل جد العرب ومن نسله بعث الله النبي محمد ﷺ، أما الآخر فهو إسحاق وقد رزقه الله نبيًا اسمه يعقوب ويلقب بإسرائيل وإليه ينسب بنو إسرائيل مع أنبيائهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى أبوة إبراهيم للأنبياء بقوله عن إبراهيم: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٨٤﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿٨٥﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 84- 86). كما أمر الله تعالى الرسول محمد ﷺ أن يتبع ملة إبراهيم فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل: 123)[].

كما ورد عن النبي محمد ﷺ قوله إذا أصبح وإذا أمسى: “أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد ﷺ، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين”. مما يبرهن على مكانة النبي إبراهيم عليه السلام في الديانة الإسلامية، سواء بنص آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

ويشار إلى مصطلح الإيمان الإبراهيمي أو الديانات الإبراهيمية بغرض تجميع القادة الدينيين والسياسيين معًا لتقريب التراث المشترك والتشابهات في علم اللاهوت من أجل تحقيق سلام ديني عالمي قائم على الضمير الجمعي. والبعض يصف مصطلح الديانة الإبراهيمية بمصطلح التراث اليهودي المسيحي، باعتبار أنه يستخدم لوصف التقاليد الأخلاقية والديانة الغربية. على اعتبار أن نحو 56 بالمئة من سكان العالم إبراهيميون].

لكن استثمار رمزية النبي إبراهيم عليه السلام لدى المعاصرين هو قد بدأ في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن مصطلح “الديانات الإبراهيمية” هو مفهوم حديث، حيث نقرأ منذ عام 1811 عن الميثاق الإبراهيمي (The Abrahamic Covenant) الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب. وذلك قبل أن يتحول اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي لدى المؤرخين في الخمسينيات من القرن العشرين، وكان أول من رسّخه المستشرق الفرنسي الكبير “لويس ماسينيون” في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان: “الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كل المؤمنين”، ثم تحولت “الديانات الإبراهيمية” إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها].

وبداية قصة الدين الإبراهيمي الجديد كانت في تسعينيات القرن العشرين، حيث قامت الإدارة الأمريكية بإنشاء “برنامج أبحاث دراسات الحرب والسلام”، وبدأت في اختبار المفهوم الإبراهيمي عام 2000، من طريق جامعة هارفارد، حيث قامت الجامعة بإرسال فريق من الباحثين الأمريكيين المتخصصين لمنطقة الشرق الأوسط بما فيها البلدان العربية كافة وتركيا وإيران وإسرائيل، محاولين اختبار فرضية وضع نبي الله إبراهيم عليه السلام كعنصر تتجمع حوله هذه الدول المختلفة، من أجل وضع دين جديد يساعد على حل الصراع العربي- الإسرائيلي من خلال هذا التجمع حول الدين الإبراهيمي الجديد. وقد توصل هؤلاء الباحثون إلى أن الثقافة الدينية والرأي العام في المنطقة سواء كان يهوديًا أو مسيحيًا أو مسلمًا يحمل مكانة كبيرة لنبي الله إبراهيم عليه السلام].

كما أنه، وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، قد ثارت نقاشات جدية موسعة أكثر حول إمكان جمع شتات المنتمين إلى الأديان الكبرى الثلاثة تحت راية الديانات الإبراهيمية بحثًا عن أواصر السلام المشتركة روحيًا فيما بينهم بوصفهم ورثة إبراهيم وعليهم التعاون التأويلي على فهم ما وقع لهم أو فيما بينهم].

تشير هبة جمال الدين مدرّسة العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، أيضًا، بأن الديانات الإبراهيمية مصطلح تم إطلاقه مطلع الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وطرحه جاء ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية”، لتمثل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد.

وفي هذا الإطار، يرى جيمس روزينوه أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وكطرح بديل لنظرية “هنتنغتون” حول صدام الحضارات، ونظرية “فوكوياما” حول نهاية التاريخ، بل ليعكس نهجًا جديدًا داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة، كالتسامح العالمي، والأخوة الإنسانية، والحب، والوئام، كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل].

باختصار، الإبراهيمية بوتقة لصهر الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام واليهودية والمسيحية، لينتج منها ديانة جديدة، يزعم دعاتها أن من خلالها سيعم السلام والأخوة الإنسانية والمشترك الديني، وذلك من خلال جمع نقاط الاشتراك بين الديانات الثلاث وتنحية النقاط المختلف فيها جانبًا. هذا، وبالطبع ستكون نقاط الالتقاء على الديانة اليهودية فقط، حيث إن المسلمين يعترفون بالديانات الثلاثة، بينما في الديانة المسيحية يعترفون باليهودية والمسيحية فقط، أما اليهود فلا يعترفون إلا باليهودية].

ويمكن اجمال العناصر الأساسية لمصطلح الديانات الإبراهيمية في الآتي]

– محورية النبي إبراهيم عليه السلام باعتبار أن ذكره يحمل القبول والقدسية والتقارب، ويمثل المشترك بين الأديان.

– ممثلين عن الديانات الإبراهيمية – الثلاث – من رجال دين وساسة ودبلوماسيين، سيتحاورون للوصول إلى وضع ميثاقٍ تكون له القدسية الدينية كبديل من المقدسات السماوية، يؤسس للمشترك الديني بين هذه الأديان وينحي الخلاف.

– الاعتماد على آلية دبلوماسية المسار الثاني، المفاوضات غير الرسمية (الدبلوماسية الروحية) كساحة لعمل وتعاون رجال الدين والساسة لمناقشة القضايا الحساسة خارج الأطر الرسمية، تمهيدًا لإعلانها لاحقًا حال الاتفاق عليها، وتمهيد الساحة للإعلان عنها رسميًا.

– إن القادة الروحيين هم من الأدوات المهمة لنشر هذا المفهوم على الأرض، وجذب المريدين والمؤمنين بالفكرة، ويتم اختيارهم بناء على معايير كثيرة، أهمها تمتعهم بالتأثير الفعلي داخل مجتمعاتهم، وتمتعهم بسمعة طيبة وعدد كبير من الأتباع.

– أُسر السلام، وهي جماعات قاعدية تنتشر في كافة الدول والمجتمعات في المنطقة التي تعاني نزاعات دينية قائمة، أو نزاعات كامنة غير واضحة على الأرض، بهدف حل الصراع والتقريب بين القيادات الإبراهيمية عبر ضمانة تطبيق الميثاق الإبراهيمي المشترك.

– الحوار الخدمي، وهو أداة لجذب المريدين والمؤيدين والداعمين من المجتمعات المحلية، حيث يتم نشر الأفكار والحوار بشأنها، من خلال تقديم خدمات تنموية على الأرض تكفل التخلص من الفقر العالمي عبر خلق دخل للأسر الفقيرة لتصبح من أصدقاء السلام العالمي.

– تُعد القيادات الصوفية هي الأكثر قربًا للتعامل مع الفكرة وتقريب وجهات النظر على الأرض، حيث لا يُنظر إلى الصوفية بوصفها مقصورة على الدين الإسلامي وحسب، ولكنها تمتد إلى باقي الديانات السماوية، بل وتشتمل على الملحدين أيضًا، كبوتقة روحية قادرة على خلق المشترك والجمع بين المريدين على الأرض.

– تشجيع البحث العلمي المستمر حول المشترك الديني وإعادة قراءة النصوص الدينية المقدسة لوضع الميثاق الإبراهيمي المقدس، ونشر الفكر وتحديثه، ورفع الوعي، وبناء الكوادر العلمية المتخصصة، ووضع خطط العمل التنفيذية لحل الصراعات.

– إن السلام العالمي مدخله الأساسي هو الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط بوصفها أساس استقرار العالم وفقًا لأنصار فكرة “الإبراهيمية”، فالشرق الأوسط هو نطاق التطبيق للمبادرة.

إن من أخطر التحديات الفكرية التي يواجهها المفكرون والمثقفون، فضلًا عن غيرهم من العامة، هي المصطلحات التي تحمل أكثر من وجه، ذلك أن بريق المصطلح واعتياده يخفي وراءه الوجه القبيح الذي يحمله، ومع كثرة استعماله تختلط الأوراق، وتمرر المشاريع الهدامة، ويغدو المعارض لذلك الوجه القبيح غريبًا بين الناس، وحينئذٍ تكون قد نجحت الفكرة. هذا هو حال مصطلح “الديانة الإبراهيمية” أو وحدة الأديان أو الديانة العالمية ونحوها من الألقاب التي ظهر استعمالها. ففي طياتها معانٍ حسنة مقبولة، كمثل التعايش، والسلام، ولكن استعمال تلك المعاني التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية في الجوهر، إنما هو – في الغالب – تمرير للمعاني الباطلة، وستار للحقيقة المرادة، التي تتمثل بأهداف مروجيها بتمزيق مكونات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وبالتالي تيسير السيطرة والتحكم بها وبشعوبها لصالح إسرائيل.

ثانيًا: خلفية تسمية اتفاق التطبيع الإسرائيلي الاماراتي البحريني بــــ (إبراهيم)، ودلالتها

تسمية اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل بهذا الاسم أثارت أسئلة كثيرة حول دلالات تلك التسمية وخلفياتها، إذ لا يمكن النظر إليها بعيدًا من جذورها وخلفياتها الدينية، التي تكشف بوضوح مدى توظيف السياسي للأبعاد الدينية والتاريخية ما يسهل عليه تمرير أجنداته السياسية تحت غطاء ديني وفق مراقبين[].

ففي الوقت الذي ترفع المدرسة الواقعية – الأشهر في ميدان العلاقات الدولية – شعارًا بوجوب خلو عالم السياسة من اعتبارات القيم المعيارية، كالدين، وبأن من المرجح أن يتم معالجة القضايا من منطلق تحليل وأولوية المصالح الوطنية، وكجزء من هذا النهج، وعلى حد تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت التي قالت: “سعى العديد من ممارسي السياسة الخارجية – بمن فيهم أنا – إلى فصل الدين عن العالم السياسي لتحرير المنطق من المعتقدات التي تفوق هذا الأخير” إلا أنه، في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما نشأت حركة من المواقف التوفيقية تعترف بإمكان التعاون الديني السياسي، بسبب إدراك دور الدين في حفز الأفراد وتشكيل وجهات نظرهم.

كما ظهرت تيارات أخرى ترى أن للدين دورًا في العلاقات الدولية كمتغير مستقل أو كمتغير تابع، فيكون مستقلًا عندما يؤثر في اتجاهات وسلوك معتنقيه لتبني مواقف سياسية معينة، فمنذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي ظهر تيار من المحللين والساسة ينظّر للدين كحاكم ومبرر ومفسر، وكمحرك أساسي في مجال العلاقات الدولية، مثل: أندرو روتر (Andrew J. Rotter) عضو مجتمع المؤرخين للسياسة الخارجية الأمريكية. ويظهر الدين كمتغير تابع حينما يستخدم في تبرير السلوك السياسي، أي يستثمر ويوظف لخدمة السياسة الخارجية. هذا، وقد ظهر على أجندة العلاقات الدولية مفهوم “حوار الأديان” أيضًا، وبخاصة بعد الحرب الباردة كمصطلح يشير إلى التفاعل والتواصل بين البشر بصرف النظر عن اختلاف تقاليدهم ومعتقداتهم الدينية، حيث يتم من خلاله تعزيز التفاهم بين الأديان المختلفة لزيادة قبول الآخر. وفي هذا السياق نُظم بعض المؤتمرات، ففي عام 2001، أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا بعنوان: “تجاوز الانقسام، وحوار الحضارات”، وتوصلت إلى دور حوار الأديان المهم في ترسيخ التعاون الإقليمي، وخلق مشترك بين الدول التي تختلف في سياساتها الوطنية التي تعلي من اعتبارات المصلحة الوطنية على ما سواها[].

وقد كان مفهوم “حوار الأديان” عبارة عن بوابة لتطوير مصطلح “دبلوماسية المسار الثاني” أو “الدبلوماسية الروحية” القائمة على تحويل حوار الأديان إلى خدمات يتم تقديمها بهدف بناء جسور تربط بين الشعوب، مثل: جهود مكافحة مرض الملاريا، والحملات الاغاثية. فلم يعد دور الأديان مجرد إدارة للصراع أو النزاع، وإنما فاعل على الأرض لخلق سلام ديني عالمي. ومن ثم، أن توظيف الدين في العمل السياسي ليس بالجديد، وربطه بالروح التي مصدرها الله تعالى بهدف تحقيق أهداف الدولة باستخدام لغة القيم الدينية والعقائد التي تمس القلوب، وذلك، من أجل ضمان قبول تلك الأهداف، بل ودعمها الداخلي.

لقد سعت وزارة الخارجية الأمريكية في عهد هيلاري كلينتون إلى مَنهجة تفاعلها مع القادة الروحيين عبر إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة الخارجية، من أجل ضمان فرصة التشاور والتعاون المتبادلين، حيث يقدم فريق العمل الذي أنشئ تحت إشراف الهيئة الاستشارية الفدرالية حول الحوار الاستراتيجي، والذي يضم نحو 100 من القادة الروحيين ومسؤولين في وزارة الخارجية، المشورة والنصح لوزير الخارجية. ثم قام وزير الخارجية جون كيري بتعيين شون كيسي وهو عضو في الميثودية المتحدة وأستاذ في الحلقات الدراسية اللاهوتية بجامعة ويسلي في واشنطن، ليدير مكتب وزارة الخارجية الأول للمبادرات الدينية، والمكرّس للشراكة مع المجتمعات الدينية العالمية والقادة الروحيين بشأن قضايا أولية مثل، التحولات في المنطقة العربية، والسلام في الشرق الأوسط، والتغيرات المناخية، وحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. وعند إطلاق المكتب الجديد في آب/أغسطس 2013، اعترف “كيري” بالأرض المشتركة للديانات الإبراهيمية[].

كما أشار السفير الأمريكي المتجول للحرية الدينية الدولية صمويل د. براونباك في معرض رده على استفسار حول سبب تفاؤله بأن الحركة العالمية للحرية الدينية قد انطلقت وتتوسع دون توقف، وذلك خلال المؤتمر الوزاري الافتراضي لعام 2020 لتعزيز حرية الدين أو المعتقد، الذي استضافته حكومة بولندا في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر. وذلك على هامش الاجتماع الوزاري، برعاية وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو لمنتدى وزراء تحالف الحرية الدينية أو المعتقد الدولي، والذي جمع أكثر من 50 دولة ومنظمة دولية وتضمن مناقشات حول قضايا الحرية الدينية الأكثر إلحاحًا في العالم. إلى أن السبب يرجع إلى أن هذه حركة تحظى بتأييد من كِلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، وقد أُنشئت بموجب قانون “فرانك وولف للحرية الدينية” وتجديده. لقد كان قانونًا مدعومًا من الحزبين، فقد وقعه الرئيس أوباما” عندما كان في منصبه، وما زال يحظى بتأييد كبير من الحزبين في كلا المجلسين. وأضاف بأن “هناك رغبة واضحة من جانب أعضاء المنتدى بتشجيع الحوار بين الأديان كوسيلة لبناء التفاهم، وكذلك للحد من العنف، حيث نرى بشكل خاص الكثير من العنف في الشرق الأوسط، ونبحث عن طرق لاحتوائه، وإشراك علماء الدين من الديانات الإبراهيمية ليوضحوا أن الدين لا يدعم استخدام العنف].

من البديهي والمتعارف عليه في حقل السياسة كعلم أو كممارسة عملية بأن عالم السياسة لا يقبل الفراغ أو العشوائية، وهذا ينسحب على أبسط الأنظمة السياسية وأعقدها، بمعنى، أن مراكز الفكر والبحث، أو مراكز صنع القرار السياسي الرسمي في أي من دول العالم لا تتخذ، سواء العالم الثالث أو النامي، أو عالم الغرب المتقدم، أي خطوة أو قرار بمحض المصادفة أو نتيجة رغبات وميول شخصية، فكل نظام له أولوياته ومؤسساته الوطنية التي من خلالها يمارس الفعل السياسي على الأرض.

وفي ضوء ما ذكر، يتضح بأن مسألة تغيير رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تسمية اتفاق التطبيع بين كل من إسرائيل من جهة والامارات والبحرين من جهة أخرى، من “اتفاق ترامب” إلى “اتفاق إبراهيم” ليست من قبيل المصادفة أو خوفًا من انتقادات الاعلام – حسب تعبيره –. بل إنها تمثل خطوة تم اتخاذها عن قصد، وبناءً على توجهات فكرية وسياسية مقررة منذ عقود، تعتمد بالأساس على توظيف الدين لخدمة السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفي الصراع العربي- الإسرائيلي بوجه خاص.

ولم يقتصر الأمر على الدعوات والمؤتمرات والتعميمات (تسمية اتفاق التطبيع اتفاق إبراهيم، والديانات الإبراهيمية، والأرض الإبراهيمية، ومسار إبراهيم، والبيت الإبراهيمي). بل تجاوزها إلى حدود الفعل أو التنفيذ على الأرض وفي أكثر من مجال، ومن أهم آليات هذا التنفيذ]:

– استغلال اسم سيدنا إبراهيم عليه السلام، باعتبار أن ذكره يحمل القبول والقدسية والتقارب، ويمثل المشترك بين الأديان، ومن هنا كانت التسمية الإبراهيمية.

– الجمع بين رجال الدين والسياسة (أصحاب القبول والتأثير في الشعوب) ليعملوا معًا لوضع المتفق عليه دينيًا على الأرض، وترجمته سياسيًا لحل الصراعات المتشابكة، ووضع خريطة جديدة لإعطاء “أصحاب الحق الأصلي” حقهم في الخريطة الجديدة.

– وضع ميثاق، كبديل من المقدسات السماوية، يحوي المشترك بين الأديان، ويكون له وحده القدسية، دون سائر الأديان والمقدسات.

– يتم تكوين مجموعات تنظيمية يطلق عليها “أسر السلام”، تنتشر بكل الدول والمجتمعات التي تعاني نزاعات دينية قائمة، ليتم حلها بتطبيق الميثاق الإبراهيمي المشترك.

– ترديد وترسيخ ألفاظ تتعود عليها الشعوب، ويتم إضفاء قدسية عليها، مثل: “الاتفاق الإبراهيمي – القدس المدينة الإبراهيمية – الميثاق الإبراهيمي – …” لتتعود عليها الشعوب وتصبح مسميات مقدسة عندهم، وبالتالي مع الوقت تجريم من يرفضها أو يعترض عليها.

– إيجاد شعائر تعبدية جديدة يجتمع عليها أصحاب الأديان الثلاثة.

– العمل على جذب المريدين من أفراد أو مؤسسات أو حتى دول وحل مشاكلهم المادية، وبخاصة في الدول الفقيرة، لضمان ولائهم للفكرة.

إن الدبلوماسية الروحية، التي تعَدّ مظلة الترويج لهذا المصطلح – الإبراهيمية -، قد نشطت منذ مطلع الألفية من خلال مراكز متخصصة، لمحو الفواصل بين الأديان، ودعوة لقيام الدين الإبراهيمي العالمي، بما يمهد الأرض عمليًا لاستيلاء إسرائيل على الأراضي المحتلة (العربية والفلسطينية). كما أن المخطط الذي تدعمه دول غربية لتصفية الصراع العربي- الإسرائيلي خطير ولا يمكن الاستخفاف به. حيث تذهب هبة جمال الدين للتأكيد أن المراكز الإبراهيمية تُعد لـ “كتاب مقدس” جديد مأخوذ من نصوص من الكتب السماوية، لكنها ليست محل خلاف بين أتباع الديانات الثلاث، موضحة أن الصراعين العربي – الإسرائيلي والسني – الشيعي، على قمة أجندات هذه المراكز، لأن الهدف النهائي هو تهويد مدينة القدس وتصفية القضية الفلسطينية وتمزيق الوطن العربي، والسيطرة والتحكم بالمنطقة ككل، وتمكين إسرائيل من السطو على المقدسات الإسلامية والمسيحية].

ويرمي مصطلح “السلام الإبراهيمي” بوجه صارخ إلى عرض العلاقة بين الوطن العربي وإسرائيل، دون أي رابط بتاريخ الصراع بين العرب والصهاينة، وتقديمها على أنها علاقة بين الأديان الثلاثة، التي تمثل أبوة النبي إبراهيم عليه السلام، مشكاتها الأساسية، دون أن تتأثر هذه العلاقة بالظروف والتطورات التي قادت إلى ولادة الكيان الصهيوني – إسرائيل – على أرض فلسطين].

باختصار، يندرج حرص الرئيس الأمريكي ترامب على نعت اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، والاتفاقات التي تبشر بإنجازها في القريب العاجل بـ “اتفاقات إبراهيم” في إطار إستراتيجية واضحة وخطيرة تهدف إلى محاولة فبركة رواية جديدة للصراع، واختلاق سردية له تقوم على إعادة تموضع العدو والحليف في شبكة العلاقات التي تحكم العلاقات الإقليمية في المنطقة ككل].