18 ديسمبر، 2024 11:23 م

تعرف السياسة بأنها فن الممكن، وإن قانون الحضور والغياب من فنون السياسة التي لايجيدها إلا ذو حظ وافر، حيث إن الشمس لايمكن تقدير أهميتها إلا عن طريق غيابها، وإن طول مدة الغيوم والأمطار تجعل الشوق أكثر لرؤية الشمس.
ففي عالم السياسة على المرء أن يعرف جيداً متى يكون حضوره مهماً وكذلك متى يكون غيابه علاج ناجع، وذلك تفادياً لمبدأ كل مازاد عن حده ينقلب ضده، فهنالك مواقف تتطلب الإنسحاب كما هنالك مواقف تتطلب الحضور، وإن كثيراً من الأحيان يصدر الطرد اللاشعوري من البعض نتيجة إحساسه برغبة شديدة لذلك جراء الشعور بالملل من شخص بذاته أو من وضع بعينه.
على الحليم أن يخلق القيمة لنفسه بالقدرة على الغياب والإنسحاب حينما تكون مكانة الشخص مكرسة في مجموعة ما، ومن الشواهد التاريخية ماذكره الكاتب “روبرت غرين” في أحد كتبه عن القاضي “ديوسيز” الذي اشتهر بحكمته وقدرته على حل النزاعات والقضايا الخلافية في القرن الثامن قبل الميلاد في أهل ميديا (إيران الشمالية الغربية في وقت لاحق) حيث قرر وهو في أوج سلطته أن يعتزل القضاء، وبعد جهد جهيد إستطاع أهل ميديا إقناعه بالعودة ولكن في هذه المرة حاكماً للبلاد وليس مجرد قاض ٍ، وبالفعل فقد حكم ثلاثة وخمسين عاماً وجعل من ميديا الإمبراطورية الفارسية فيما بعد، لأنه استشعر في وقت ما أن البلاد بحاجة إلى حاكم وليس إلى كرسي قضاء فحسب، ولأنه معروف بالحكمة قرر أن ينسحب ليخلق نتائج أكبر وأفضل ليس لمصلحته فقط بل لمصلحة بلاده المرتبطة بقيادته، لكن هذا المبدأ لاينطبق إلا عندما يكون الفرد قد رسخ حضوره بشكل ملفت وذكي، ويتطلب حسابات دقيقة من حيث التوقيت الصحيح والبيئة الملائمة.
فليس كل إنسحاب خسارة وليس كل بقاء وتمسك غنيمة، قد يكون إنسحاب فيه مصلحة البلاد والعباد وقد يكون بقاء فيه خسران مبين.