في كل حديث يدور عن حوار بين العراق وأمريكا كان ذلك الحوار يقدم نماذج للتلاعب بالألفاظ والمصطلحات في إستخدام خطاب مُخادع يحمل رسائل مبهمة ومفاهيم مجتزأة ضمن أدوات حرب العقول والقلوب.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه الخارجية العراقية عن الإتفاق مع الجانب الأمريكي على تشكيل لجنة لبدء المحادثات حول مستقبل التحالف العسكري بقيادة أمريكا في العراق للتنسيق بشأن جدول زمني للإنسحاب التدريجي للقوات وإنهاء مهمة التحالف الدولي، كان بيان وزير الدفاع الأمريكي لويد جي أوستن حول عمل إجتماعات مجموعة العمل التابعة للجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية يشير بإستمرار التعاون الأمني والعسكري عبر شراكة أمنية ثنائية مستدامة بين الولايات المتحدة والعراق دون الإشارة إلى إنسحابٍ للقوات الأمريكية، ما يعني إلى إستمرار النفوذ الأمريكي في العراق ويُفضي إلى نتيجة حتمية مفادها تأجيل الإنسحاب أو على الأقل تهدئة الوضع في المنطقة لحين الإنتهاء من الإنتخابات الأمريكية المزمع إجرائها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، ذلك الكسب في الوقت الذي تراهن عليه أمريكا لِفضّ مشاكل إنتخاباتها أو حرب غزّة.
بالرغم من جديّة حكومة محمد شياع السوداني في رسم خارطة طريق لتنظيم العلاقة بين الجانبين والرغبة العراقية في الإنسحاب الأمريكي، إلا إن الشوط مازال بعيداً وعملاً شاقاً من المبكر الإفصاح عن الخطوات اللاحقة حالياً حسب تأكيد فادي الشمري مستشار السوداني السياسي، مضيفاً أن القرار لن يكون حلاً ترقيعياً حسب وصفه.
البيان الأمريكي الذي أشار إلى أن “الأفراد العسكريين الأمريكيين هم في العراق بدعوة من الحكومة العراقية كجزء من مهمة عملية العزم الصلب لتقديم المشورة والمساعدة والتمكين للقوات الأمنية العراقية في قتالها المستمر ضد داعش”.
نموذج البيان الأمريكي الذي خاطب فيه الرأي العام إعتبر إن بداية عملية اللجنة العسكرية (Hmc) تعكس تطور العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والعراق بموجب إتفاقية الإطار الإستراتيجي، ما يعني أن القرار لا يشمل بالضرورة الإنسحاب من العراق بل يؤدي إلى تحقيق علاقة أمنية مستدامة ويرسم صورة جديدة لتلك العلاقة عكس ما يتصوره البعض من العراقيين الحالمين بخروج قوات الإحتلال من بلدهم.
عمل اللجنة الذي سيبدأ خلال الأيام القادمة لتنفيذ الإلتزام الذي وقّع عليه الطرفان خلال حوار التعاون الأمني المشترك بين الولايات المتحدة والعراق (JSCD) الذي عُقد في الفترة من (٧-٨) آب/أغسطس٢٠٢٣ في واشنطن العاصمة ويعتمد على ثلاثة عوامل وهي التهديد الذي يُشكّله داعش والمتطلبات العملياتية والظرفية ومستويات قدرة القوات الأمنية العراقية، حيث ستقوم مجموعات عمل من الخبراء العسكريين بدراسة هذه العوامل الثلاثة وتقديم المشورة إلى اللجنة العسكرية العليا (Hmc) بما يضمن عدم قدرة داعش على العودة للظهور مرة أخرى.
من المعلوم أن الولايات المتحدة تنشر ما يقارب ٢٥٠٠ عسكري في العراق لتقديم المشورة والدعم للقوات المسلحة العراقية لمنع عودة التنظيمات الإرهابية.
نقلت صحيفة واشنطن بوست عن المتحدثة بإسم البنتاغون “سابرينا سينغ” نفيها أن تكون محادثات اللجنة العسكرية العليا العراقية – الأمريكية والتي أعلنت عنها وزارة الخارجية العراقية ووزارة الدفاع الأمريكية تتعلق بسحب القوات الأمريكية من العراق.
تشير سينغ أن المسألة تتعلق بجاهزية العراق لتحقيق النجاح في الدفاع عن أمنه الخاص وسيادته وكيف بإمكان الولايات المتحدة دعم العراق للقيام بذلك.
وبحسب الصحيفة أن المحادثات بين بغداد وواشنطن حول قضية الوجود قائمة حتى قبل الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر٢٠٢٣ والذي فاقم التوتر بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة مع التأكيد أنها ليست مفاوضات للإنسحاب.
كان لافتاً في الوقت الذي ينشط فيه العراق لبدء حواره حول مستقبل التحالف العسكري أن تقوم السفارة الأمريكية في بغداد بتقليص كوادرها بنحو ملحوظ تزامناً مع حرب غزّة مما أدى إلى تعليق إصدار التأشيرات للمواطنين العاديين، حيث لا تُمنح حالياً إلا للوفود الحكومية رفيعة المستوى حسب تأكيد مصدر دبلوماسي مع ما ترشح عن نيّة الرئيس الأمريكي جو بايدن ترشيح السفيرة “تريسي آن جاكوبسون” لمنصب سفيرة فوق العادة ومفوضة للولايات المتحدة لدى جمهورية العراق بدلاً من االسفيرة “إلينا رومانوسكي”.
عامل الوقت والمماطلة هو الذي تُراهن عليه واشنطن للتخفيف عن كاهلها حجم الهجمات التي بدأت تتزايد على قواعدها في العراق ولتهدئة الوضع ولو مؤقتاً لحين تبيان حظوظ بايدن بالفوز لولاية ثانية أو خروجه من البيت الأبيض، وهو ملخص ما يدور من حكاية الإنسحاب الأمريكي.