ذات ليلة فتحت باب كفني المحدود, وهامتْ روحي بلا حدود , كاسراً كل القيود , التي نسَجتها يداي منذ نعومه أظافري, وطالما حرصتُ , أن أحافظ على هذا النسيج , ليس ذلك وحسب, بل بذلت قصارى جهدي, في إستمرارية وديمومة عملية النسج أي إتمام الكفن , ورغم كل الصعوبات التي مررتُ بها , في مسيرة حياتي وإلى يومنا هذا , لذلك قررتُ الخروج من الإنجماد إلى الذوبان في بحر أفكار العارفين, بعد أن صدئ قلب بني الإنسان, وطالت يداه إلى الهوى وترك الفضائل والانغماس في الرذائل.
تكمن أهمية هذا الكفن, في كوْنه خلاصة المراحل التي يمرَ بها الإنسان, ونسج الكفن هو العمل الذي يقوم به , من بداية إستيقاظه إلى بداية نومه من جديد , وأعني بداية إستيقاظه هو وقت الإدراك العقلي للإنسان, وبداية نومه هي بداية فقدان الإدراك العقلي وخروج الروح واستسلام الجسد للنوم العميق, والنوم هو صورة من صور الموت, حيث يكون النائم فاقدًا للإدراك العقلي كما في قوله سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) الأنعام(60).
ولا يشترط إنحسار الإستيقاظ في وقت النهار, والنوم منحسرًا وقت الليل , فكلِ إنسان حسب طبيعته وكذلك ظروف عمله فمنهم من يُحصل قوته نهارًا, وآخر يُحصل قوته ليلاً, فلكلِ منهما فترة إدراك خاصة به أحدهما نهارًا والاخر ليلاً, ونسَجتها يداي وأقصد بها نفس بني الإنسان كما في قوله سبحانه ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8))) سورة الشمس آية (7) و(8)(( فَأَلْهَمَهَا)) والمراد منها في هذا المقام هو التمكين وكما ورد في كتاب تفسير الميزان للطباطبائي ((أن المراد تعريفه متن الفعل بعنوانه الاولي المشترك بين التقوى والفجور كأكل المال مثلا المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو من الفجور وبين أكل مال نفسه من التقوى, والمباشرة المشتركة بين الزنا وهو فجور والنكاح وهو من التقوى وبالجملة المراد أنه سبحانه عرف الإنسان كوْن ما يأتي به من فعل فجورًا أو تقوى وميز له ما هو تقوى مما هو فجور)) و((وَتَقْوَاهَا)) أي مكن سبحانه بني الإنسان من نفسه, لتمكنْه من خلافة الأرض وإعمارها والسير في طريق المعارف والتكامل وصولاً إلى تقوى , وكما ورد في كتاب تفسير الميزان للطباطبائي ((والتقوى – على ما ذكر الراغب – جعل النفس في وقاية مما يخاف, والمراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها وبين الفجور التجنب عن الفجور والتحرز عن المنافي وقد فسرت في الرواية بأنها الورع عن محارم الله)) أي جعله مسيطر عليها بالعقل ((قال (أبو عبد الله عليه السلام): لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وعليك أثيب ((بحار الأنوار للعلامة المجلسي (ج1ص7 ).
((فُجُورَهَا)) والمراد منها في هذا المقام الجحود وكما ورد في كتاب تفسير الميزان للطباطبائي(( الفجور- على ما ذكره الراغب – شق ستر الديانه فالنهي الإلهي عن فعل او عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الإنسان وبينه وإقتراف المنهي عنه شق للستر وخرق للحجاب )) أي أن بني الإنسان, عندما يكون منحرفاً عن سبيله سبحانه, ويرتكب كل ما نهى عنه, وغرس يداه مع الشيطان, ليكون خليفته في خراب الأرض والابتعاد عن مطلب الخليقة والهدف الحقيقي لخلق الإنسان, وفي طبيعة الحال, لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون كوْن متكامل وغير متناهي في الأبعاد, ليكون دالة للحق سبحانه, وأداة من أدواته لأثبات وجوده للإنسان ليعبده, كما في قوله سبحانه ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) سورة الذاريات آية (56).
ومما تقدم, نحن اليوم نعاني صعوبة في تربية أبناءنا, وحثهم على إصلاح أنفسهم, والإلتزام بمعايير الأخلاق وقلع جذور الفساد وتهذيب النفس من فجورها, وإبتعادهم عن المقصد, وكانت ثورة الإتصالات العلمية, التي قربت البعيد وفتحت لنا أبواب المعرفة, ولكن للأسف, أقولها كانت محل سبب أيضاً, في ضياع أبنائنا وطلاق نسائنا , فالحقيقة لم تكن وسائل التواصل الإجتماعي هي السبب الرئيس, بل كانت الوسيلة السريعة لهذا الضياع المحتوم, بهذا الطريق أو غيرها, في ضياع تهذيب الباطن لأبنائنا, بل السبب الرئيس يقع على إهمال الأباء لأبنائهم ومعالجة مشاكلهم والتخفيف عن آلامهم, وكما ورد في كتاب جنود العقل وجنود الجهل للأمام الخميني (ق.س) ((النور الذي يدخل إلى البيت من النافذة هو من الشمس, فمن جهة هو محدود بالنافذة, ومن جهة أخرى لو لم تكن الشمس موجودة لم يكن للنور ولا لحدود نور النافذة وجود))ص (30)
الخاتمة.. للمقال مشاعر معيّنة, تبقى تغازل فكر القارئ حتى بعد انتهائه من قراءته.