23 ديسمبر، 2024 10:22 ص

كثيراً ما يذكر مصطلح (الإنتقائية) مقترناً بالأنتقاد، وربما الرفض، لكن الأمر لا يجب أن يكون كذلك دائماً.
لعل أكثر صور الإنتقائية إثارة للرفض ما نجده في سياسات دول كبرى من تناقض واختيار لمقتضيات مصالحها ومصالح سواها في مواقف تبدو متماثلة في قضايا مهمة كحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، وفِي تفسير مفاهيم خطيرة كمفهوم الإرهاب مثلاً تبعاً لاختلاف القضايا واختلاف تأثيرها على مصالحها بالسلب أو الإيجاب، الأمر الذي تمخض عنه وصف مواقف كهذه بأنها “كيل بمكيالين”.
من جانب آخر، حملت الإنتقائية معنى إيجابياً وعملياً في تجارب العديد من النظم السياسية والإقتصادية، فبعد أن كان النظامان العملاقان المتصارعان في العالم، وهما الإشتراكية والرأسمالية يتمسكان بثوابت غير قابلة لإعادة النظر، أجبرتهما الأزمات ،وما تسببت فيه الأخطاء، على إعادة تقييم جدوى التمسك الصارم بالمبادئ التي يقوم عليها كل نظام.
لربما ساهم منهج “دول عدم الإنحياز” التي أطلقت على نفسها أيضاً” دول العالم الثالث” في التنبيه إلى أهمية البحث عن طريق يتوسط الطريقين الرئيسين، كما أن انتهاء الحرب الباردة أزال خشية كل من المعسكرين من الإنجرار نحو المعسكر الآخر، فأصبح مقبولاً اعتماد تطبيقات اشتراكية في بلد رأسمالي أو تطبيقات رأسمالية في بلد اشتراكي، وهو ما يظهر جلياً – على سبيل المثال – في لجوء دولة رأسمالية إلى احتكار الدولة نشاطاً استراتيجياً في قطاع ما تحقيقاً لمصلحة مواطنيها، وفِي لجوء دولة اشتراكية إلى توسيع دور القطاع الخاص في أحد القطاعات بما يخدم التنمية، وكل ذلك دون إلغاء الهوية الأساسية لنظام الدولة.
هذه الإنتقائية لم تقتصر على السياسة ولا الإقتصاد، بل تعدت ذلك إلى ميادين كثيرة، كالميدان الإجتماعي، وهو ما فطن إليه المشرِّعون في وضع الدساتير والقوانين، فثمة دساتير زاوجت بين النظامين البرلماني والرئاسي للإفادة من نتائج كل منهما، كما أن القوانين الجنائية، الموضوعية والإجرائية مزجت أيضاً بين مدارس السياسة الجنائية المختلفة للوصول إلى أعلئ سقف للعدالة الجنائية، وعلى مستوى تشريع اجتماعي مهم ينظم شؤون الأسرة وما يتصل بها لنا في العراق تجربة على مستوى عال من النضج تمثلت في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في العام ١٩٥٩ وما زال نافذاً بعد ستين سنة، تجسدت فيه الإنتقائية بصورتها الإيجابية ويعود نجاحه إلى أنه لم يتمسك بمذهب واحد من مذاهب الشريعة بل أخذ من مبادئ هذا المذهب أو ذاك ما يناسب روح العصر وويستجيب للحياة الحديثة.
الإنتقائية، والحالة هذه، منهج يدعو إلى الإنفتاح ويبتعد عن التزمت والتعصب والإنغلاق.