قال صاحبي – عنوان مقالتك سيثير رأسا (تصورات !) جنسية في ذهن القارئ العربي , فقلت له مبتسما , نعم , من المحتمل ان يحدث ذلك فعلا , ولكن كلمة جنس , وجمعها اجناس , ترتبط بالانسان ( و جمع هذه الكلمة – بشر) , وعلم الاجناس يتطلب منّا ان نأخذ (عيّنة!) من البشر , ونضعها تحت الميكروسكوب , ونتأمّلها وندرسها ونخرج باستنتاجات معينة ومحددة من هذه الدراسة والتأملات الدقيقة , ونتائج هذه الدراسات تتوزع بعدئذ على مختلف انواع العلوم , والشريحة التي اودّ ان نتأمّلها معا هي سائقة سيّارة اجرة ( تاكسي) التقيتها بالصدفة المحضة في شوارع موسكو قبل أيام , عندما استدعيت سيارة اجرة للذهاب الى عنوان معين , واذا بي ارى وراء المقود امرأة في حدود الخمسين , والمسألة طبعا ليست غريبة جدا في تلك المجتمعات , وهكذا جلست – بعد التحية – في السيّارة , التي انطلقت بنا الى العنوان المطلوب. قالت السائقة – من الواضح انك لست روسيّا , فأجبتها نعم فانا من العراق , وقلت لها مبتسما, كما انه من الواضح ايضا انك لست روسيّة , فاجابت – نعم انا من قرغيزيا . وهكذا بدأ الحديث بيننا . سألتها رأسا – أليست مهنة السياقة صعبة بالنسبة لأمرأة قرغيزية في موسكو ؟ فأجابت – نعم , بل و صعبة جدا , ولكن ما هو الحل , اذ لا توجد فرص عمل تضمن المستوى اللائق للحياة في موسكو , فسألتها , ألم يكن ممكنا ان تمارسي نفس هذه المهنة في قرغيزيا مثلا ؟ فابتسمت واجابت – انت – على ما يبدو – لا تعرف الوضع الرهيب الذي كان سائدا في قرغيزيا عند انهيار الاتحاد السوفيتي , قلت لها , لقد حدّثني روسي كان يسكن هناك بعض الشئ عن ذلك ( انظر مقالتنا بعنوان – سيريوجا الروسي وانا في الردهة رقم 4 ) , فقالت – لقد أحرق المتطرفون القرغيز بيوت الروس وطردوهم , وفقدت قرغيزيا النظام والامان وسادت الفوضى بدل القوانين و عمّت البطالة في كل ارجاء البلاد, وقررت عائلتنا – نتيجة لكل ذلك – الهجرة الى روسيا , اذ لم يكن هناك مخرج آخر بتاتا , الا ان جدّتي رفضت هذه الفكرة رفضا قاطعا , وقالت انها لن تترك قرغيزيا ابدا مهما حدث او يحدث فيها , وقد أيّدها جدّي طبعا وقال لها انه لن يتركها وحيدة مدى الحياة , ولم نستطع اقناعهما بفكرة الهجرة رغم انهما كانا مسنيين و عليلين وبصحة غير مستقرة , وهكذا عشنا اتعس حياة هناك, وتحت ضغط تلك الظروف الرهيبة ازدادت صحتهما تدهورا, وفي نهاية المطاف توفيت جدتي , فطرحنا فكرة الهجرة الى روسيا من جديد , الا ان جدّي قال لنا , انه وعد جدّتي بعدم تركها وحيدة , وعليه فانه يوافق على الهجرة اذا أخذنا جثمانها معنا . قلت لها – ربما اراد جدّكم ان يضع طلبا تعجيزيا امام هجرتكم ليمنعكم من الهجرة , فقالت لا اعرف , ولكن جدّي فعلا كان يرتبط معها روحيّا بكل معنى الكلمة , وهكذا قررنا جميعا الذهاب الى المقبرة , وحفرنا قبرها , وأخرجنا التابوت من القبر, وأخذناه معنا وسافرنا بالقطار , ووضعنا التابوت وسط عربة القطار امام انظار جميع المسافرين , ولم تكن هناك سلطة تستطيع ان تمنعنا من ذلك او حتى تتجاسر على ايقافنا, وقد خاف ركّاب القطارمن هذا المشهد وأخذوا يبتعدون عنّا , وكذلك تجنبتنا شرطة الحدود – في اجواء تلك الدولة المنهارة – بعد ان لاحظت توترنا ووضعيتنا غير الطبيعية بتاتا, اذ اننا كنّا على استعداد لعمل اي شئ من اجل حماية التابوت والسفر بالقطار الى روسيا , وقد استغرق السفر عدة أيام باكملها , وهكذا وصلنا الى ضواحي موسكو , اذ كان لدينا اتفاق مع مجموعة روسيّة اعطيناها نقودا كي تساعدنا في السكن والاستقرار هناك , ولكننا لم نجد احدا بانتظارنا , وقد علمنا بعدئذ انهم مجموعة من المحتالين , الذين خدعونا وخدعوا كثيرين غيرنا . سألتها – وماذا فعلتم ؟ فأجابت , انهم عاشوا لمدة ثلاثة أشهر في ركن من شارع فرعي , وكان الجو ممطرا وباردا , وقد تمرّض جدّي وتوفي نتيجة ذلك , فدفناه – كما أراد – قرب جدّتي في مقبرتها الثانية بضواحي موسكو . سألتها متذكرا انهم من قرغيزيا – ولكن هل راجعتم سفارة بلدكم في موسكو كي تساعدكم ولو قليلا وانتم بهذه الوضعية ؟ فقالت – لقد أسقطت قرغيزيا جنسية كل الذين تركوا البلد آنذاك . قلت لها – ولكني شاهدت الكثير من القرغيز يعملون الان بموسكو في المطاعم والمقاهي ويقدمون الخدمات المختلفة , فقالت – نعم , الان سمحت قرغيزيا بالهجرة والاحتفاظ بالجنسيتين حلا للبطالة الهائلة هناك , أما عندما سافرنا آنذاك , فقد كانت الهجرة تعني خيانة الوطن , وكانت الدولة تسحب الجنسية رأسا من كل شخص يهاجر, وتشطب اسمه من قائمة المواطنين .قلت لها في نهاية حديثنا ( ونحن نقترب من العنوان المطلوب) , ان قصتك مثيرة وحزينة ومؤلمة جدا , ولو اني سمعتها من شخص آخر لقلت انها من نسيج الخيال والمبالغة ليس الا , فقالت وهي تنظر اليّ بحزن واضح جدا – ان الواقع الذي عشناه وعانينا منه ولا زلنا نعاني هو أقسى من الخيال واكثر مرارة منه .