جمعة مقدسة وحمائم تستعد لتنفض أجنحتها، معلنة مصير شمس مغيبة، عذبت في ظلمة المطامير وقعر السجون، فبعد رطبات عشر مسمومة بلغت الروح الحلقوم، وسيكون اللقاء على جسر الرصافة، فهاهوالإمام الكاظم عليه السلام يقول: (حوادث الكون سبعة : قضاء، وقدر، وإرادة، ومشيئة، وكتاب، وأجل، وإذن، فمَنْ زعم غير هذا فقد كذب). قضاء كريم مكتوب على أهل البيت، (عليهم السلام أجمعين) إمتثالاً لأمره تعالى، فتصدوا لمواجهة الظلم، منذ أن خلقوا في الأصلاب الطاهرة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، وصبروا على ما أصابهم لأجل الدين، إيماناً منهم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد بلغوا مقاماً محموداً لم يبلغه سواهم، فلنعم عقبى الدار. قدر محتوم كُتب على إمام الهدى، موسى الكاظم (عليه السلام) يوم وضع سجانه السندي عليه اللعنة، رطباً مسموماً فأكل عشر رطبات، فقال الملعون: زد على ذلك، فرمقه الامام وأجابه: (حسبك قد بلغتَ ما تحتاج إليه)، ومع أقسى انواع التكبيل والتضييق، قُدر لأبي الرضا أن يرحل محتسباً عند الله، فلعنة على الظالمين. إرادة غيبية، بأن يخترق حب الإمام الكاظم (عليه السلام)، قلوب أعدائه القريبين من هارون اللارشيد، فيتشيعون محبة منهم له، وما شاهدوه من زهد ونسك وتقوى، وهو في قعر السجون، وكيف لا؟ وهم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، بيت أذهب الباريء عز وجل، عنه الرجس وطهرهم تطهيراً، ومنهم راهب بني هاشم.مشيئة إلهية، أن يكون الإمام كاظم الغيظ بعيداً عن أهله ووطنه، ليحاصره بني العباس، الذين زعموا أنهم قدموا إعتذاراً للنبي (صلواته تعالى عليه وعلى أله)، بأن وجود أبي الرضا بين ظهراني الأمة سبب للفرقة، لذا فإعتقاله إنما هو حذر وحيطة، من أعداء خلافتهم البائسة، فأين هي قصورهم من قبابه الذهبية؟ كتاب موقوت أرسله الإمام موسى بن جعفر، لأنصاره طيلة إنتقاله من سجن لأخر، مبيناً لهم خوف بني العباس، من زوال حكمهم، وكشف زيفهم وظلمهم، فظنوا أنهم أنهوا أمره، فحاصرهم بهيبته وصبره، فروى بشموخ قصة سجين راهب علوي، في يوم شهادته تتجدد البيعة لآل محمد، وتستعيد الأمة صرخات: هيهات منا الذلة. أجل معلوم إعلاء لكلمة الحق ضد الباطل، كان يدركه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وأن إستشهاده يوم ذكرى لتجدد أحزان آل محمد (صلواته تعالى عليهم)، لذا تزحف الملايين المؤمنة الهادرة، صوب كعبة الصبر والزهد، لتحيي شعيرتها المقدسة في الكاظمية، بوصفة روحانية مازالت الأفلاك والأملاك تحرسها، لأنها من تقوى القلوب.إذنٌ مدون في الخامس والعشرين من رجب، وعمر شريف يناهز الخامسة والخمسين، قضى أكثر من نصفها تحت وطأة السجن والتعذيب، لكنه كان مستمراً بدوره الكبير، للحفاظ على سلامة الخط الجعفري، الذي يخافه خلفاء بني أمية والعباس، فأهل البيت رايات عملاقة أرهبت، وما تزال ترهب الطغاة، فزمن الإمامة يتطور، وزمنهم يتدهور.أيها الزاحفون الى مدينة الكاظمين الجوادين (عليهما السلام): حسبكم أنكم أجدتم عزاؤه رغم الإرهاب، وطوبى لكم هذه الشعائر، والخدمة، والموالاة لسابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كذب مَنْ زعم أن الإمام الكاظم مات، بل التأريخ يستمد مجده منه، فهو ملك تزاحمت الملوك على بابه، فإنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.