_حتى الآن يعتبر الإلحاد في مجتمعنا ظاهرة وليس حالة مستشرية..وعندما تتجسد الظاهرة وتفرض واقعيتها تكون حالة عامة..وعندما تكون حالة يلزمها أن تبرر وجودها وقبولها الاجتماعي، بالضبط كما تتشكل بعض الظواهر الشاذة ثم تأخذ مداها الحقيقي وتختفي!
_الملحد.. يحاول أن يصور الإسلام بأنه يتمثل بالمعممين ومراجع والطوائف والمذاهب..كذلك.. الملحد يقيس الدين على اخلاق المتدينين وعندما تكون الطبقة الدينية اغلبها انتهازية وفاسدة ولصوصية يحكمون على الدين بفساد هؤلاء..وهذا..جهل كامل بحقيقة الإسلام؟ فعندما تتابع نقد الملحدين وحججهم تجدها صحيحة؟! حيث تنصب على تباين فساد الدين وفق مايرونه.
مثلا:
1. البابا الذي تكلف ملابسه الكهنوتية 4 ملايين دولار؟ هل يمثل السيد المسيح(عليه السلام).. عيسى رسول الله صاحب المعجزات.. الذي عاش فقيرا بثوب واحد..وكان لايملك حذاء يتقي به أشواك الأرض.. عيسى ابن مريم..وأمه التي كانت مثالا في الصبر والعبادة وكانت فيها القيم والأخلاق العظيمة، واستأهلت أن تكون بحق سيدة من سيدات نساء العالمين..هل.. كان لعيسى ابن مريم مؤسسة تعيش بمستوى الرفاهية على ماعليه الآن دولة الفاتيكان؟
2. سيدنا(عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العادل..الذي كان رئيس دولة عظمى وثوبه مرقوع باثني عشر رقعة وينام تحت شجرة يتقي بفيها من الحر بلا حراسة!
3. وسيدنا(علي بن ابي طالب) رضي الله عنه وأرضاه..الصحابي الزاهد الذي يخصف نعله بيديه، الشجاع الذي مافر من موقف ولابارز احد الا وقتله ولا ضربة ضربة واحتاج الى ثانية..هل.. كان يتصور أن قبره سيكلل بالذهب الذي عاش ولم يمتلك منه شيء؟
_موضوع الإلحاد..يرتبط بالهجوم الكبير الذي يستهدفنا..فهو.. صفحة من صفحات الحرب على امتنا..وكل..من يتصور أن الغرب يستهدف ثرواتنا فهو واهم. لأن.. ثرواتنا تصلهم بدون حروب..والخطر ليس في جيوش الأعداء وعدتهم العسكرية..بل.. الخطر في عقيدتهم وأفكارهم الهدامة القاتلة!
لكن المهم:
تتفشى ظاهرة الإلحاد بين أوساط الشباب والمثقفين العرب، ولا نجد من يحلل هذه الظاهرة ويكشف مسبباتها قبل أن تترسّخ لتكون حالة عامة وتفرض نفسها كتيار أو حتى دين جديد؟ نعم دين جديد يناهض كل قيمنا الأخلاقية ومعتقداتنا ويدمر إيماننا. قبل هذا كله نسأل أنفسنا سؤال الهويّة، من نحن؟ للإجابة على هذا السؤال سنعود الى الخلف لنقرأ واقعنا حسب تسلسله التاريخي.. لنعبر مسافة خمسة عشر قرنا، كانت هنالك إمبراطورية الروم في الغرب وفي الشرق إمبراطورية للفرس.. وبينهما أو حولهما كانت إمارات وقبائل بدوية غالبا ما كانت تدور في أفلاك هاتان القوتان وتخضع لنفوذ إحداهما ؟ كان في العراق دولة عربية للمناذرة تخضع للنفوذ الفارسي وتصول معه وتدفع الضرائب على غلاتهم ومواشيهم لكسرى ملك الفرس، وفي الشام كانت هنالك دولة عربية أخرى يحكمها الغساسنة تدور في فلك الروم وتصول معهم وتدفع الضرائب.. أما اليمن ومسقط عمان وبعض من الخليج فكان مقسما بين الأحباش المسيحية في الشمال والفرس المجوسية في الجنوب.. بين كل هذه التوابع والشراذم كانت قبائل عربية تتصارع فيما بينها على الماء والكلأ في جزيرة العرب وتدين أو تعكف على عبادة الأصنام ؟ مع أن الكثير من القبائل العربية كانت تدين بالنصرانية المسيحية أو اليهودية وبعضها كان يدين بالمجوسية الفارسية . هذا هو الواقع بشكل مختصر لمنطقة الشرق الأوسط وقد تجاوزنا كثير من الحقائق لعدم استيعاب مساحة المقال أن نخوض به.
أود الإشارة فقط إلى أن واقعنا اليوم لا يختلف عن ذلك الواقع إلا بالصورة النمطية التي تؤطرها زخارف التطوّر ويكاد أن يكون متطابق جوهريّا.. مابين الثلث الأخير من القرن السادس والثلث الاول من القرن السابع كانت حياة النبي الأمّي العربي محمد بن عبد الله ((22 أبريل 571 – 8 يونيو 632) ) رسول الله الذي جاء بدين الإسلام وأشرقت بدعوته شمس التوحيد العظمى . بدأ بدعوته إلى عبادة الله ونبذ الشرك والوثنيّة وكل أشكال العنصرية والعبودية لغير الله.. دعوة إنسانية شمولية لا تقف عند حدود الجغرافيا بكل معالمها الطبيعية والاجتماعية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).. خلال عقود قليلة انتشر الإسلام ليشمل كامل جزيرة العرب ويحطم الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية الرومانية .. فلا قيصر ولا كسرى يهيمن على العلم . نظام واحد يحكم البشرية يستمد تشريعاته من القرآن الكريم.. المسلم أخو المسلم بغض البصر عن قوميته ولونه وجنسه، إنتهى بذلك النظام حكم الفرد الدكتاتور وحكم النعرات القبلية ولم تعد هنالك نزاعات وحروب بين القبائل والشعوب فهم يدينون بدين واحد ويخضعون لسلطان الله بموجب أحكام شريعته . بذلك الفتح العظيم وطبيعة النظام تشكل نظام عالمي تجاوز ما كان عليه العالم قبله كما أشرنا آنفا في ثنائية القطبين الرومي البيزنطي والفارسي المجوسي.. وهنالك تحددت وتشكلت هويتنا الكاملة، لم تكن هويتنا قومية شيفونية والوطن عندنا لا تنتهي حدوده فالأرض كلها لله خالقنا وخالق السموات والأرض ومن لا يقيم شريعته فهو غاصب محتل.. لسنا.. بمعرض إثارت تفاصيل طبيعة الدولة الإسلامية فهذا ليس موضوعنا.. الإسلام ليس دينا طقوسيا كما كانت عليه الشعوب التي خضعت لنظام الدولة الرومانية إستنادا لمقولة ما كان لله فهو لله وما ليقصر لقيصر وقبلت أن تكون مطية لتكفير كل من لا يخضع لنظام الحكم الروماني الذي يشرّع ما يتوافق مع مصالحه ونفوذه الإمبراطوري بالاستناد لأهواء وعقول البشر .الله في دين أو نظام الاسلام هو ليس كيانا ميتافيزيقيا يتربع على عرش من الخيال خارج معالم جغرافيا الكون والحياة.. هو ربنا وخالقنا المهيمن على مقاليد السموات والارض.. وهو الخبيرالذي يعلم شؤوننا ويقلبنا حيث يشاء ويملك حياتنا ووجودنا، وأن من أهم عناوين هويتنا أننا عباد لله وحده..لعلّ.. كارثة انسلاخنا عن هذه الهوية تجعلنا بلا وجود ولا قيمة ولا اعتبار إنساني، الإسلام حررنا من عبودية الطغاة ومن جاهلية السفالة والانحطاط وحقق انسانيتنا بمكارم الأخلاق ونبذ الانحراف والدناءة والسقوط في حضيض البهيمية، وبدين الاسلام تشكلت سايكولوجيتنا الذاتية والموضوعية في توازن المجتمع الاسلامي الذي ننتمي اليه . من هنا نفهم بأن الإلحاد هو صفحة من صفحات الحرب التي تستهدف تدميرنا نهائيا بعد أن تم إحتلال أرضنا واستباحة دمائنا وأوطاننا.. عندما يأتي الملحد لينسف وجود الله في ذاتنا فهو ينسف وجودنا نحن، وينسف كل منظومتنا الانسانية والاخلاقية.. بلا شك ولا ريب أن هذا الملحد لن يضر الله شيئا، والملحد يجهل حقيقة الله بإنكاره وبمعتقداته الدينية والفكرية.. نعم أن الإلحاد دين شركيّ شيطاني قديم ويجدد دعواته في كل العصور . هذا من وجه معين، ومن وجه آخر إن الملحد لا يرى من الدين إلا منظور سطحي وهامشي تجسده الطبقة المتطفلة على الدين التي نسميها رجال الدين.. هذه الطبقة الكهنوتية التي تتميز بأزياء خاصة لا صلة لها بحقيقة الدين وعقيدته، فمضمون أي كتاب لا يستمد قيمته العلمية من شكل الغلاف ونوعية الورق الذي يحتويه.. لذلك نجد أكثر الملحدين يستدلون على فساد الدين بفساد الطبقة الدينية الطفيلية وهم بذلك يؤدون خدمة للدين نفسه بتعريته من هذه الشواذ والوساخات التي تشوه صورته . بالعودة الى الهويّة التي تجسّد وجودنا وكياننا الإنساني فقد لاحظنا أن أكثر الذين قاوموا الإحتلال واستشهدوا في سبيل الله كانوا أناسا غير متدينين وبعضهم كان ممن يجترح المخالفات الشرعية؟ وهذا لا يُستغرب أبدا لأن الله في قلب هؤلاء لا يتقيد بجدران المسجد أو عمامة ولحية رجل الدين الطقوسي.. الله في ذات الانسان المضحي بحياته من أجله هو الحياة كلها، وهو الكيان العظيم الذي تتلاشى قيمة الروح أمام عظمته، وهو الشرف والأخلاق التي تجسّد ذاته الإنسانية . ليطمأن كل إنسان مؤمن بالله، إن ظاهرة الإلحاد مع أجندتها والدوائر التي تقف خلفها وتروجها بكل الوسائل لن تكون أكثر قوة من الشيوعية الماركسية التي تمكنت من السيطرة على نصف العالم وأسست نظاما إمبراطوريا سُمي بالاتحاد السوفيتي.. كان ذلك النظام من أبشع الأنظمة الشمولية الدكتاتورية في مصادرة الحريات والقمع الدموي وانتهاك حرمات الإنسان.. كانت الشيوعية الإلحادية سجنا ظلاميا حول البشرية الى قطعان من الحيوانات بموجب نظريته الاقتصادية الإشتراكية.. إشتراكية حقول التدجين التي جعلت من الإنسان رقما في حسابات الإنتاج بلا قيمة أخلاقية ولا دين يزع الفرد من داخله عن إقتراف الجريمة أو الإنحطاط لمستوى البهيمة في التناسل.. إباحية الخنازير والجرذان التي تسلخ الإنسان من روحه وتعدم ضميره وفق منهجية لا شيء خلف عالمنا المادي . أرجع الى المقارنة التاريخية آنفة الذكر عن الواقع ما قبل ظهور رسالة الله التي بعث فيها النبي العربي الأميّ محمد بن عبد الله.. ذلك الواقع كما بينت يتطابق مع واقعنا المتردي حاليا، وبموجب جدل الوجود والنواميس الالهيّة فهو يبشرنا بظهور الاسلام من جديد.. دين الله الحق خالق الكون ومهندسه العظيم، هذا الدين لن يكون دينا بهلوانيّا يتحكم فيه ذوي الجلابيب والعمائم المخزية.. دينا إنسانيّا لا يكيل لصالح قومية معينة أو أنساب كهنوتية.. دين لله لا يقدس الأماكن والأبنية والهياكل الطقوسية، إن الأرض كلها طاهرة مقدسة، وإن الإنسان هو قدوس الله الأعظم الذي خلقه بيديه، وإن الجنة ليست ميتافيزيقية خيالية وإنما هي حقيقة تتحقق بالعدل والسلام والمحبة بين جميع البشر.. دين يتجلى برحمة الله على العالمين، ليس رجعيّا باليا ويتسق مع منطق العصر والتقدم العلمي والحضاري …