من عجائب سلوك الوحوش , أنها عندما تسأم من فرائسها , كالغزلان أو الثيران , تغادر مكانها إلى بقعة أخرى فيها فرائس جديدة ذات طعم مغاير , وربما تتبادل المواقع مع غيرها التي سئمت هي الأخرى مما تفترسه كل يوم في مرابعها.
وهذا السلوك ينطبق على تفاعل الدول القوية مع الضعيفة , فعندما تسأم الواحدة منها مما إفترسته , تغادر المكان لتحل محلها دولة قوية أخرى , على أن تضمن مسارات المنفعة المتبادلة.
فالدول علاقاتها فيما بينها تستند لقوانين الغاب ودستور الأقوياء السائدين الفاعلين في أروقة الحياة والمقررين لمصير الأحياء فيها.
وكلما ضعفت الدول إزداد عدد المتكالبين عليها والراغبين بإفتراسها , ولهذا تتحذر الدول من بعضها , وتجتهد في تنمية قوتها وقدرتها على التحدي والصمود بوجه صولات المفترسين , وتكون مستعدة لنشب مخالبها في عيون الآخرين قبل أن تنالها أنيابهم.
وواقع دولنا أنها في خانات الإفتراس , ولا قدرة للواحدة منها على المواجهة والتحدي والصمود ضد الهجمات الإفتراسية , بل أن العديد من أبنائها يتحولون وبسرعة إلى أدوات لتنفيذ إرادة الهاجمين عليها , والطامعين بإلتهام ثرواتها وتحرير طاقاتها لصالحهم.
الإفتراس ما عاد عضليا , بل تكنولوجيا وعقليا , والذين يمتلكون القدرات المتطورة في ميادين الإبتكار وتحرير العقول من ربقة التعطيل , هم المنتصرون دوما , أما المتخلفون تكنولوجيا , والمعطلون عقليا فأنهم من المفترَسين.
تلك حقائق قائمة في المسيرة البشرية منذ عصور , وبلغت ذروتها في القرن العشرين وهذا القرن.
ولا نزال نرى أن القوة في العضلات , ونلعن العقل ونرفض التفاعل التكنولوجي الخلاق , ونحسب الحياة في الدين وليس الدين في الحياة.
وهكذا تجدنا في محنة الهرولة وراء المستجدات التي ترمى إلينا كالفتات ونحن من أجهل الجاهلين.
فهل لدينا القدرة على التواصل مع معطيات عصرنا؟