23 ديسمبر، 2024 1:47 م

الإعلان الصدري والمستقبل السياسي

الإعلان الصدري والمستقبل السياسي

تحرر الصدر من تياره وقيوده المذهبية إلى الاستظلال بالعباءة العراقية، ليعود في خطاب موجه للشعب، سيجد الاستجابة من شخصيات لها مكانتها بين أبناء الشعب العراقي.
لا يبدو منطقيا وصف خطوة الصدر وتحليلها وفق المعايير السياسية العامة، كان لا بد من إخضاعها لخصوصيات الواقع السياسي العراقي الذي اختلطت فيه الدوافع المذهبية والدينية والعشائرية. وأصبحت الزعامة في هذه المواقع الاجتماعية والدينية ذات تأثير كبير في الحركة السياسية العراقية. ودون الدخول في تفصيلات التداخلات بين مراكز القوى داخل الحوزات الشيعية، إلا أن الحقيقة المعروفة شعبياً، هي أن هناك صراعا واستقطابا قديما ما بين مرجعية النجف العروبية، وبين مرجعية قم الإيرانية، وأهمية ذلك على صعيد فقه السلطة أو ما يعبر عنه حاليا بولاية الفقيه، وانسحابه على الحالة السياسية العراقية، وعلاقة ذلك بالموقف الصدري الذي قاده الراحل الصادق الصدر وتمثّله خليفته الابن مقتدى الصدر فيما بعد. والمسلسل الذي بات معروفاً في مواقفه بمقاومة الاحتلال العسكري الأميركي رغم مشاركته الفعالة في العملية السياسية، وصناعته للحاكم الأول في العراق.
خطوة مقتدى الصدر تشكل مفترق طريق مهم إذا ما وظفت بشكل صحيح، في ظروف الإحباط العام السائد بين العراقيين بعد الآمال التي قدمتها الولايات المتحدة لهم، في حين أصبح الرخاء نصيب الجماعات الحاكمة ومواليها، الذين استأثروا بالسلطة والمال. ورغم حرارة العاطفة الشيعية ودور المرجعيات في تقديم الزعامات السياسية وتوصية الناس بانتخابها، إلا أن برود تلك الشحنات العاطفية في السنوات اللاحقة وانصراف تلك الزعامات عن تحقيق الإنجاز الشعبي، أدى إلى حصول الافتراق وتراجع ورقة توظيف عناوين “المرجعيات” بعد عشر سنوات من الفوضى الأمنية التي تهدد الوطن يوميا وتعزز الحرمان الذي يصيبه. وفي ظل هذه الحالة أصبح الناس بحاجة إلى الملهم المخلص البطل، ولظروف العراق والمنطقة، لا يتوقع أحد ظهور المنقذ البطل على ظهر دبابة، يعلن بيانه الأول للانقلاب العسكري، حيث لم يعد زمن الانقلابات مقبولا أو مسموحا به.

كانت وما زالت معطيات الحالة السياسية العراقية تشير إلى المراهنة على الوطنيين، ومقامات المجتمع العراقي وقوى الاعتدال السياسي، كما أن الخصوصيات التي أفرزتها العملية السياسية المرتكزة على المذهبية والطائفية، تمثلت في زعماء سياسيين تعكزوا على المرجعية “الشيعية” واحتلوا مقاليد الحكم، قد فرضت المراهنة على زعامات من داخل البيت الشيعي، لديها انتماء عروبي وعراقي مستقل عن التأثيرات الخارجية، تعمل بإخلاص لصالح عرب العراق شيعته وسنته، إلى جانب شخصيات وطنية حسمت أمرها منذ سنوات طويلة.

إن خيار مقتدى الصدر الدخول في موقف المواجهة مع رئيس الحكومة المالكي ليس خيارا بسيطا، ولم يكن لأسباب تتعلق بالسلطة أو النفوذ أو لأسباب شخصية، وإنما بعد وصول الحالة العراقية إلى ما هي عليه اليوم من تردي وانهيار جميع مرافق الحياة وفي مقدمتها الأمن، خصوصا الحلقة الأخيرة في كارثة الأنبار. وقد اختار الصدر العودة إلى منابع الإلهام الوطني الذي قدمه والده رحمه الله من انحياز إلى المظلومين والمحرومين والتأشير إلى مواقع الخلل وحافة الهاوية، دون أن يكون هناك أفق لحل يرضي الله والناس.

إن هذه الخطوة قد أنعشت آمال العراقيين وفي مقدمتهم العرب السنة الذين لا يهمهم أن يكون حاكمهم سنيا أو شيعيا مصححين الاتهامات الباطلة والمسوقة لأغراض دعائية، والقائلة بأنهم يريدون العودة إلى الحكم، وكأن الحكم السابق كان بأيديهم، حيث كان غالبية المسؤولين في السلطة والحزب من أبناء الطائفة الشيعية.

وهناك من يقول ومن بينهم شخصيات من دولة القانون بأن خطوة مقتدى الصدر هي لأغراض معالجة الانحرافات عن ثوابت وقيم المدرسة الصدرية التي وقع فيها الكثير من أتباعه.

وحتى لو كان هذا الدافع جزءاً من دوافع أخرى. فإن الامتحان الحقيقي للإعلان الصدري هو في قدرته على فتح منفذ جديد لقيام جبهة وطنية عريضة تضم كل الزعامات الوطنية من داخل البيتين العربيين الشيعي والسني، إضافة إلى الوطنيين العراقيين من الأقليات والإثنيات الأخرى.

لقد تحرر السيد الصدر من تياره الخاص وقيوده المذهبية إلى الاستظلال بالعباءة العراقية، ليعود في خطاب إنقاذي موجه للشعب كله، وسيجد الاستجابة العالية من شخصيات نافذة ولها مكانتها بين أبناء الشعب العراقي.

الخطوة الأولى هي التمسك بخطاب الاعتدال، ووضع لبنات مشروع إنقاذ وطني لا يتقيد بالشعارات الاستهلاكية للانتخابات المقبلة، وذلك من خلال هيئة يقودها السيد الصدر إلى جانب زعامات شيعية وسنية مؤمنة بأن العملية السياسية قد وصلت إلى طريق مسدود، وإن خيار الانتخابات الحالية ينبغي أن يقود إلى إصلاح جذري للعملية السياسية، سواء في المشروع الوطني الذي يجب أن يعتلي المنابر والساحات وإلى نقد العملية السياسية وضرورة تصحيح مسارها لصالح الناس، أو في طبيعة الأشخاص المتنافسين على مقاعد مجلس النواب المقبل .

وهذا المشروع الإنقاذي يمكن أن يترجم من خلال بناء هيئة قيادية من صاحب المشروع التصحيحي السيد مقتدى الصدر، وكذلك ممن يؤمنون بهذه الثوابت والوسائل التي تؤدي إلى تنفيذها في الواقع السياسي من داخل وخارج العملية السياسية.

إن هذا الفرز الحقيقي بين الفريقين المنقذ والمحافظ على الوضع الحالي، له آلياته السياسية المعروفة، إذا ما كان هناك حرص جدّي على الانتقال إلى الخطوات العملية من صرخة النداء إلى تطبيقاتها.

ولعله من المتوقع أن يتم تطويق هذه الخطوة الصدرية الجريئة بأساليب تكتيكية من قبل رئيس الحكومة وحزبه. في مقدمة هذه الأساليب قطع صلتها بالناس وبمعاناتهم والكوارث التي أصابتهم، وتهميشها إلى كونها حالة معاناة داخلية للسيد مقتدى الصدر من بعض أتباعه، إضافة إلى الايحاء لآخرين لمناشدته بالعدول عن قراره، فضلا عن ضغوط طهران المتوقعة والتي لا تُعرفُ اتجاهاتها، هل في التخلي عن المالكي، أم في التمسك به والضغط على مقتدى الصدر. والغرض من ذلك هو منع تحويل هذه الخطوة إلى مشروع وطني عراقي، لأنه سيشكل خطراً على مصالح حزب المالكي، وكذلك حتى المنتفعين من بين من يدعون تمثيل العرب السّنة، لصالح قوى الاعتدال الشيعي والسني. ولا نعرف ما هي الخطوات المقبلة لأتباع مقتدى الصدر، هل ستكون من أجل الحفاظ كذلك على مصالحهم الانتخابية، أم إنهم سيعاونون زعيمهم الذي جاءوا باسمه إلى ساحة السياسة والحكم، وينشطون في مجالات العلاقات العامة مع الأحزاب والحركات السياسية العراقية المؤمنة بالنهج الوطني الديمقراطي.

هي فرصة جديدة أمام المخلصين للعراق والمؤمنين بإعادته إلى طريق الحفاظ على هويته، وفتح الطريق أمام آمال العراقيين. أما إذا ما حُصرت هذه الصرخة داخل صندوق البيت الصدري وتم إهمالها، فإن الإحباط الشعبي سيظل مرافقاً للعراقيين.