يُعدّ الإعلام أحد أعمدة الحياة العامة، ومكوّناً أساسياً في تشكيل الرأي العام وصناعة الوعي الجمعي. غير أنّ ارتباطه بالحرية ظلّ علاقة معقّدة، تجمع بين الطموح إلى تحقيق رسالته الكبرى وبين القيود التي تفرضها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الإعلام في جوهره يسعى إلى هدفين متلازمين: نقل الحقيقة من جهة، وتوسيع أفق الحرية من جهة أخرى. فالإعلام الحر يتيح للمجتمع أن يطّلع على ما يدور خلف الكواليس، ويمنح الأفراد القدرة على اتخاذ قرارات واعية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى شخصية. وهو بهذا المعنى أداة للتنوير، يكسر احتكار المعلومة ويعيد توزيع القوة بين الحاكم والمحكوم، وبين المؤسسات والجماهير.
لكن واقع الإعلام يكشف عن اختلافات شاسعة بين التنظير والممارسة. ففي حين يُرفع شعار الحرية، كثيراً ما يُمارس الإعلام تحت تأثير مصالح مالكيه، أو ضغوط السلطات السياسية، أو حسابات السوق الاقتصادية. وهنا يظهر التناقض: هل الإعلام يعمل لتحقيق الحقيقة والحرية، أم أنه يتحول إلى وسيلة للهيمنة وصناعة الوهم؟
تتباين الأهداف بحسب السياق: الإعلام المستقل يسعى إلى تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية، فيما يركّز الإعلام الرسمي على تثبيت شرعية السلطة وتوجيه الرأي العام، بينما يميل الإعلام التجاري إلى ما يجذب الجمهور ولو على حساب العمق والجدية. هذه الاختلافات تجعل مفهوم “حرية الإعلام” مفهوماً نسبياً، يُقاس بمدى استقلالية الوسيلة الإعلامية وقدرتها على مقاومة الضغوط.
وعلى الرغم من هذا التشابك، تبقى الحرية هي البوصلة التي تمنح الإعلام مشروعيته. فالحرية لا تعني الانفلات، بل توازن دقيق بين الحق في المعرفة والالتزام بالمسؤولية. ومن دون حرية حقيقية، يفقد الإعلام قيمته الأخلاقية ويتحوّل إلى أداة تضليل، فيما من دون مسؤولية يتحوّل إلى فوضى تضر أكثر مما تنفع.
إنّ الاختلاف بين الأهداف وتباين الممارسات لا يلغي جوهر الحقيقة: الإعلام لا يمكن أن يؤدي رسالته إلا في فضاء من الحرية. فحيث تنحسر الحرية، يتحول الإعلام إلى صدى للسلطة، وحيث تنفتح مساحتها، يصبح الإعلام صوت المجتمع وذاكرته الحية.