لتكونوا شديدي الريبة في هذا الزمن أيها الناس الراقون، أيها المفعمة قلوبهم شجاعة، أيتها القلوب الصادقة النزيهة، ولتتكتموا على براهينكم، فالزمن اليوم للرعاع، والذي تعلمته الرعاع في ما مضى دون براهين، كيف يمكن دحضه ببراهين؟
فريدريش نيتشه
الإعلام المرئي، بوصفه قيمة تنتمي إلى مخاطبة العقل، هو في ذاته قيمة أخلاقية ولأنه لا يخرج البته عن كونه دعوة إلى أمرٍ ما أو نهياً عن آخر، فهو في هذا المعنى سلطة معرفية مثلما تفكك العقول تعيد ترتيبها لكن، في إطار لعبة لا أخلاقية وعدوانية سادية لا تنتهي من صراع الاضداد والمصالح الأمر الذي أدّى إلى ظواهر دراماتيكية فظيعة في وقائعها ومعطياتها ليس على شعوب ما يسمى العالم الثالث فحسب وإنما أيضاً وأساساً على المجتمعات الغربية نفسها .
كل شيء في العالم صار مفتوحاً على الأثير اللامتناهي، ولسنا نجد ما يعصم المشاهد/المتلقي من الاستسلام لعدوانية اللغة والصوت والصورة سوى تحصنه بثقافة نقدية وبوعي رصين وتأمل الأحداث ومراجعتها وتفحصها بدقة متناهية، غير أن هذا كله يتوقف على تفاصيل صراع شديدة التعقيد وحرب مختلفة لا هوادة فيها، إذ كيف يمكن لنا إجراء مقاربة إشكالية بين الإعلام والأخلاق في زمن تحول إلى وعاء تُختزل فيه أدوات الحوار والكتابة النقدية والإشارات والرموز في صورة غريبة ومربكة؟ وما دمنا نتحدث عن إشكالية الإعلام وعلاقته بالأخلاق فسأجيز للغتي الكتابة على ما يمكن تسميته (بعقائدية المشاهد/المتلقي بالمعنى الواسع للكلمة) هذه العقائدية التي تشكلت مفازاتها عبر الفضائيات المتحولة إلى إداة سيطرة هائلة استحوذت على العقول والأنفس، فضائيات خرافية تقبض على ناصية الأخلاق وتديرها كما تُدار المعلقة في قدح الشاي، فقد استطاعت بعض الفضائيات، المدعومة بطريقة خيالية من أنظمة قمعية، أن تحوز على ثقة المشاهد/المتلقي العقائدي، بداريتة أو بدونها، فكانت بذلك تتحول إلى (قوة نووية) أو قوة هيمنة نفسية من خلال جعل مشاهديها أسرى جاذبية هذه العدوانية المتمثلة بالصوت والصورة واللغة وبدورها، أيضاً، لا تترك لأحد أن يرجئ شفغه أو فضوله الغريزي بمعرفة ما يجري، بشكل دقيق كما أسلفت، في أي بقعة من العالم عبر أقمارها المختلفة وتردداتها ومنظوماتها العالمية والإقليمية والمحلية إضافة لشبكة مراسليها المنتشرون في جميع الأماكن الساخنة في العالم، إنها عدوانية إعلامية بأمتياز خصوصاً حين يورد المراسل الصحفي أو الخبير العسكري المتقاعد والمحلل والمعلق السياسي تفاصيل الأحداث بطريقة تتناسب وتوجهات المحطة الفضائية التي استضافته وكأن بهذه المحطة أو تلك لا تأتي إلا باليقين المفقود حتى يتحول هذا اليقين بدوره إلى مصدر طمأنينة للمشاهد لدرجة أصبح الجالسون أمام الشاشات الملونة كرعايا ينتظرون وينظرون، لقارئ أو قارئة النشرة الأخبارية، بخشوع لواعظ أخلاقي يحدد لهم ما هو الخير وأين يكمن الشر، أو يُعرف لهم ماهية الشيطان وسلوكيات الملائكة وبهذا أمست الفضائيات معادلاً موضوعياً للعقائديات الدينية الأصولية أو للسياسية العقائدية المغلقة التي لها جاذبيتها وسحرها وغيبياتها التي تستند إلى حفنة، من المزورين والشيوخ والمعممين والأصوليين والثرثارين، تتكاثر كلما ظهر سلطانها وأميرها وملكها على الشاشة وهو يدلي بنصائحه الدموية وملاحظاته المغلفة بلغة بليدة أو كلما تماهت سلطاتها بطريقة عبثية محضة .
بعض القنوات الفضائية اليوم أشبه بعالم مفتوح على أحتمالات مرعبة ومثيرة للقسوة، تتداخل فيها قيم متضاربة ومصالح متداخلة، وضمن هذا المشهد يحتل الإعلام المرئي، حصراً، الركيزة الأولى في التعبير عن فوضى العالم ولا يقينه، عن غرائب المصطلحات والمسميات والمفاهيم، ومن هنا تكمن العلاقة المأزومة بين نظام قمعي وآخر أو بين تلك العلاقة التبادلية بين موت الأخلاق وبؤس النظام العالمي (المتحضر) الذي أدخل أغلب المجتمعات البشرية في دائرة الشك والفوضى والعبث والدوران وهي تنظر إلى مفردات لم تعد على صفائها الاصطلاحي البدئي كالعقلانية والأخلاق والقيم والضمائر وحقوق الإنسان والديمقراطية والأختلاف والإعلام الحر وغيرها الكثير .