لا أدري هل أن من حظ المثقفين المبعدين والكتّاب المهمشين ، أم أن الأمر يبدو وكأنه يصب في خانة السياسيين الطارئين والمتأسلمين الديماغوجيين ؛ أن يغدو الواقع العراقي بهذا القدر من اندثار الذمم ، وتلك الدرجة من انحسار القيم ، وذاك المستوى من فساد الضمائر ، وتلك المرحلة من خراب السرائر . للحد الذي باتت أوضاعه السياسية وظروفه الاجتماعية ومشاكله الاقتصادية وملابساته التاريخية وتعقيداته الحضارية ، تحتل واجهات بارزة في وسائل الإعلام الغربي بشتى ميولها واتجاهاتها ، كما وتشغل أخباره وأحداثه مساحات واسعة ضمن صحافة العالم العربي بمختلف مواقفها وانتماءاتها ، ناهيك بالطبع عن الهيمنة المطلقة لتداعياته المتفاقمة ومعطياته المتواترة على نتاج صحافتنا المحلية ، بتعدد أطيافها المذهبية وتنوع مشاربها العنصرية ، تلك التي أدمنت على مهام تزويق الواقع برغم بشاعاته ، وفبركة الإنجازات برغم وهميتها ، وترميم الصدوع برغم اتساعها . بعد أن طال عليها الأمد وهي تردد أكاذيب الحكومات وتكرر ترهات المسؤولين ، حيال أحلام الإصلاح السياسي ، وأضغاث التحديث الاجتماعي ، وأساطير الاعمار الاقتصادي ، وخرافات التنوير الثقافي ، التي ما أن تطالع عناوينها وتقرأ متونها ، حتى تعتريك مشاعر السخط والقرف وتصاب بنوبة من الغثيان . ذلك لأن حالة بهذا القدر من الانحطاط الإنساني والتحلل القيمي ، كفيلة بطرح العديد من التساؤلات وإثارة الكثير من الإشكالات ، التي لا تستدعي فقط طغيان وازع التصدي لها وجيشان رغبة الكتابة عنها فحسب ، وإنما تستفز بواطن العقل وتستثير خفايا الوجدان ؛ لكشف المتسببين بها وفضح المنخرطين فيها وتعرية المستفيدين منها . فعلى الرغم من أن كل الدلائل الواقعية الصارخة والمؤشرات الحياتية الفاقعة ، التي تفصح عن شراسة الصراع بين أرباب التجهيل السياسي ، وعدوانية العلاقات بين أزلام التضليل الديني ، وقطيعة المصالح بين طواغيت التهويل الطائفي ، لم تبرح وسائل الإعلام المملوكة للدولة ومؤسساتها والناطقة بلسان الحكومة وأجهزتها ، تمطر عقل المواطن العراقي المسحوق بوابل من التصريحات الدونكيشوتية والمزايدات العنترية ، حول ما تزعمه من عديد النجاحات السياسية المدوية ، والمشاريع العمرانية العظيمة ، والإنجازات الخدمية المذهلة . للحد الذي إن استعراضها اليومي وإيرادها المتكرر – خلافا”لما يجري على أرض الواقع من مهازل سياسية ونوازل اجتماعية – تسبب في تشويش ذهنه من حيث أريد له الصفاء ، واضطراب نفسيته من حيث ابتغي لها الاستقرار ، وتفاقمت لواعجه من حيث توقع لها الزوال . ففي الوقت الذي لا تكل فيه ولا تمل وسائل الإعلام الرسمي من تسويد غالبية صفحاتها ، بما تروج له من تحولات نوعية في مجالات الأمن والخدمات ، وتغييرات هيكلية في قطاعات الاقتصاد والعمران ، وتطورات ثورية في ميادين الفكر والثقافة ، وقفزات عملاقة في مضامير الصحة والتعليم . فان مظاهر التنازع بين القبائل السياسية والتناحر بين العصائب الطائفية ، بلغ من التكالب المصلحي والتغالب الفئوي حدا”أتاح لمشاهد العنف الدموي أن تتحول إلى طقوس يومية تحصد المئات من الناس الأبرياء وتحدث دمارا”هائلا”في البنى الممتلكات ، لا سيما في ظل ظروف انعدام تام للخدمات البلدية وغياب مطلق للمراقبة الوظيفية . كما وان معدلات الفساد بكل أنواعه وأشكاله (المالي والادراي والأخلاقي)، فضلا”عن النهب المنظم للمال العام من قبل كبار الساسة ورموز السلطة ، ناهيك عن الدرجات الأدنى والمستويات الأوطئ ، أضحت مؤشراتها تتسع ومعطياتها تتصاعد بمتواليات هندسية لا حدود لها ، بحيث إن الحديث عنها في التصريحات والمقابلات والإشارة إليها في الندوات والاجتماعات ، بات يشكل أمرا”عاديا”ومظهرا”مألوفا”من جملة مظاهر واقعنا المخترق وحياتنا المنتهكة . هذا في حين إن مظاهر الدمار الاقتصادي والخراب العمراني التي ضربت جميع مرافق الدولة وطالت كل قطاعات المجتمع ، لم تفتأ وتائرها تتضخم ومصائبها تتوالى في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد ، لتحيل حياة المواطن العراقي إلى سلسلة من المآسي الدائمة والمعاناة الأبدية . وفيما يتعلق بحرية الرأي السياسي حيال ما يجري من تغييب للحوار وتغليب للعنف ، والتعبير عن استقلالية الموقف الفكري إزاء ما يحدث من تسطيح للوعي الوطني وتخريب للثقافة العقلانية ، فأنها أصبحت من المحرمات التي يعاقب عليها قانون السلطة ، وتطاردها مؤسسات الحكومة وتقمعها أجهزة النظام وتكفرها فتاوى رجال الدين . أما إذا عرجنا على ما لحق بقطاعات الصحة والتعليم من إهمال في الخدمات واستفحال في الفساد واستشراء في الرشى فان الأمر يبدو أدهى وأمر، لاسيما وأن المهام التي تقوم بها تلك الدوائر والمؤسسات ، تتعلق بحياة المواطنين وسلامتهم في الحالة الأولى ، وتتصل بتكوين شخصيتهم الاجتماعية وبناء هويتهم الوطنية في الحالة الثانية . وهكذا يبدو أن وسائل الإعلام الرسمية قد استمرأت لعبة غمط الحقائق الموجعة وإخفاء الوقائع المؤلمة ، التي يعج بها واقعنا بمختلف مكوناته وتضج بها حياتنا بتنوع مستوياتها ، جراء الإخفاقات السياسية المتوالية ، والاختلاسات المالية المتواصلة ، والادعاءات الوطنية الزائفة ، والتكتلات الطائفية المتخندقة ، والاصطفافات الحزبية الهشة ، والولاءات القبلية المتذررة ، والانتماءات العنصرية المتشظية . مفضلة بذلك انتهاك عهد المصداقية المهنية الذي قطعته للمواطن ، على تأشير العيوب وتشخيص العلل وتحديد المسؤوليات التي لم تبرح تطحن أحلامه وتذروا آماله ، ومن ثم ، اجتراح الحلول واستنباط المعالجات التي من شأنها الحد من عوامل غفلته واستغفاله من جهة ، والإسهام في شحذ وعيه وتنمية مداركه وتقوية إرادته وبلورة شخصيته من جهة أخرى . والمفارقة في هذه المسألة هي إن معظم فعاليات الإعلام المسيس ، لا تلبث أن تقع بذات المحظور الذي كانت تؤآخذ عليه ممارسات نظيرها في إعلام السلطة السابقة ، لا سيما في مجالات طمطمة الأخطاء السياسية ولملمة التمزقات الاجتماعية وتغطية الانهيارات الاقتصادية وستر الانحرافات الأخلاقية . بحيث أنها لم تجد حرجا”في اللجوء إلى شعار وزير الاعلام النازي سيئ الصيت (غوبلز) الذي مفاده:( اكذب اكذب حتى يصدقك الناس) ، دون أن تضع باعتبارها طبيعة المآل الذي انتهى إليه النظام الذي اعتمد صيغة ذلك الشعار المهلك . لذلك فان على وسائل الاعلام الرسمية التي لم تفتأ تطبل وتزمّر للحكومة حقا”أو باطلا”، أن تتخلى عن أسلوب الدعاية السياسية ومنطق الإعلان التجاري ، في تعاطيها مع الأخبار والأحداث والوقائع والمعطيات التي تشهدها الساحة العراقية المليئة بكل ما في الاحتمالات من سيولة وبكل ما في التوقعات من هلامية ، وأن تدرك حقيقة طالما أهدرت قيمتها وسفهت ضرورتها الأنظمة السابقة ، تحت حجج وذرائع ما أنزل الله بها من سلطان ؛ وهي إن مكاشفة الجمهور بالمصاعب والمعوقات التي ينبغي عليه مواجهتها بإرادته والتصدي لها بعزيمته والتغلب عليها بصبره والتخلص من آثارها بمثابرته ، أفضل من حيث النتائج الآنية والتوقعات المستقبلية ، فيما لو جرى تزويقها وتسويقها كما لو أنها حصيلة ضرورية من حصائل التحول الديمقراطي المزعوم (( إذ إن الداعية – كما أشار أستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية الدكتور رالف رزق الله – لا يتوجه إطلاقا”إلى (وعي) الأفراد و(منطقهم) ، بل يستخدم (الأفكار المنمطة) ويستفيد من النكوص المنطقي لدى الجمهور وعدم تأهيله الكافي في ميدان المنطق . كما يتوجه أيضا”إلى الغرائز والى الركن اللاواعي من الشخصية)). فنقد إخفاق الحكومة وتعثرها ومساءلة نفاق السياسيين وتهتكهم ، لا يضعف النظام السياسي ولا يقلل من هيبة السلطة – كما قد يخشى المتكسبين والمتطفلين – بقدر ما يصلب أركان الأول ويقوي شوكة الثانية ، ويؤسس بالتالي لقيام دولة القانون والمؤسسات التي سيكون معيار المواطنة فيها ؛ نكران ذات الفرد لصالح أنا الجماعة ، وتقديم الشعور بالمسؤولية الوطنية على حساب الاستئثار الشخصي ، والعمل بوازع المصلحة العامة بدلا”من نوازع الغلبة الأنانية ، والاحتكام إلى مبدأ المواطنة في الحقوق والواجبات بدلا”من نعرة القبيلة أو الطائفة أو الاثنية ، والاعتصام بحبل الجغرافيا الواحدة والتاريخ المشترك بدلا”من الأصوليات البدائية والأرومات التحتية والثقافات الفرعية والمنابت الجهوية.