لا بد لنا ونحن نستذكر أيام الثورة الحسينية تلك الملحمة الخالدة التي أبت أن تنطفئ وسطع نورها وشعاعها على بقاع الأرض كافة وفي مختلف الأزمان أن نستلهم منها العبر والدروس التي سطرت في يوم كربلاء تلك الأرض المقدسة التي إحتضنت الدماء والأجساد الطاهرة لعترة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله، ومن المعلوم أن مقالاً أو عدداً من الأسطر لا يمكن أن يحيط بكل تلك العبر والدروس التي ساقها لنا الإمام الحسين عليه السلام ومن كان معه في تلك الواقعة، إلا أننا ناخذ منها بعض الشذرات ونتوسع بها لكي نأخذ منها الفائدة المرجوة، إن مسير الحسين إلى كربلاء المقدسة وإستشهاده فيها لم يكن حدثاً عابراً وإنما هو أمر مدروس ومخطط له من قبل الباري عز وجل ويدخل ضمن التخطيط الإلهي، الذي أراد الله بها هز المشاعر المسلمين والعالم أجمع وإيقاظهم من السبات والغفوة التي ركنوا إليها (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (هود:113)، ومن المعروف أن الحسين عليه السلام عندما خرج على الحاكم الفاسد في ذلك الزمان وهو يزيد، لم يكن طالباً للحكم والسلطة لكي يتنعم بها هو وأصحابه، وإنما كان يعلم بمصيره المحتوم ألا وهو القتل ونيل الشهادة على يد أتباع يزيد إذ قال الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه إلى العراق (خير لي مصرع أنا لاقيه، كأن بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، يملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباء لا محيص عن يومٍ خط بالقلم)، لذا فمن هنا نعلم أن الإمام الحسين عليه السلام كان موقناً بالموت ونيل الشهادة، ولكن ما هي الغاية التي من أجلها خرج الإمام الحسين هو ومن معه من أهله ونسائه وأصحابه؟، وقد أخبر الإمام من معه بالمصير الذي سيحيق به، وترك لهم الباب مفتوحاً للهرب والنجاة من الموت المحتم إذ قال (ع) :(ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم فإنطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل غشيكم فإتخذوه جملاً)، إذا كان للإمام الحسين غاية كبرى وهدف عظيم، لا يستطيع أن يقوم بهذا العمل إلا من كان قلبه مطمئناً بالإيمان لذا ترك من كان يطلب الحياة والمال والجاه ليذهبوا عنه، وأبقى على القلة القليلة المخلصة من أتباعه وأهل بيته ليقوموا بهذا المشروع الرسالي، الذين قاتلوا وهم موقنون بحتمية الموت، إلا أن الغاية والهدف السامي الذي حملوه في صدروهم كان يستأهل تلك التضحيات من أجل إحياء الإسلام والقيم الإسلامية ومحاربة الفساد والظلم في الأرض(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبة ومنهم من ينتضر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب:23)، إذ قال الإمام الحسين قولته المشهورة (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وأله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) وذلك بعد أن رأى أن الظلم والفساد الذي إستشرى في عهد الطاغية يزيد لا يمكن السكوت عليه، ولا بد للقيام بوجه الفاسدين الذين يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وعاثوا في الأرض فساداً ونهبوا أموال المسلمين وصرفوها على المفاسد والملذات الشخصية، ومن المناسب هنا أن نذكر ما كتبه الحسين عليه السلام إلى أشراف الكوفة (أما بعد، فقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغير بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله)، أي أن يحشره الله يوم القيامة معه في النار (وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا في الأرض الفساد، وعطلوا الحدود والأحكام، وإستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله) ومن هنا نرى أن الإمام الحسين كان هدفه محاربة الفساد بكل أشكاله الذي إنتشر بفعل القيادة الظالمة والإدارة المنحرفة التي كانت في عهد يزيد، ومع العلم أن ثورة الحسين لم تنجح من الناحية العسكرية، إلا أنها نجحت أيما نجاح في ترسيخ المبادئ الحسينية في أذهان الناس وإشعال شعلة محاربة الفساد والمفسدين في مختلف العصور والأزمان، فلا تزال الثورات الفكرية والحربية ضد الظلم والفساد تستضيء بشعاع الثورة الحسينية، وتجردت الأقلام لإستلهام المبادئ والأسس الأخلاقية التي أسس لها الإمام الحسين في يوم عاشوراء، فيوم عاشوراء هو درس لنا جميعاً ومعين لا ينضب من العطاء نقتبس منه الدروس والعبر التي لا بد أن نتخذها مبدأً لنا في الحياة لا سيما ونحن نعمل في مجال محاربة الفساد فإن ثورة الحسين عليه السلام تحثنا على المواصلة والجهد الدؤوب في هذا المجال والتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحقيق تلك تلك الأهداف السامية، وأن المبدئية في العمل والإيمان بضرورة محاربة الفساد لهو ركن ركين في نجاح عمل كل مؤسسة تعمل في مجال محاربة الفساد، والقضاء على الظلم وإحقاق الحق. فإن جدلية الصراع بين الحسين ويزيد لم يكن صراعاً شخصياً، وإنما كان صراعاً مبدئياً .. الصراع بين الحق والباطل .. الصراع بين النزاهة والفساد .. الصراع بين الإصلاح والظلم، الموجود في كل زمان ومكان.
ماجستير علم نفس تربوي
[email protected]