23 ديسمبر، 2024 9:25 ص

الإصلاح الاجتماعي… ثمار طيبة من نبت أصيل

الإصلاح الاجتماعي… ثمار طيبة من نبت أصيل

منهج القرآن الكريم في الاصلاح الاجتماعي يتحدد ضمن الاحترام المتبادل بين المسلمين واحترام حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليهم وجعلهم في مصاف واحد من المحبة والتواصل في اطار الاخوة الإسلامية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (الحجرات: 10) وأكد على ضرورة الإصلاح في أي وقت حاول الشيطان ان ينزغ بينهم حيث أمر المجتمع بضرورة القيام بدور الاصلاح فورا وعدم التفرج على المعارك بين المسلمين بل أمرهم القيام بدور الاصلاح ولو بالقوة فيما إذا حاولت طائفة عدم التقيد بأوامر الله (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (الحجرات: 9).
يحاول القران الكريم دائما ان يصلح بين المؤمنين ويقربهم اكثر فاكثر الى الأخوة والتوادد والتواصل بعيدا عن التباغض والاقتتال والتناحر، وهذا ما دأب عليه في اكثر من آية لاسيما الآنفة الذكر فإنها تدعو المؤمنين قاطبة ان يجلسوا الى مائدة الصلح والوئام، واذا تطلب الأمر استخدام القوة لإجبار كل من تسول نفسه التمرد على حالة المودة بين المؤمنين، وارجاعه إلى فطرته السليمة التي تتوائم مع كل ما يصب في خانة الاصلاح وتتنافر مع كل ما يصب في خانة الافساد، هي دعوة قرآنية مباركة للتعايش السلمي بين الناس، كل يتمتع بحقوقه وواجباته دون انتقاص من احد مهما يكن انتماؤه وولاؤه وميوله، اللجوء الى أمر الله هو الفيصل في تحقيق العدل بين طبقات المجتمع، والله تعالى لا يريد ظلما بالعباد، وانما هو العدل المطلق الذي يفيض القسط على عباده ويقرّب كل من يقسط بين الناس ويقيم عدلا ويحارب باطلا.
ومن أجل المحافظة على سلامة المجتمع الإسلامي من الفساد والمفسدين أمر القرآن عبر إرشادات لقمان الحكيم بالوقوف أمامهم والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (لقمان -17) ولا ابالغ في القول ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما سنام الاصلاح وقمته السامقة التي بهما نستطيع أن نقيم جميع الأحكام الإلهية وعلى رأسها فريضة الصلاة، والمصلح الذي يقوم بهذه الأدوار المهمة يواجه الكثير من المحن والمصائب والمعوقات التي يضعها أصحاب النفوس الضعيفة لعرقلة مهامه، وما عليه إلا أن يتمسك بحبل الصبر ويحتسب ذلك كله لله تعالى، فإن ثمرة الصبر على المكاره تكون جميلة ومذاقها حلو يستسيغه كل من يرتع في واحة الاصلاح اليانعة، وما يتأصل منها من فيوضات مادية ومعنوية ينعم الجميع بظلالها الوارف وعطاءها الدائم وخيراتها التي لا تنقطع ولا تبور، والأمة الإسلامية إنما أضحت خير أمة حينما قامت بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). (ال عمران: 110).وهكذا تتوالى خيرات الاصلاح الجمعي، ولكي يبقى المجتمع محافظا على سلامته وصلاحه أمر القرآن بضرورة العناية بالأيتام وتربيتهم حتى لا يقعوا فريسة المجرمين، ودعى الى ضرورة الإصلاح في العلاقات الزوجية بمجرد ان يبرز هناك خلاف قد يؤدي إلى الانفصام والشقاق، وفي محاولة لاستمرارية صلاح المجتمع عبر الأجيال القادمة أمر الله عز وجل في كتابه الكريم ان يتبادل المرء المحبة والإحسان بينه وبين والديه حيث يديم الله صلاح ذريته عبر الأزمان، ليس هذا وحسب بل ذهب القرآن الحكيم في مجال إصلاح المجتمع على أن يكون التشاور بين الأمة والقيادة يدور ضمن الإطار الإصلاحي حيث نفى صحة أي نوع من التشاور الا إذا كان ضمن إحدى هذه الأمور الثلاث: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). (النساء: 114) فالتشاور مع القيادة لرفع حاجة من حاجات أحد أفراد المجتمع لا سيما المادية منها هو (الأمر بالصدقة) أو اسداء الخير والمعروف بين الناس وهو (الأمر بالمعروف) أو الطلب من القيادة لإصلاح ما فسد من أمور المسلمين وهو الاصلاح بعينه.
وبما ان هناك تخوف مستمر قائم من العناصر الفاسدة ان تدخل في المجتمع الإسلامي لنشر الفساد جاء القرآن العزيز بسلسلة من الأوامر الصارمة ضد المفسدين من سراق وزناة ومطففين وآكلي أموال الناس بالباطل، في محاولة لاستئصال هذه الجراثيم القاتلة كليا من المجتمع تماما مثلما يفعل الأطباء في استئصال مرض السرطان -مثلا- من البدن المصاب، وهناك مجموعة كبيرة من القوانين الإسلامية والآيات القرآنية في إصلاح المجتمع الإسلامي والمحافظة على صلاحه لا مجال لذكرها في هذا البحث المختصر.
وجود قوانين تدافع عن حقوق وكرامة الانسان لا يكفي في تحقيق الاصلاح في المجتمع، بل لابد من وجود القائد المصلح الذي باستطاعته تطبيق تلك القوانين واستيفاء الحقوق لأصحابها، ومن دونهما فكل إصلاح يراد تحقيقه في المجتمع فهو إصلاح ناقص أبتر إن لم يكن في بعض الحالات يفسد أكثر مما يصلح. فالإصلاحات الاجتماعية التي تنادي بها بعض المؤسسات أو الأحزاب السياسية ما هي الا إصلاحات جزئية تشمل جانبا معينا من جوانب المجتمع على أحسن فرضها إن تحقق هناك إصلاح! وما فائدة هذه الإصلاحات إن لم تكن شاملة ونحن إذا اردنا ان نحقق الإصلاحات القرآنية في المجتمع لابد وأن نحقق تطبيق القرآن بشكل كامل وبقيادة حكيمة، وقد بشر الله الأمة الإسلامية والمجتمعات البشرية بتحقيق هذا الإصلاح الكامل الشامل ببعث الإمام المهدي المنتظر لتحقيق العدالة على ربوع الكرة الأرضية ليملأها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا وهذا ما نأمله عن قريب إن شاء الله حيث وعدنا الله بذلك في كتابه الحكيم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). (الانبياء: 105).