ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الإسلام والإيمان من المترادفات ولا يمكن وصف الإنسان بأنه مسلماً على حد تعبيرهم مالم يكن الإيمان قد دخل في قلبه، أما دليلهم في ترادف الإسلام والإيمان فهو قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين***فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 35-36. والمشار إليهم في هاتين الآيتين هم لوط وأهل بيته باستثناء امرأته التي كانت من الغابرين كما تدل على ذلك آيات أخرى، ومنهم من أدخل بعض التعديلات على هذا النهج وذهب إلى أن اجتماع الإسلام والإيمان يقتضي التفريق في معناهما، وعدم اجتماعهما لا يقتضي التفريق في المعنى، وعند تأملنا في هذين الإتجاهين نجدهما لا يثبتان أمام متفرقات القرآن التي تظهر الفرق بين الإسلام والإيمان كما سيمر عليك.
وسبب اختيارنا لنهج التفريق أمر يفرضه واقع الأمة بشهادة نبيها الأكرم (ص) حيث قال: [تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط].. وهذا من الأحاديث المتفق عليها وقد روي بألفاظ أخرى، إضافة إلى أحاديث الشفاعة التي تواترت في إخراج بعض المذنبين من النار وهؤلاء بالطبع لا يصدق عليهم مسمى الإيمان الحقيقي، ولا أريد الإطناب في هذا الموضوع لأنه يخرجنا عن أصل البحث المقرر لهذا المقال، من هنا يظهر أن الإنسان الذي يعلن إسلامه دون العمل بمقررات الدين يمكن أن يجري عليه ما على المؤمنين من حقن دمه والحفاظ على ماله وعرضه، إضافة إلى الأحكام الظاهرية كالمواريث والنكاح وغيرها، لأن الإسلام أمر قائم باللسان، ومن هنا نستطيع القول إن الإسلام والإيمان يفترقان في أصل التسمية، حيث يكون الاعتراف والإقرار مجزياً في الأول، أما الإيمان فلا بد أن يلازمه العمل دون أن ينفك عنه بأي حال من الأحوال.
وهذه الحقيقة تظهر في كثير من الآيات التي تُقابل الإسلام بالشرك، ومن جهة أخرى هناك مجموعة من الآيات يتقابل فيها الإيمان والكفر، كما في قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) آل عمران 67. وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) الأنعام 14. أما الآيات التي تقابل الكفر بالإيمان فمنها قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) آل عمران 167. وكذا قوله: (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين) آل عمران 86. وقوله: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) البقرة 108.
وهذا التقابل يبين حقيقة التسليم لله تعالى التي لا يمكن اجتماعها مع الشرك، ومن ناحية ثانية يبين أن الإيمان لا يتعدى الاعتقاد القلبي، ولذا قابله تعالى بالكفر الذي يفيد معنى الستر والتغطية، والستر يظهر في كليهما باختلاف النهج الموضوع للمعنى المقرر لهما. ومن هنا نعلم أن اجتماع الإسلام مع الإيمان هو الفيصل الذي تبنى عليه المرحلة النهائية لحقيقة الإخلاص والتوجه لله تعالى، وهذه المرحلة هي التي يُقرَر على أساسها أوليات المراتب المبينة للإسلام، وهذا ما تشير إليه الآيات الناظرة إلى هذا الشأن، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) البقرة 208. وقوله: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف 69. وهناك آيات كثيرة على هذا النحو تبين المرتبة العليا الحاملة للنسب المتفاوتة بين الإسلام والإيمان، والتي نستخلص منها التصاق الإيمان بالإسلام واجتماعه معه بنسبة الخاص إلى العام، وهذا يبطل رأي من قال بالترادف، وقد بين الحق [جل شأنه] هذه النسبة بقوله: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات 14. والآية لا تثبت لهم الإيمان بخلاف الإسلام الذي أمر تعالى النبي (ص) أن يصفهم به ثم أمرهم بانتظار الإيمان الذي لم يدخل بعد في قلوبهم.
ومما مر نكون قد توصلنا إلى أن قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 85. يظهر فيه أن الإسلام المشار إليه في هذه الآية هو الإسلام الذي يُدخل الإنسان إلى دائرة المحاسبة، والنظر في أعماله المترتبة على هذا الانتماء الذي قابله تعالى مع الطرف الخاسر المشار إليه في منطوق الآية، وهذا الطرف هو الذي اختار غير الطريق الذي شرعه الله تعالى على لسان رسله، وأنزل فيه الكتب التي بينته، والمعجزات التي أثبتت صحته، وبطبيعة الحال فإن من يسلك غير الطريق الذي شرعه الله تعالى لا بد أن يكون من الخاسرين. وفي الآية مباحث أعرض لها:
المبحث الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة (ونحن له مسلمون) آل عمران 84. أتبعه بأن بين في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول، لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله عن ذلك العمل ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، ولذلك قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27. ثم بين تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله، فكذلك يكون من الخاسرين، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب، وحصول العقاب، ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل، واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) إلا أن ظاهر قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) الحجرات 14. يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما، أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي. انتهى. أقول: عدوله إلى التوفيق بين الآيتين دون قرينة مجدية لا يعتبر دليلاً على حمل الآية الثانية على الوضع اللغوي دون الشرعي فتأمل.
المبحث الثاني: قال الجنابذي في بيان السعادة: اعلم أنه تعالى أشار في هذه الآيات إلى أقسام الناس التسعة بالمنطوق والمفهوم لأن الإنسان اما طالب لدين أو غير طالب، والطالب اما يبتغي الإسلام ديناً فجهده مقبول وهو من الرابحين، وهو مفهوم مخالفة من يبتغ غير الإسلام ديناً، واما يبتغي غير الإسلام ديناً وهو منطوقه، وغير الطالب اما داخل في الإسلام أو غير داخل سواء كان داخلاً في دين وملة أخرى أو كان واقفاً في جهنام الطبع، وغير الداخل في دين الإسلام كافر وهو اما يموت على الإسلام حين ظهور الولاية عليه حال الاحتضار، أو على الكفر وقد أشار إليهما بمنطوق قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) بمفهومه، والداخل في الإسلام اما يرتد عن ملة الإسلام أو يبقى عليها من غير ازدياد فيها، والمرتد الملي اما يتوب أو يبقى على ارتداده من غير ازدياد فيه ومن غير انجراره إلى الإرتداد الفطري، وقد أشار إلى هذه الثلاثة بمنطوق قوله: (كيف يهدي الله قوماً) إلى قوله: (إلا الذين تابوا) ومفهومه وقد أشار إلى الباقي على الإرتداد مع انجراره إلى الإرتداد الفطري الذي لا توبة له، وإلى الباقي على الإسلام مع ازدياده وانجراره إلى الإيمان بمراتبه بقوله: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم) إلى آخر الآية بمنطوقه ومفهومه. انتهى. وفي البحث بعض التفاصيل العرفانية والكلامية، من أرادها فليراجع تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة للجنابذي.
المبحث الثالث: ذكر البغوي في معالم التنزيل: إن الآية نزلت في اثني عشر رجلاً ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً، منهم الحارث بن سويد الأنصاري، فنزل فيهم: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). انتهى. وذكر هذا السبب عن طريق غيره من المفسرين. فإن قيل: ماذا عن الذين ذهبوا إلى الاستدلال بآيتي الذاريات على الترادف؟ أقول: الآيتان فيهما دلالة على الوصف والمبالغة، وهذه المبالغة تقتضي التفريق، ومعنى ذلك: كأن الله تعالى يقول أخرج الملائكة من كان فيها من المؤمنين، والإشارة إلى بيت لوط على طريقة الوصف، ثم مدحهم بالإسلام، وهذا ضرب وعدول عن الوصف بالإيمان، والثناء عليهم ظاهر في قوله تعالى: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 36.