والبعض يستشهد بـ (وثيقة المدينة) على اعتماد محمد لمفهوم المواطنة، والإقرار بالتعددية والتعايش، فهذا كان في البداية، قبل أن تقوى شوكة الإسلام، ولذا نقضها النبي بعد أن أصبح الإسلام قويا. وسبب نقضه لها، حسبما يدعي المسلمون، هو أنه انتهت إلى مسامعه معلومات بتآمر اليهود على الإسلام والمسلمين، فكان هذا مبررا لإبادة بني قريضة، إبادة جماعية لرجالهم، وسبي نسائهم. ثم الإسلام بعد فتح مكة وبسط نفوذه على الجزيرة، كان قد ألغى التعددية الدينية كليا، حيث وجب على جميع سكان الجزيرة أن يدخلوا الإسلام ويشهدوا بالشهادتين، سواء عن قناعة، أو حقنا لدمائهم، مما أدى إلى بروز ظاهرة ما أسماه القرآن بالنفاق والمنافقين.
ويعتبر البعض سن وإقرار النبي لمبدأ البيعة في تولي الحكم، بحيث طبقها على نفسه في المدينة، ليعمل بها بعده الخلفاء الراشدون، وخلفاء بني أمية وبني العباس، مما يعني أنه لم يتول الحكم خليفة نصب بأمر الله، ويستدل هذا البعض على اعتماد الإسلام على يد نبيه لأهم مبدأ من مبادئ الدولة المدنية، وهي أن الشعب هو مصدر السلطات، ولنسلم إنها كانت فعلا بادرة حضارية. لكن هل يعتقد أحد أنه كان هناك من يجرؤ على رفض المبايعة؟ ثم الخلفاء من بعد محمد خاصة في الدولتين الأموية والعباسية، وما تبعهما، بل حتى في ظل الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، كانوا يمثلون سلطة مستبدة، ولم تكن البيعة إلا شكلية وجبرية. وإلا لماذا قُتِلَ الحسين بسبب رفضه لمبايعة الخليفة الأموي الثاني؟ ومن قبله من لم يبايع الخليفة الأول اعتبر مرتدا عن الإسلام، وحورب وقتل. وعندما أذكر هذه الأمور كحقائق تاريخية، لا يعنيني ما يستند إليه الشيعة إلى أحقية الخلافة لأهل البيت، فلست معنيا بالتشيع ولا بالتسنن.
صحيح هناك ما يدل على جواز اجتهاد القائد السياسي. وهنا يستشهد بحادثة تروى عن محمد مع معاذ بن جبل، عندما بعثه قاضيا إلى اليمن، فقد سأله محمد بماذا يقضي، فقال بكتاب الله، فإن لم يجد، فبسنة رسول الله، فإن لم يجد، فباجتهاده، مما استحسنه النبي. فدعونا نسأل هل يا ترى، لو عاش النبي في زماننا، حيث كل وسائل التواصل، أما كان سيقول له اتصل بي، أو اكتب إلي؟ فمع البعد، ولعدم وجود وسيلة تواصل، لم يكن للنبي حل آخر.
ويستشهد هؤلاء المسلمون النافون لكون الإسلام دينا ودولة، خاصة الشيعة منهم، بموقف علي عندما رفع الخوارج شعار «الحاكمية لله»، فكان رده علي ذلك: «كلمة حق يراد بها باطل»، فيتخذونه دليلا على أن الحاكمية أمر من أمور الدنيا وهو منوط بالبشر، وباجتهاد الحاكم. فأولا إن عليا أقر أن «الحاكمية لله» تمثل كلمة حق، أي قاعدة شرعية ملزمة صحيحة من حيث المبدأ، لكنه كعارف بالقرآن، بأنه حمّال أوجه، كما عبّر، وعارف بنوايا خصمه في رفع هذا الشعار، علم أنه لو فتح باب الرجوع إلى القرآن، لكانت بداية تحاجج وتحاجج مضاد ليس لها نهاية، لأنه يعلم أن القرآن فيه ما يستطيع كل طرف أن يجد فيه ما يؤوله لصالحه. فقد أقر بأنها من حيث المبدأ هي كلمة حق، لو طبقت من أهل حق، لكن أريد بها باطل، لأن الطرف الآخر كانوا أهل باطل بالنسبة له. ثم إذا جعلنا عصمة علي التي يؤمن بها الشيعة جانبا، يمكن أن نحتمل إن عليا يمكن أن يكون قد خالف هنا باجتهاده القرآن والسنة. فهناك مؤشرات إلى أن عليا بدأ في شيخوخته يكون لنفسه فهمه الخاص للإسلام، وهكذا كل الخلفاء اجتهدوا في مقابل النص القرآني والنبوي.
إذن الكثير مما في القرآن يدل على عدم وجود إسلام غير سياسي، وآخر سياسي، بل إن الإسلام = الإسلام السياسي. نعم في واقع المسلمين، ومن حسن حظنا، ليس الإسلام مساوقا للإسلام السياسي عند كل المسلمين. ولكن لو درسنا الإسلام كإسلام، وليس كفهم وممارسة للمسلمين، فهو دين ودولة، دنيا وآخرة. وما (فريضة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا دليل على إن من الواجب على المسلمين إقامة المعروف – حسب معايير الكتاب والسنة – بيدهم، أي بما في ذلك بالسلاح، أو إِلَّم يستطيعوا فبلسانهم، أي باستخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وخطب الجمعة والمحاضرات الدينية. ونعلم على سبيل المثال إن من المنكر شرب الخمر، ومن المنكر وجود علاقة بين رجل وامرأة بدون عقد شرعي، ومن المنكر التبرج تبرج الجاهلية الأولى، أي عدم الالتزام بالحجاب، ومن المنكر التقاضي إلى غير ما يحكم به الإسلام، أي إلى القانون الوضعي، ومن المنكر مساواة المرأة بالرجل في الحقوق، ومن المنكر مساواة غير المسلم بالمسلم في الحقوق، ومن المنكر حرية الاعتقاد، بما في ذلك عدم الإيمان بالإسلام أي ما يسمى بالكفر، والإفصاح عن ذلك، حتى لو كانت العقيدة تمثل الإلحاد أو اللاأدرية أو الإيمان اللاديني، أو انتقال المسلم إلى دين آخر، ومن المنكر الفصل بين الدين والسياسة. والنهي عن كل هذه (المنكرات) لن يكون ممكنا إلا بوجود سلطة إسلامية، وبالتالي قوانين إسلامية ودولة إسلامية، إذا أريد لتغيير المنكر أن يكون بأعلى درجاته أي باليد، وإلا فباللسان، أما إنكاره بالقلب، فذلك أضعف الإيمان، ولا يكون مقبولا إلا عند الاضطرار.
لكن بما أن الإسلام متعدد الفهم، وبما أن علينا التمييز بين مسلمين ومسلمين، وبالتالي بين المسلمين والإسلاميين، وإن هناك من يفهم الإسلام مجرد علاقة بين المؤمن به وربه، لاعتقاده أن الإسلام دين الله، ولأن معظم المسلمين لا ينتمون إلى الإسلام السياسي، فنقول كعلمانيين ليبراليين، لا نعادي الدين، رغم موقف اللادينيين منا أمثاللي الناقد للدين، لا بد لنا أن نقر بوجوب احترام الحرية الدينية، ونحترم اعتقاد أتباع كل دين بدينهم، بما فيهم المسلمون، وندعو أن يكون كل من الدين، والدين الآخر، واللادين، شأنا شخصيا لا يقحم في شؤون الدولة والسياسية وشؤون الحياة العامة، التي من طبيعتها لا علاقة لها بالدين.