أسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ(م ).
كُلِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ ـ جَامِعَةُ المِنيَا
ثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة ، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط ، لكن قد تتجاوز حالة الصراع من سجالات الكتب والمناقشات وصراع الفضائيات بين الفريقين إلى الساحة الأكاديمية وهنا تصبح الظاهرة المستدامة أكثر شراسة لأنها تتعلق بمستقبل عقول صناع المستقبل أنفسهم ألا وهم الشباب ، وهذا ما ألفيناه واضحا خلال فترة المد الإخواني بصفة خاصة والجموح المستعر لتيارات الإسلام السياسي منذ سقوط نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس ، فكان الخلط بين الديني والسياسي من ناحية ، والخلط العجيب بين الديني والطرح المعرفي الأكاديمي من ناحية أخرى وهو المشهد الذي استرعى النظر والنقد ومن ثم تأويله.
واستعلاء التقوى الذي مارسه الكثير بل كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي في فترة حكم جماعة الإخوان لمصر جعلهم يتمتعون بخلفية رصينة لدى طلاب الجامعة لمعارفه ولما يقدمه لهم سواء كانت هذه المعرفة دينية أو علوما إنسانية كالتربية وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا ، أو علمية محضة كالطب والهندسة والصيدلة. والتماس المنتمين لتيارات الإسلام السياسي للمرجعية الدينية في أثناء طرحهم العلمي داخل قاعات الدراسة مكنهم من السيطرة على العقول من جهة ، وإيجاد فجوة من الشراكة والتفاعل مع غير المنتمين من الطلاب لفكر هذه الجماعات والتيارات ، لكن ما فكرة فيه هؤلاء الأساتذة حينها وربما لايزالون يسعون بخطى وئيدة لتحقيق ذلك هو أن الجمع بين السلطتين الدينية والمعرفية يمكنهم من إحكام السيطرة على أذهان طلابهم ومن ثم تسهل عملية التوجيه والإرشاد لهم من أجل تحقيق مطامح وأطماع وأهداف جماعة بعينها تماما كما فعل الأساتذة المنتمون لجماعة الإخوان فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي فضلا عن تحقيق حلم ضامر في نصوصهم المرجعية وهو إضعاف المؤسسة العلمية بصفتها رمزا للعلمانية والمدنية التي يرفضونها جملة وتفصيلا.
وتلك الفكرة ظلت لعقود بعيدة تراود زعماء التيارات الدينية ذات المرجعيات الراديكالية وهم في صراعهم الطويل الطويل مع رموز التنوير منذ منتصف القرن العشرين على وجه التحديد ، وبلغ الصراع مداه في تهميش جماعات الإسلام السياسي لأدوار أستاذ الجامعة المهموم بالنهضة الحقيقية وتنوير العقول وتبصير الأذهان والأبصار بإعمال العقل وضرورته ، كذلك كان مبدأ هذا التوجس المزمن بعقول زعماء وأنصار الفكر الراديكالي هو انتفاء الربط بين الشرع والحقيقة أي الفلسفة وطروحات العقل ، الأمر الذي دفع بهم إلى تكفير قاضي القضاة والفيلسوف الأول ابن رشد الذي يتبنى فكره معظم التنويريون ، واستهدفوا في ذلك الدمج بين الديني والسياسي والعلمي واستحالة التقاء الفلسفة بالشرع . وهذا الأخير هو الفقيه القاضي الفيلسوف الأندلسي صاحب أشهر المقولات التي أرقت فكر جماعات الإسلام السياسي منذ قرون ، ومؤسس التفجير العقلي الذي زلزل عروش تيارات التطرف والإرهاب ، فهو القائل ” إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر” ، و” اللحية لا تصنع الفيلسوف” ، وأيضا قال ” لسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق”.
وهذا ليس بجديد ، لأن تاريخنا الإسلامي القديم شهد جدلا واسعا وكبيرا بين العقل والنقل ، وهذا ما دفع المتأخرون حتى وقتنا الراهن إلى الرفض المطلق لمباحث الفلسفة ، كذلك الإعلان بعدم نجاح أو جدوى كافة الأيديولوجيات التي تنتمي للحداثة وأن تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية هي محض عبث.
وليس من باب الدهشة أن يقوم أنصار تيارات الإسلام السياسي من أساتذة الجامعات العربية في مصر وتونس والجزائر الدمج بين الدين والسياسة وصولا لسدة الحكم من بوابة تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فحسب لا من باب صحيح الشرع ، لكن الدهشة الحقيقية هو تسييس العلم والمعرفة والاتجاه ببوصلة الدرس الجامعي إلى تناول قضايا وأفكار تتواصل بالضرورة مع مرجعيات تلك الجماعات تماما كما حدث في مصر أيام فترة حكم جماعة الإخوان حتى سقوطهم الشعبي في الثلاثين من يونيو 2013 .
وكانت حجتهم أن التغيير الحقيقي في المعرفة هو الابتعاد عن علوم ومعارف الحداثة وكل ما ينتمي إلى فكرة المدنية التي تعد رجسا يدفع بالأمم إلى الانتحار الإنساني ، وهذا الدفع المستمر من جانب الأكاديميين خلق حالات من اهتزاز المعرفة الحقيقية لدى الشباب الجامعي ، وجعلهم في مقام مستدام من محاكمة المعارف التي تقدم لهم تحت قبة الجامعة . وكانت المشكلة الرئيسة وربما ظلت قائمة حتى الآن في ظل وجود خلايا نائمة لأنصار تلك التيارات وبقاء وجوه جامعية مستترة غير معلنة أنهم دون استثناء متفقون على الطرح المعرفي الذي يقدمونه إلى طلابهم لأن المرجعية لديهم ثابتة دونما تغيير أو تطوير فهي تم نقلها تحت سلطة السمع والطاعة ، بخلاف الأكاديميين ذات توجه التنوير ، المختلفين في طرحهم والمهمومين بنقد الواقع المعرفي بصور شتى وزوايا متباينة ، صبَّ هذا الاختلاف بين الفريقين لصالح أنصار تيار الإسلام السياسي لاتفاقهم في رصد الواقع ، وسرد المرجعية الخاصة بهم ، والتوجه إلى هدف محدد بغير لغط.
أما المرفَّهون من أصحاب قضايا التنوير ونهضة الأمم أحفاد ابن رشد فهو في شقاق واختلاف بقدر اختلاف مشاربهم الفكرية والمذهبية ، لذا فحينما ينقدون مجتمعاتهم البائدة أو الراهنة فهو يتمثلون مدنا فاضلة افتراضية قد نتلمسها فقط من خلال تغريدات إلكترونية أو منشورات يتم بثها وطرحا على مواقع التواصل الاجتماعي دونما فائدة مرجوة.
هذا من منطق البدايات المتباينة بين من زعم بالتنوير سلاحا لتطوير المجتمع ، ومن سعى في خفاء تارة وعلن تارة أخرى بهدف استغلال الدين وصولا إلا أغراض ومطامح سياسية ، أما عن النهايات أو بالأحرى محاولة لاستشراف نهايات الفريقين ؛ التنوير والراديكالية فالمشهد يبدو واحدا بغير اختلاف.
فتيارات الإسلام السياسي لم تحقق أغراضها لأنها باختصار ضد سيرورة التجديد والتطوير ، وانغلاقهم في نصوص بشرية وضعها مؤسسي تلك التيارات حتى صارت المرجعية المطلقة جعلت بمنأى عن حركة التغيير المجتمعي المتسارع والمتصارع أيضا. وفكرة ارتكان معظمهم إن لم يكن الكل إلى أفكار أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب وعبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري التي لم تخرج عن توصيف المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات جاهلية منحرفة عن التعاليم الإسلامية هي التي أودت بأصحابها والأفكار نفسها إلى هاوية التطبيق والإجراء.
وخصوصا سيد قطب الذي ظل في كتابه الأشهر ” معالم في الطريق ” يؤسس لجاهلية المجتمع الإسلامي القائم وتكفير الأنظمة السياسية الحاكمة ربما لخلافات تبدو شخصية في المقام الأول ، سرعان ما تحولت إلى مرجعية لمريديه من القطبيين وأنصار جماعة التكفير والهجرة لاسيما وأنه استطاع أن يقدم منهجا ثابتا لأنصاره مفاده أن الحكومات ورعاياها أيضا يقبعون في دوائر الكفر والضلال ومن ثم لابد من تغيير حالة الفسوق التي تتسم بالشيوع باستخدام العنف والقوة.
ووفقا لقاعدة السمع والطاعة في المنشط والمكره المثبتة في المرجعية المعرفية لجماعات الإسلام السياسي لاسيما المتصفة بالتكفير ومواجهة رموز التنوير بالعنف فإن كل وافد جديد لهذه الجماعات لا يجوز له الانحراف عن هذا الخط والنهج المرسوم لزمن معين ولخلافات تاريخية وسياسية بعينها ولأغراض وأطماع ذات خصوصية.
لذلك نجد المهرولون صوب فكر الجهاديين والحاكميين في حالة هجوم مستدام لمواضعات فكرية محددة مثل حقوق الإنسان وحرية العقل وإعمال الفكر والتأويل ، رغم أن هذه المواضعات وغيرها حض عليها الإسلام الصحيح والشرع الواضح بغير اختلاف .
ومن هنا لا عجب في سقوط أفكار التكفيريين الجدد وانهيار أحلامهم الضاربة في القدم ، كما سقطت أفكار المؤسسين الأوائل لأنهم باختزال شديد في حالة هوس بمجتمع يبدو كافرا بل هو كافر بالقطعية من وجهة نظرهم القاصرة والضعيفة لأن واقعنا الراهن والمنصرم أيضا يفي بوجود مجتمعات دينية قائمة ومؤسسات دينية بارزة ولدى الشعوب العربية بطبيعة الحالة ولع ديني لا يمكن إغفاله أو انقضاؤه أبدا. وحينما نقيِّم تاريخ الحركات الإسلامية السياسية منذ اندلاعها فيسهل استشراف نهاياتها كونها لا تزال قابعة في فكرة الخلافة الإسلامية والالتحاف بكيانات وجيوب تاريخية معلنة حدادها المستمر على الواقع.
فضلا عن أن سياسات جماعات الإسلام السياسي يمكن توقع سقوطها التاريخي بامتهار ؛ لأنها تسهم في رمي الإسلام وأهله باتهامات خطيرة مثل الوحشية والتطرف والعنف والإرهاب المسلح ، والأخطر والأشد فتكا اقتناص الإعلام المقروء والمرئي والمسموع لحالات الهوس المرضي لكثيرين من المنتمين لتيارات الإسلام السياسي بل لقياداتهم بالمرأة وهذا الجنون الجنسي الذي يدفعهم إلى الحديث عن قضايا النكاح والزواج والرضاعة وأحكام المعاشرة أكثر من الفقهاء والأطباء والمصلحين الاجتماعيين.
هذا بالنسبة للفريق الأول ، أما أنصار التنوير رافعي شعارات نهضة الأمم بإعمال العقل ، فاستشراف نهاياتهم أيضا تبدو جلية ؛ لأنه بات من الضروري ابتعاد هؤلاء عن التنظير المطلق دون رصد حركة المجتمعات القائمة بالفعل ، والاقتراب المتواصل بغير انقطاع مع الجامعيين الشباب لمعرفة احتياجاتهم المعرفية وآفاق مطامحهم المستقبلية. كذلك يشكل بعض أنصار التنوير عبئا على الإسلام أيضا ؛ لأن بعضهم عاقد العزم على الطعن في الدين وثوابته من باب الولوج إلى متاهات الحداثة الأكثر غموضا ، ونجد بعضهم أيضا من يمارس فعل التيارات الراديكالية في الهجوم على الشخصيات الوطنية التي ساهمت في نهضة الأمة العربية وهذه قاعدة تظل راسخة لدى البعض لا يمكن الفكاك من رصدها.
وعليه ، فإن تاريخ الصراع بين أنصار التنوير وأنصار الراديكالية سيظل قائما ومشهودًا ، ويبدو أن كتاب السجال بين المواضعتين التنوير والراديكالية المرجعية سيبقى مفتوحا بغير انتهاء سواء في تشويه الدين بقصد أو بغير قصد ، وسيظل باهتا في سطوره ما لم ينتبه كلا الفريقين إلى أن الإسلام هو أقصى وآخر درجة لإعلاء العقل وهذا ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها صلى الله عليه وسلم.
أسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ(م)
كُلِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ ـ جَامِعَةُ المِنيَا