الديمقراطية من المفروض أن تطلق الطاقات وتترجم القدرات في واقع الحياة , لأنها توفر الحرية اللازمة لتصنيع الأفكار وتطويرها وتحويلها إلى مشاريع حضارية صالحة للبلاد والعباد , لكنها في مجتمعاتنا فعلت العكس تماما , لأنها تسببت في دحر الطاقات والقدرات وتعفنها وتأسنها وتكاثر الآفات فيها.
فالديمقراطية أسهمت في التكشير عن أنياب التطرف الشرس الفتاك , وحولت البلدان إلى ثكنات عسكرية متقاتلة , وصيرورات سلبية متعادية , حتى ضجت الموجودات منها وما جلبته من السيئات والتصورات الجائرة المدمرة للحياة.
الديمقراطية قتلت من الشعوب في بضعة سنوات أضعاف ما قتلته الأنظمة المستبدة في عقود عديدة , وكأنها لم تكن هدفا إنسانيا معاصرا وإنما عدوانيا على الذات والموضوع.
ففي عصر الديمقراطيات الخلاقة وجدتنا أمام تفاعلات التشظي والإندحار والتناحر والخروج من أوعية الأخوّة والألفة والرحمة , إلى مستنقعات السلوكيات الغابية الملونة بالدين , والتي حولت البلاد إلى خراب وشردت العباد.
ديمقراطية سوداء حزينة ظلماء , لم تنجز شيئا صالحا للإنسان , وإنما فتحت بوابات الجحيم في كل مكان , وصارت تتعمم بالطائفية والعنصرية والتحزبية والمناطقية والعشائرية , وكأنها نقلت الناس إلى عصور ما قبل التأريخ , وحوّلتهم إلى سبايا وعبيد في دواوين الإستئثار بالسلطات.
ووفقا لإرادة هذه الديمقراطيات العجيبة المستوردة تحول الفساد إلى عقيدة ومذهب ودين , وتم نهب ثروات البلدان وتشريد أهلها , ومصادرة حقوقهم , وحرمانهم من أبسط الخدمات الضرورية للحياة اللائقة بالبشر في أي مكان آخر.
ديمرقراطية الجهل والإنحرافات وتصفية الحسابات والتفاعلات اللاسيادية , التي أستبيحت بها هوية الوطن والتأريخ , وتفجرت في دروبها براكين الويلات والتداعيات الأليمة الأثيمة , التي أوجدت متواليات خسرانية ذات نتائج خطيرة في الحاضر والمستقبل.
ومن الواضح أن العيب ليس بفكرة الديمقراطية ومناهجها , وإنما العيب فينا أجمعين , فنفوسنا تعادي الديمقراطية , وكذلك أفكارنا وأضاليلنا , وجنوننا الذي يملي علينا أوهاما تخدعنا وتستعبدنا , فنحسب أننا ندري ونمتلك لب الحقيقة والمطلق , وغيرنا من الأعداء الذين لا يستحقون الحياة , بينما خلاصة الديمقراطية تتركز في آليات العيش المشترك , وكيف يكون الناس معا وسوية في طريق تحقيق المصالح المشتركة والسعادة الوطنية الشاملة.
فهل سنعي المستنقع الذي تداعينا فيه , وهل سنتمكن من رفده بالمياه الجارية لكي تتطهر القلوب والنفوس والعقول , وترى البصائر جوهر الإرادة الوطنية الجامعة؟!!