17 نوفمبر، 2024 1:46 م
Search
Close this search box.

الإزدواجية التشريعية … المنظومة الفقهية والقانونية

الإزدواجية التشريعية … المنظومة الفقهية والقانونية

في عوالم الشرق الاوسط التي تخلفت عن ركب الارتحال الى مسارات التحضر والحداثة بسبب الانغلاق الفكري النمطي التقليدي الذي يتأصل في سايكولوجية البداوة والجاهلية رغم التحديث التقني والمتغيرات النسبية في الفكر الانساني سيكون من المستحيل الارتباط باستقرار سياسي ما لم يتم تفكيك الجدلية المتلازمة في الصراع بين المنظومة الفقهية التشريعية والمؤسسات القانونية والنتائج التي تتمحور حول ذلك الصراع من ازدواجية الفرد المسلم الشرقي بين ان يكون تابعا مقلدا سائرا مع القطيع بلا عنوان ولا هدف يخضع الى منهج سلطة العقيدة والمنظومة الفقهية التي منحت شخصية المجتهد العصمة والقداسة لما يصدر من تشريعات متأصلة بموروثات خلافية اعتقادية ليست لها اية قواعد فكرية ولاتنبع من اصول معرفية وبين ان يكون فاعلا ومؤثرا في المجتمع من خلال هوية فكرية سياسية ترتبط بالحقوق والواجبات التي تتمخض عن القوانين الصادرة من بيئة نسبية ترتبط بالزمان والمكان والمصلحة العامه والتوازنات والمتغيرات المحلية والاقليمية والعالمية؛ وبعد تلك الاماد من التركه الثقيلة من الموروث وما اجتر عليه من التخالف والتمذهب والخرافة والتجهيل نرى تنامي مفهوم “الازدواجية البنيوية” بين الوعي الادراكي والنقد المعرفي والسلوك الحضاري وبين البيئة التقليدية التي تقيد الفكر في اطر الاحكام والمحرمات والمستحبات والمحظورات وثوابت النصوص والسلطة المطلقة للمجتهد الفقيه وهذا يعني التمرد والعصيان على كيان الدولة بمفهومها الحديث العام والتشريعات التي تعمل في حدودها؛ وقد طغت هذه الظاهرة على المنظومة السياسية التي ارتهنت بهذه القيود واصبحت عاجزة وغير قادرة فعلا على النفوذ من اقطاب التقليد الفقهي الذي يجعل من السلطات الحاكمة مهادنه ومتماهية بل وفي معظم الاحيان خاضعة لسلطة المؤسسة الدينية حتى وان كان النظام الحاكم من الناحية الشكلية ديمقراطياً يقر بفصل السلطات .
ان ظاهرة الافراط في نقد النصوص الدينية والشخصيات المتعاقبة في الاحداث التاريخية هي انعكاس لمستوى الرثاثة في العقل الشرقي واستشراء العدمية الفكرية الجيلية والماضوية المتعشقة في ثقافات النخب حيث ان كل جدليات ذلك النقد تنطلق من قراءات شخصانية متفردة تغلب فيها العاطفة على الاستدلالات العلمية وكل من يدور في مباحث هذه الانساق من العلمانيين والتنويريين والمفكرين والباحثين لا يملكون الحد الادنى من الابداع والشجاعة لكي يخرجوا من الشرانق التي نسجتها الموروثات العتيقة ولا زالت مستمرة في تحييد المجتمعات باتجاه واحد ضمن اشكالية “العقل والدين” ونظرية المطالبة بعزل الدين عن الدولة قد بات التداول فيها تنظيري وغير واقعي بسبب البيئة الشرقية وكونها لا تمتلك الاليات الواقعية لكي تحقق الاهداف المطروحة فالعقيدة الدينية جزء متلازم مع التاريخ الاجتماعي لتكوين النظام السياسي الذي يحتوي الافراد ويضمن حقوقهم وكذلك نظرية فصل الدين عن السياسة فانها مجرد اعادة تدوير لسابقتها فالنظرية والفلسفة السياسية هي التي يجب ان تقود منظومة الدولة ومساراتها بما فيها الدين والمعتقد وهذا يتقاطع مع التطبيق بسبب الازدواجية البنيوية لشخصية الفرد الشرقي وعدم القدرة على فض الاشتباك بين هويته الدينية وبين هويته السياسية والاجتماعية وبهذا فان الشرق الاوسط يمر بالثقب الاسود من فراغ الفكر السياسي بسبب ضعف مؤسسات الدولة وتنامي المؤسسات الدينية وبالتالي فقدان بوصلة الاستقرار وتذبذبها وعشوائية المعادلات القانونية التي تربط العلاقات في مفهومية الدولة التي تُحدث الحركة الحداثوية النسبية الديناميكية في المجتمع وضمن كافة المسارات ولا سيما الاقتصاد كونه العصب الدائم المتحكم في الواقع السياسي والاجتماعي؛ والتحدي الواقعي الاكبر ليس في نقد النصوص الغابرة وانما في التشريع الفقهي الذي يصدر من المؤسسات الدينية المتعاظمة ومن يجلس في صوامعها من رجال الدين الذين يتحركون فيها وبدون حدود وبمسميات علماء الامة والمراجع العظام والفقهاء من منطلق الاجتهاد والفتاوى التي تجيز القتل وهدر الدم والتكفير والتي تفتقر الى اي قواعد قانونية او تشريعية وما هي الا امتداد الى ما كتب من مدونات لايجمعها جامع وغير متفق عليها ولم تكن من مصادر بحثية تحليلية وعلينا جميعا ان نسلم لها تسليما … هذا ما سار عليه الاولون وانا عليه سائرون … والمعضلة هي في تنامي تلك المؤسسات بشكل غير مسبوق وتضخم وارداتها المالية وتوسعها الافقي وتعاظم استثماراتها والمفاخرة الشعبوية باحصاء اعداد الحشود والجموع المليونية والطقوس الشعائرية وغض النظر عن المستوى المعاشي او التعليمي او الانتاجي او الفكري فيكفي انهم موالون ومقلدون ويمكن التحكم بهم متى ما شاء الولي او الخليفة للتأكيد بان السلطة التي تمتلكها اكبر من سلطة الدولة وبامكانها ان تتخطى الحدود الجغرافية والقوانين الدولية لتاسيس الاحزاب والفصائل المسلحة العقائدية الموالية لمرجعياتها حصرا والدخول في محاور الصراعات الاقليمية والعالمية بحجة المقاومة والممانعة او تاسيس دولة الخلافة؛ وكل هذا الاحتراب يجري بسبب توظيف الدين للمصلحة السياسية من قبل المنظومات العقائدية لتديم سلطة التشريع الفقهي منذ ان بدا الخلاف على السلطة قبل قرون خلت .
وفي المباحث الفلسفية والمنطقية ومنهج الجدليات العقلانية فمن غير الممكن اطلاق مفهوم الفكر الديني وربطه بالايديولوجية او الستراتيجية او غيرها من المفاهيم الحديثة كونها بشرية ويمكن دحضها بنظرية علمية او فلسفية لانها بالتالي وليدة بيئة مادية نسبية وهذا سيتناقض مع مفهوم الدين كمطلق مقدس وسيكون تعريفه مستحيلا … في حين ان نسبية العقل كانت هي المرتكز الاساسي الذي ارتقى به الانسان الى المستوى الحضاري والتقني كما ان العقل هو المبدع الذي أسس المفاهيم الحديثة كالدولة والاقتصاد والعلوم الفلسفية والتطبيقة والاجتماعية وعلوم الاثار والانسان وكل ما نراه هو نتيجة للمعرفة المتعاقبة منذ النشأة الاولى الكائنية للانسان .. فهل للعقيدة دور فيما سبق ؟ تساؤل يطرح ليكون حوارا فكريا وليس نقديا … وبالتالي فان منهج العقلانية قادر بلا شك على الابداع واقرار التشريعات التي تلائم الزمان والمكان والتي ترتقي بمفاهيم الاخلاق وضبط البوصلة المجتمعية بغض النظر عن الاحكام والتشريعات الفقهية المغلقة التي ارتبطت بالموروث والعقل النقلي منذ الاف السنين والتي اصبحت اليوم غير منطقية التطبيق كحكم قطع يد السارق والرجم والجلد والجزية والسبي … فاطلقوا بدعة ان الحكم ينفذ في دولة الخلافة او الامامة وهذا ماسيبقي الاصول تداور على ترسيخ فقه التشريع “المتخالف” تعبويا وشعبويا لتستديم السلطة التي وصل اليها اساطين الفقهاء والعلماء في الوقت الذي يمكن فيه مغادرة تلك التشريعات الى القوانين التي تستند الى المناهج والدراسات والتجربة والتخطيط بدلا من العنعنة والمناقلة … ولكن هل يمكن ان تكون هناك منطقة وسطى بين التشريعات الفقهية والقانونية ؟ هذا يجرنا الى حوار يطلقه ادعياء الوسطية الذين يبقون تحت ظل المنطقة الرمادية النصفية لإستحضار الموروث بصيغة حداثوية الا ان السؤال الكبير هو من سيكون قادرا ومبادرا من الفقهاء على ذلك ووفق اي منهج او رؤية مع كل هذا التقاطع والتخالف والتحارب الذي جرى ولا زال يجري على التوابع والمقلدين الغافلين … سيكون الخوض في محور الوسطية اهتزازيا لا معنى له وسيكون غارقا في التنظير بعيدا عن الاهداف وبدون اليات فكرية ويبقى في برزخ من الخواء ولا بد من التطهير الفكري المنهجي على المدونات وما تحتويه من الخرافة والسذاجة والاساطير وخطابات التبجيل والتعظيم .
ولكي يتم ازاحة تلك الازدواجية البنيوية في التشريع لابد من النأي بالنفس من النقديات التي تنطلق من القراءات الاحادية وتاسيس مناهج بحثية معرفية ؛الهدف منها التهيئة الى اغلاق باب التشريع الفقهي وسحب السلطة التي تقف خلفه وايجاد البدائل التشريعية القانونية الغير عقائدية والتي لا ترتبط باي مستوردات حاضرة كالايديولوجيات الغابرة والافكار القومية والطائفية وتتحد في اطار مسؤولية الدولة باتجاه الفرد والعلاقة الذاتية والموضوعية مع السلطات الحاكمة ضمن الفكر السياسي في اتجاه العدالة والحقوق والواجبات … وهذا لن يتم الا اذا تأسست تجمعات او مراكز للبحوث الفكرية لتعريف وتخريج النخب الاكاديمية والثقافية بتوجية الخطاب الفكري النقدي بالاعتماد على الدراسات البحثية والتحليلية للمعطيات الواقعية وتوسيع قواعد الحوار الفكري الهادف بدلا من التخبط في تدوير حلقات الفعل ورد الفعل والتي يستغلها اصحاب السلطة الدينية في خطابات المنابر لتعبئة العوام بعدم الانفتاح والتفكير ليبقى الفرد الشرقي راضيا خانعا ويسلم تسليما … وهذا ما عملت وتعمل عليه المنهجيات العقائدية بتخريج ادعياء التدين والادوات التي تحيط بهم واجنداتهم ومرجعياتهم ضمن منظومة معقدة من التراتيبية المغلقة … وسيكون اعمال العقل وتشجيع النقد التفكيري هي الالية التي بمقدورها خرق تلك المنظومة ومن ثم تفكيك كل التشريعات التي لا تنسجم مع التطور الحضاري للمجتمع ومن ثم تحرير القطعان من سلطة التقديس والغيبيات وجعل المؤسسة الفقهية مجرد نسق من الانساق التي تخضع لسلطة الدولة حصرا وفق معادلة قانونية عادلة ومتوازنة وغير متفاضلة … وقد نجح العالم في ذلك وفق المعادلات الانتاجية والخطط التنموية والفكر الاستراتيجي وكان الهدف هو الاستقرار المجتمعي بعيدا عن الافراط في تعميق الهويات الهامشية وشرعنتها بفتوى او اجتهاد من الذين ينسبون لإنفسهم بانهم الاعلم من الناس اجمعين .

أحدث المقالات