18 ديسمبر، 2024 9:48 م

الإرهاب والسراب

الإرهاب والسراب

مع تدافع الأخبار المحلية والعالمية عن الهجمات الإرهابية المتتالية في مصر، والعراق، وليبيا، يصبح مشكلة الإرهاب محور التفكير في طبيعة المواجهة المسلحة في الشرق الأوسط. هذه الهجمات تذكرني بمقولة المفكر الأمريكي الشهير صامويل هنتجتون بكتابه (صدام الحضارات) بتسعينيات القرن المنصرم حيث تقول “حرب الملوك إنتهت وحرب الشعوب بدأت” حيث كانت طموحات ونزوات الملوك سبباً للحروب لكن هذا الزمن إنتهى.

هذه المقولة تؤكد التحول الجوهري في طبيعة المواجهة بين الدولة والأفراد حيث إنتهى زمن المعادلة القديمة (الدولة ضد الدولة) عندما سادت تلك المعادلة منذ بداية الإنسانية حتى الحرب العالمية الثانية ثم يبدأ العالم فترة جديدة تماماً في الصراع ليصبح بين الدولة والجماعات المسلحة داخل الدولة الواحدة أو جماعات عابرة للحدود مثل داعش.

وعلى الرغم من اندلاع حروب عديدة بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنها كانت إما بمعادلة قوة مختلة مثل غزو السوفيت للأراضي الأفغانية عام 79-1989 حيث تحولت لحرب ضروس في الشوارع والكهوف الوعرة وغزو السوفيت للمجر عام 1956، أو حرباً داخل الدولة الواحدة بين الحكومة والجماعات المسلحة مثل الحرب الأهلية الكورية 50-1953 والحرب الأهلية الأنجولية والحرب الأهلية الاثيوبية والحرب الأهلية في السلفادور وكامبوديا ونيجيريا وموزامبيق التي بدأت بالسبعينات وأستمر بعضها لعقد كامل وبعضها لم ينتهي حتى يومنا هذا.

ثم تأتي حرب فيتنام التي دامت نحو ثمان سنوات لتثبت أن حرب الشوارع لا تنتصر بها الدول على الاطلاق حيث نجح الثوار الشيوعيون الشماليون بفيتنام في تلقين صناع القرار في واشنطن دراساً بالغ القسوة عن مدى التطور الجذري في طبيعة الحروب، إذ باتت الجيوش النظامية أقل فعالية في مواجهة الأفراد المسلحين في الشوارع أو الغابات بسبب كثافة وجود المدنيين في أرض القتال وهو ما يعد العائق الأكبر لتحقيق نصر سريع ومنخفض التكلفة البشرية والمالية، علاوة على صعوبة تأمين خطوط الإمداد بالمؤن والذخائر، وكثرة العوائق الطبيعية، وصعوبة تأمين نقاط المراقبة لرصد القوات المعادية وإرشاد القوات الموالية، وصعوبة التنسيق بين القوات على جبهات مختلفة، وضعف الإشراف القيادي على ميادين العمليات المتناثرة حيث تتمتع المجموعات المسلحة بإمتيازات أفضل مثل قدرتها على التخفي وسط البيئة الطبيعية التي يجري بها القتال.

ومع التطور التكنولوجي الذي وصل زروته في نهاية القرن الماضي، بات المعادلة بين الدولة والجماعات المسلحة أكثر صعوبة حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة يسهل تنقل الأفراد والمعلومات والبضائع بين شوارعها… إنه عصر العولمة.
وتعتبر تكنولوجيا الاتصالات المتطورة مثل الانترنت والهاتف الجوال أهم سمات العصر وآلية حيوية لتتدفق المعلومات والأخبار من دولة لأخرى في الفضاء الافتراضي دون نقاط تفتيش أو حظر لتستيقظ الحكومات على هجمات إختراق لحسابات بنكية تكبد الدول مليارات الدولارات وتستنزف مقدرات الأمم الرازحة تحت نير الفقر والجوع أو تسرب معلومات استخباراتية وحربية بالغة الخطورة لتعرض الأمن القومي للدول لتهديدات مريبة مثل ويكيليس ليظهر نوع جديد من الحروب تسمى بـ (الحرب السيبرانية) أي حرب يُستخدَم بها الانترنت كأداة هجوم وقتال إلكتروني منظم من قبل قراصنة (هاكرز) لخدمة مصالح تكتيكية لدولة أو لجماعة ما.

ولا شك باتت معلومات كيفية تصنيع السلاح واستخدامه متاحة للجميع بل يمكنك الأن معرفة خطوات تصنيع قنبلة نووية على اليوتيوب وأنت جالس الأن في منزلك، ومشاهدة كافة الأخبار مباشرةً في كافة أركان العالم من خلال شاشة صغيرة حيث لم تعد القوة في يد الدولة وإنما في يد الفرد.

هذا التقليص في المكان والزمان ساهم في خلق دفعة لجذب سيادة الدول على أراضيها للخلف ودفع الجماعات المسلحة للأمام لتتصدر المشهد السياسي والإعلامي في العالم، ولا يعد تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) نموذجاً شاذاً حيث سبق البغدادي العديد من الحالمين بدحر الحكومات وبناء إمبراطوريات تحقق أحلامهم الأيدولوجية بجيوش تجلس خلف شاشات الكمبيوتر لتبث خطابات رنانة ممزوجة بنصوص دينية تشعل عواطف الشباب وتجنيدهم لحمل السلاح ومقاتلة الحكومات لإسقاط الدولة وبناء الإمبراطورية المزعومة. وهذا توكيداً على أن الحروب لم تعد بين دولة ودولة والتي بنيت على أساسها امبراطوريات عظيمة دامت لقرون مثل البريطانية والفرنسية، وإنما باتت الحرب بين الفرد والدولة.

إنه جيل جديد من الحروب… وفي الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، إستقيظ العالم على ضرب برجي التجارة العالمي بطائرات مختطفة في مدينة نيويورك الأمريكية ليصبح الإرهاب حديث العالم حصرياً، ودفع سكان المعمورة نحو عصر جديد من المواجهة المفتوحة على كل الجبهات مع عدو جديد يتغذي على جهل وفقر المهمشين.

رغم تورط الولايات المتحدة والسوفيت في حروب عديدة خلال الحرب الباردة والتي عقبها مجازر دموية في البلقان خلال الحرب بين الصرب والبوسنة والهرسك وحرباً أهلية مزرية في طاجيكستان وتصعيد التهديد النووي لكوريا الشمالية وحرباً أهلية طاحنة في رواندا عشية إنشطار الجمهوريات السوفيتية الخمسة عشر، إلا أن صانع القرار في واشنطن وموسكو لم يفهم الدرس جيداً حيث لا تزال الحكومات تؤمن بخرافة إمكانية الانتصار على الجماعات المسلحة في حرب مفتوحة المكان والزمان بل وطائشة تستنزف الوقت والأموال والبشر.
نعم.. الإرهاب أشبه بالسراب، كلما ركضت نحوه لا تبلغه قط وتستمر في الركض نحوه فيستنزف قواك الجسدية والنفسية، هذا بالضبط ما يحدث في حروب الدول على الإرهاب أو بتعبير أدق على المجموعات المسلحة وتلك هي الحقيقة المريرة الغائبة على الحكومات.

ففي عام 2001 وبعد 26 يوماً فقط من ضرب برجي التجارة بنيويورك حشدت أمريكا حلفائها في أوروبا وشرق وجنوب شرق أسيا وجيوشها الإمبراطورية الجرارة ووسائل إعلامها الشامخة لدحر حكومة طالبان وحليفها أسامة بن لادن ‘زعيم تنظيم القاعدة’ في كابول ثم تلى ذلك بعامين فقط نفس الحشد الجرار لغزو العراق في مارس 2003 لإلقاء القبض على صدام حسين وأبنائه البعثيين ليبدأ الجيل الرابع من الحروب.

بعد أكثر من 14 عاماً من هذه الفتوحات الأمريكية الوهمية، أتسائل هل إنتصرت أمريكا في حروبها على الإرهاب، بالطبع لا، بل أضافت تلك الحركات المسلحة لملف نجاحها المريب مد أزرعها لتصل إلى التراب الوطني للولايات المتحدة نفسه رغم أن جيوش الإمبراطورية الألمانية واليابانية الكونية لم يتمكنوا من لمس التراب الأمريكي قط في الحربين العالميتين الأولى والثانية المستعرة، ونذكر من تلك الهجمات الارهابية تفجير مارثون بوسطون بولايات المتحدة عام 2013، وهجمات مدريد عام 2004 وتفجيرات لندن عام 2005 وهجمات تشارل إيبدو بفرنسا عام 2015 وهجمات ستوكهولم بالسويد عام 2010.

ورغم الضربات الأمريكية المكلفة لتريليونات الدولارات في دول الشرق الأوسط، لا تزال الجماعات المسلحة على قيد الحياة في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا على سبيل المثال لا الحصر بل تنامت قدراتها العسكرية والتنظيمية والتكتيكية والعمق الجغرافي لضرباتها المتتالية.

والأكثر كارثية هنا إستمرار الدول في الاعتقاد أن الدولة هي الطرف الأقوى في معادلة المواجهة مع الجماعات المسلحة رغم وضوح حتمية فشل الدولة في مواجهات قتالية عديدة مع هذه الجماعات في وقت تتسارع فيه الأنباء حول بدأ العد التنازلي لإعطاء ضوءاً أخضر لإعلان المملكة الأردنية الهاشمية الحرب على الإرهاب والتورط في الحرب السورية رغم الثمار العظيمة التي جناها اقتصادها وشعبها خلف سياساتها المتجنبة للحروب الشرق أوسطية منذ ستينات القرن الماضي.
وتعتبر التجارب التاريخية داخل وخارج الشرق الأوسط دليل قاطع على النتيجة المؤكدة لتلك المواجهة مثل تورط إسرائيل وحزب الله في حرب شوارع عام 2006 إنتهت بهزيمة منكرة للجيش الإسرائيلي، ثم تورط روسيا في حرب ضد مجاهدي الشيشان بالتسعينات ولم تنتهى حتى اليوم ثم الأزمة الأوكرانية التي بدأت عام 2014 ولا تزال نيرانها مشتعلة، وسبق ذلك إعلان مصر للحرب على الإرهاب بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي عام 2013 خلال إضطرابات أمنية وسياسية قاسية سبقت وعقبت الإطاحة، تلك الحرب التي لم تضع أوزارها بعد رغم ضربات الجيش المصري بالأسلحة الثقيلة مثل القصف الجوي والمدفعي لمعاقل الإرهاب في سيناء، وتجبرنا تلك الضربات المجهدة مالياً على التساؤل عن حجم تسلح تلك العناصر الارهابية وقدراتها التخطيطية والتنظيمية في تحديد أهدافها والعمق المكاني التي تستطيع بلوغه، بل التساؤل أيضاً عن قدرة تحمل الاقتصاد التكلفة المالية لهذه الحرب في وقت يتعطش الاقتصاد لتوفير بيئة آمنة جاذبة للاستثمار والسياحة الأجنبية.

طالما وقودها الدين.. ستستمر حروب الإرهاب كمثيلتها الصليبية.

حرباً على الإرهاب أم حرباً على الفكر القابع خلف الإرهاب أم حرباً على الفقر والجهل المغذي للإرهاب… إنها حرباً على السراب، إنها حرب مفتوحة المكان والزمان وقد تستمر لقرون ولا تقل وشأناً عن مثيلاتها بالماضي، ذلك السراب الذي لا ينتهي طالما يوجد جذور للإرهاب وليس المقصود هنا الجذور الفكرية فقط وإنما هناك أبواب أوسع من ذلك مثل الفقر والبطالة والكبت المجتمعي، حيث توفر الأوضاع الاقتصادية المتردية في أغلب بلدان العالم الثالث بيئة خصبة لإستقطاب دفعات جديدة من الشباب لتجنيدهم في كل مكان، إنني أرى أنه حرق لأجيال بالكامل تضيع في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل.