بين الحاكم والمحكوم في بلداننا قصة لا تنتهي وبحر من الكراهية والبغضاء والنفاق والتدليس والعداء والاتهامات وتبادل المواقع على كراسي الحكم المغمسة ببحور من الدماء والدموع، تاريخٌ من العلاقات المنحرفة والمشبوهة تحكمها القوة بالسطو على السلطة والانقلاب عليها أو بسلطة صناديق الاقتراع التي ينقاد إليها القطيع في انتخابات بائسة تتحكم فيها أدوات معطِلة للعقل والفكر والاختيار الحر، تاريخ مغمس بالدماء منذ فجر الرابع عشر من تمّوزحينما أسقط بضعة ضباط حكم الهواشم في العراق والذين أوكِل إليهم عرش المملكة التي أسسها البريطانيون والفرنسيون بموافقة الروس في بلاد النهرين، وكيف بدأت سلسلة الاتهامات للعائلة المالكة وعمالتها لبريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية، واعدين الأهالي بإقامة جمهورية عراقية خالدة تسود فيها العدالة والمساواة، حيث لم تمضِ إلا سويعات قليلة حتى أبيدت العائلة المالكة عن بكرة أبيها أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ثم توالت تحت مقاصل الاتهامات تصفية الآلاف من العراقيين سواء في ما سمي في حينه بثورة عبد الوهاب الشواف وعمليات القتل والسحل خلف السيارات لكل من عاد الجمهورية الخالدة، لكي تُعاد الكرة ثانيةً وبعد سنواتٍ قليلة ليُبَشر القاتل بالقتيل في سلسلة دموية حينما انقلب البعثيين على الزعيم وأقاموا حمامات دماء للشيوعيين واتباع الزعيم الأوحد في شباط 1963 والتهمة جاهزة هي الأخرى، ولكن بلباس ديني هذه المرة حيث الكفر والشعوبية والإلحاد!
في عودة البعث الثانية تمّوز1968، بدأت سلسلة أخرى أكثر بشاعة ودموية وأمواج من الدماء تتلاطم في مجرى الرافدين، حاملةً معها شعارات كُتِبَ عليها بأن هذه الدماء تعود لعملاء الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، حيث تمّ تصفية المئات بتهم وهمية أساسها أنهم في الأصل معارضين لسلطة البعث وأسلوبها في سرقة الحكم وممارسته، لكن للأسف لم تكتفِ تلك الأمواج بآلاف مؤلفة من أبناء وبنات العراق، حتى عاد البعث ليدفن مئات الالاف من أبناء وبنات كوردستان وهم أحياء في صحراوات الجنوب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويكتب على مقابرهم أنهم من الجيب العميل والمتمردين من عملاء الاستعمار والرجعية، لا لشيء إلا لأنهم كورداً طالبوا بأبسط حقوقهم الإنسانية، وفي كل هذه المآسي يصرّ نظام الحكم على أن تهمة هؤلاء الضحايا الأساسية هي العمالة لأمريكا وإسرائيل، وأزعم أن 90% منهم لا يعرفون أين تقع أمريكا ومن هي إسرائيل، لكنها تهمة تسمح للقاضي بإصدار حكم الموت على مقترفيها، وبذلك وكما قال صدام حسين في دفوعاته في المحكمة الجنائية أنهم لم يتجاوزوا على القانون، وأن لهم الحق بالتصفية كما تصفى الحبوب من الشوائب!؟
أنها ثقافة الحكم والمحكوم في بلداننا حيث التهم الجاهزة لكل من يختلف مع الحاكم حتى يومنا هذا، ولا شيء يتغير إلا بعض المصطلحات يتم استبدالها بأخرى أكثر حداثة مثل تهمة الإرهاب الجاهزة وشماعة داعش والبعث التي ابتلعت وما تزال تبتلع آلافاً من المغيبين، ناهيك عن تهمة العمالة في اصطوانة أمريكا وإسرائيل التي ما تزال تدغدغ مشاعر ميليشيات العراق والحاكمين في إيران وأذرعها الممتدة في لبنان واليمن وسوريا، الذين يهددون ليل نهار بملاحقة معارضيهم من (الإرهابيين) المتواجدين في كوردستان، ويقصدون بذلك آلافاً من المعارضين لحكمهم وآلافًا مؤلفة من اللاجئين الكورد الهاربين من (جناتهم).
العجيب المقرف أن جيل السياسيين الجدد في إيران والعراق يتناسون أن آبائهم وأجدادهم كانوا أيضاً معارضين لحكامهم ولاجئين في العراق وفي كوردستان وفي إيران، وكان نظام الشاه وصدام ينعتونهم بذات النعوت، فما الذي تغير بعد هذا البحر الهائل من الدماء والدموع، ومن هو يا ترى الإرهابي بين الحاكم والمحكوم!؟
[email protected]