لم يهدأ بال الذين فرضوا سيطرتهم على أمريكا بعد حروب الإبادة,التي راح ضحيتها الملايين من سكانها الأصليين, ولا بعد تأسيس الولايات المتحدة وإعلان إستقلالها عن بريطانيا في 4 تموز 1776. وقد بدى واضحا,ان إحتلال المساحات الشاسعة من أراضي هذه البلاد, لم يكن كافيا لكبح جماح الميول التوسعية,التي إنفلتت من عقالها ولم تحط رحالها منذ انطلاقها نحو الجنوب لتغزو نيكاراغوا وبيرو والمكسيك والأورغواي وكولومبيا وبنما وهاييتي وشيلي خلال القرن التاسع عشر, وتتمكن بعد حصار كوبا لثلاثة أعوام من الاستيلاء على جزيرة غوانتانامو في العام الأول من القرن العشرين .
لقد تحولت أمريكا من دولة مُستعمَرة الى دولة مُستعمِرة,نتيجة تمسك حكوماتها المتعاقبة بالسياسات الإستعمارية, التي أتاحت لها استغلال الثروات ومضاعفة المساحات على حساب دول الجوار( اقتُطِعت من أراضي المكسيك ما يُعرف حاليا بتكساس وكاليفورنيا ونيومكسيكو). ولم تكتفي هذه القيادات بما توفر في القارة من خيرات, لذا قررت عبورها نحو باقي القارات لتتسبب في قتل وجرح وإعاقة وتشريد عشرات الملايين من الناس الأبرياء, عدا عن قصف العديد من المدن والقرى في مختلف بقاع العالم, أثناء وبعد حروبها العدوانية باسم الدَم قراطية,التي يسمونها “الديمقراطية” .
إن ما تحتفظ به ذاكرة الشعوب وما سجله التاريخ عن جرائم حكومات الولايات المتحدة, التي ارتكبتها في القرن العشرين, يعكس مدى حجم المعاناة, والظلم والسَقم والمأساة في ظل النظام الإمبريالي المُستعد للجوء الى أفضع وأبشع وأشنع أساليب القتل والدمار من أجل تحقيق غايته في الهيمنة على دول العالم. ويكفي ان نتذكر إسقاط القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, واستخدام الأسلحة الكيمياوية والجرثومية في الحرب على فيتنام, وما شنته من حروب ضد الدول العربية والإسلامية, لنتبين ان هذه الدولة التي تدّعي الحضارة, إنما تمارس العُهر السياسي بحقارة, وتغوص منذ تأسيسها في القذارة .
الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط :
لأمريكا أهداف إقتصادية وسياسية أعدتها منذ أمد بعيد. فبعد أزمة النفط, التي تلت حرب اكتوبر 1973, وضع الكونغرس الأمريكي خطة لإحتلال آبار النفط عام 1975, وأعلن في 1977 عن عدم استبعاد اللجوء الى القوة كوسيلة لحماية مصادر الطاقة. ولم يكن حشد القوات الأمريكية في الخليج عام 1979 للتخويف ولا لعرض العضلات, وإنما لنهب وسرقة الثروات, وبسط السيطرة على المنطقة بعد زج العراق وإيران في حربٍ, كلفت وأنهكت كلا الطرفين, وخربت ودمرت اقتصاد البلدين .
وقد يُعين ما يتضمنه الفيديو الوثائقي: http://www.safeshare.tv/w/gQnBDHTCD على تصور أبعاد المؤامرات السياسية والإقتصادية,التي حاكتها وتحيكها الولايات المتحدة لفرض إرادتها على الدول الأوربية, وما خططت له عسكريا للسيطرة على ثروات الدول العربية والإسلامية.
العراق وليبيا :
أنفق صدام حسين ومعمر القذافي على التسلح خلال فترة حكمهما الطويلة ما يكفي لبناء وتطوير بلديهما وجعلهما في مصاف الدول المتطورة علميا واقتصاديا واجتماعيا. إلا أن استخفاف الأول بعصف رياح التغيير,التي عبرت الحواجز الجغرافية والسياسية بعد كارثة انهيار الإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي, وخطأ حساباته في قدرة نظامه على مجابهة العدوان الصهيو- أمريكي, قادته الى خوض حروب مكلفة بشريا وماديا, بعد حربه ضد ايران . أما الثاني, فلم يقصر في بذخه المزاجي على بعض الرؤساء والمنظمات والشخصيات السياسية والدينية والفنية المداحة, وفي صرفه السخي على المشاريع غير المُجدية اقتصاديا, في ظل حاجة الناس الى تحسين أحوالهم المعيشية.
وخلافا لما حصل من تباين في مواقف القوى السياسية والدينية قبل وأثناء وبعد احتلال العراق,الذي اعتبره البعض “تحريرا” وجَعل من مُجرميه “أصدقاءأ” ومن قتلاه “شهداءا”, لم تجد الامبريالية الأمريكية ما تثيره من نعرات قومية وطائفية في المجتمع الليبي لافتقاره الى التنوع العرقي والطائفي, وانعدام نشاط الاحزاب السياسية والدينية خلال العقود الأربعة من حكم معمر القذافي, مما حدى بأمريكا وحلفائها الى اثارة الخلافات القبلية والمناطقية, وتوجيه وسائل الإعلام الغربية والعربية المعروفة بتبعيتها, والى تحريك الأطراف الداخلية المتعاونة مع أمريكا والناتو لتبرير دونية الإستقواء بالقوى الخارجية ودعوتها الى التدخل العسكري ( كما حصل في العراق ), للتخلص من نظام القذافي وتفويت فرصة وصول قوى التغيير الوطنية الحقيقية الى السلطة.
ولم تشفع تنازلات صدام حسين المتلاحقة في منع الولايات المتحدة من التدمير المُتعمد لماضي العراق وحاضره, لأن ما حصل ” أمر من الله “, كما صرح بذلك جورج بوش. ولم ينفع رضوخه للشروط المُجحفة بحق العراق وشعبه في منع كارثة الإحتلال بعد ان أدرك خطأ رفضه للمحاولات, التي قام بها قادة الدول الصديقة لتحذيره من أخطار المواجهة غير المتكافئة مع القوى الإمبريالية- الصهيونية- العربية, المتحالفة لإسقاط نظامة : ” نحن نصدقكم,غير أن الآلة العسكرية قد تحركت ولا يمكن إيقافها” والكلام الأخير كان موجها الى الرئيس البيلوروسي لوكاشينكو,الذي رفض إغراءات وعروض الأدارة الأمريكية بضخ الاستثمارات في بلده, وتقديم الدعم له, مقابل تصريح بوجود أسلحة الدمار في العراق.
واذا ما استوعب معمر القذافي ما آلت اليه الأمور في العراق, وجعلته يتراجع عن “طز بأمريكا” الى مغازلتها وتسليمها أحدث المعدات اللازمة لأنتاج السلاح غير التقليدي, واضطرته الى دفع التعويضات الضخمة لأسر ضحايا طيشه, فإنه لم يحصل مقابل ذلك على الشفاعة أيضا, ولم يُنقذه إنعطافه نحو أعداء الأمس من تجنب قتلة بإسلوب لا تقر به الأعراف الدنيوية والسماوية.
سوريا ولبنان :
أصيبت الولايات المتحدة بخيبة الأمل لفشلها في اسقاط النظام السوري, بعد نجاحها في إسقاط الأنظمة في العراق وليبيا, وفي ترتيب وصول قيادات الإخوان المسلمين الى السلطة في مصر وتونس. ويعود الفضل في صمود النظام الى الدور,الذي لعبته روسيا والصين وبعض الدول الصديقة في رفض التدخل الخارجي, وفي تماسك الجيش الوطني, واستيعاب نسبة كبيرة من أبناء الشعب, لخطورة إسهتداف الوطن من قبل أطراف دولية وعربية وضعت في حسابها خطط تصفية المقاومة الوطنية في لبنان, لضمان أمن أسرائيل أولا, ولتوجيه الضربة المؤجلة الى إيران ثانيا, ليكتمل بذلك, تحقيق الهدف الستراتيجي المتمثل في السيطرة على المساحة الجغراقية الممتدة من أفغاتسان وحتى لبنان, مرورا بايران والعراق وسوريا .
الإنسحاب الأمريكي المزعوم :
نشرت مجلة The nation نقلا عن مسؤول عسكرى أميركي,أن فرقة من القوات الأميركية الخاصة قد عادت مؤخرا إلى العراق. وذكرت وكالة (إيبا) خبر هبوط عدد من طائرات الشحن العسكرية العملاقة في قاعدتي الأسد والويرهاوس قرب بعقوبة ووصول نحو 4000 من القوات الأمريكية,على ان يصل العدد قريبا الى 16 ألف. ويتزامن ذلك مع وصول المئات من المتعاقدين مع وزارة الخارجية الأمريكية, ممن يجيدون اللغة الفارسية الى بغداد. وتجدر الإشارة الى ان هذه الأعداد لا تشمل آلاف الأمريكيين الباقين في العراق لأسباب ومبررات مختلفة.
وأخيرا.. لم تُلحِق أكثر الأنظمة همجية في تاريخ البشرية, ما ألحقته الإمبريالية الأمريكية بالعديد من شعوب دول العالم من قهر وإرهابٍ وقتل ودمار. واذا ما قدِّر للهنود الحمر ان يكونوا ضحية تأسيس الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر, فإن شعوب أمريكا الجنوبية قد ظلت تدفع ثمن توسع وعدوانية جارتها الشمالية طوال القرن التاسع عشر, دون ان يحد ذلك من طمع وجشع حكومات الولايات المتحدة, وولعها بشن الحروب والغزوات, وتدبير أقذرالمؤامرات, للإطاحة بالرؤساء والحكومات, لسلب ونهب الثروات, خلال القرن العشرين .
إن مِن السذاجة تصديق الإنسحاب الأمريكي, لأنه قرار تكتيكي فرضته عوامل مرحلية قد تجر لاحقا الى المزيد من الكوارث, وقد يكبح جماحها أخيرا, تعاظم دور الدول العظمى كروسيا الإتحادية والصين.