إرتهن بالأمر: تقيّدَ به
الأجيال العربية أمضت عصورها رهينة أحداث تأريخية لا يمكنها التحرر من أسرها , ولا زالت تجتر تفاصيلها وتستهلك طاقاتها في النظر المتكرر فيها دون جدوى أو منفعة حضارية , حتى تحول التأريخ إلى داء عضال وطاقة سلبية مدمرة للحاضر والمستقبل , بل أنه ألغى هذين البعدين وأمعن في تضخيم الماضي وهيمنته على الوجود بأكمله.
وبسبب الإرتهان فأن العرب يتحركون وكأنهم العربة التي تدور عجلاتها في الوحل ولا قدرة عندها على التقدم خطوة إلى الأمام.
وقد أسهمت في الإرتهان المروّع , حركات وأحزاب ومجاميع ذات مسميات متعددة , لأن سلوك الإرتهان يحقق لها البقاء والتواصل وفرض السيطرة على الناس , كما أنه يعود بمنافع إقتصادية لأصحاب النفوذ والقدرة على التحكم بسلوك الناس وتحويلهم إلى جموع خانعة تابعة بلا رأي , وإنما مشدودة عاطفيا وإنفعاليا إلى الموضوع , وتتلذذ بدور الرهينة والطاعة المطلقة وتنفيذ الأوامر وحسب.
ومع أن الإسلام دين الحرية والكرامة والسعادة الإنسانية , وضد إستعباد الإنسان وإمتلاكه ومصادرة رأيه وحريته وحقه في الحياة , فأن مناهج الإرتهان أخذت تسوّغ للرهينة ضرورات الإستسلام والشلل وعدم التفكير بغير ما تملي عليها لكي يتم إسلامها.
وفي واقعنا لعب منهج الإرتهان الدور الأساسي في التدهور الحضاري والتردي الثقافي والأخلاقي , ومنع الناس من التعبير عن طاقاتهم الفكرية والعلمية والثقافية فعمت الأمية والجهل, وكأن الإسلام لا يحث على العلم والمعرفة والوعي المعاصر للزمن الذي يعيش فيه المسلم , حتى صار الناس يتصورون الإسلام مقرون بالفقر والجوع والجهل وسفك الدماء والصراعات الحامية ما بين المسلمين أنفسهم.
ولا يمكن لأمة أن تقوم بدورها وتؤدي رسالتها إذا لم تتخلص من قيود الإرتهان التي أبتليت بها.
أمة تحررت من الإرتهان الجاهلي وسلطته التي لخصها جعفر بن أبي طالب في كلمته أمام النجاشي ملك الحبشة , وإنطلقت في رحاب العلم والفكر والثقافة والحضارة وأسست وجودها السامي النبيل.
وبرغم نكساتها وإنكساراتها لكنها بين عصر وعصر تتحرر من الإرتهان وتؤكد دورها الحضاري.
ولا يمكن للإرادات أن تؤكد فعلها الثوري إن لم تحقق حالة التحرر من الإرتهان الذي يأسر الأمة , ويحجب رؤيتها ويغلق دروبها ويضع الحواجز في مساراتها.
فالثورة أن تتخلص الشعوب والأمم من قيود الإرتهان , وتتحرر عقولها ونفوسها من نمطية الضياع والتداعي والإنحباس في بقعة تاريخية لا تبارحها.
فالتأريخ نتعلم منه ولا نرتهن به , والتأريخ يمنحنا الدروس والعبر ولا يضعنا في زنزانة القنوط.
فهل ستحررنا الأجيال العربية المعاصرة من الإرتهان , وهل ستتحرر الأمة من دور الرهينة , أم أننا سنزداد إرتهانا وأسرا؟!
وما يحصل في واقعنا منذ عقود وحتى اليوم يمكن تفسيره على أنه سلوك إرتهاني , أي أن الرهينة تؤدي ما يأمرها به الراهن لها , أو القابض على مصيرها
فهل سيتواصل سلوك الرهائن الفاعل في مجتمعاتنا؟!!