23 ديسمبر، 2024 5:48 ص

الإرادة والتصميم اولا في اعادة إعمار العراق

الإرادة والتصميم اولا في اعادة إعمار العراق

تتميز الدول في بعضها عن البعض الاخر بمقدار التقدم والازدهار الذي تبلغه ، ويقوم ذلك التقدم والازدهار على وفق الحرص الذي تبديه الحكومات المتعاقبة في الإنفاق وفِي مقدار التوظيف الناجح لموارد الدولة. ومهما كانت تلك الموارد قليلة او شحيحة ، فالدول التي تعتمد الحكمة والدراية والشفافية في الإنفاق ، تزدهر وتتقدم وتحقق مستويات مقبولة في معدلات التنمية ، قد تتناسب وحجم الموارد البشرية والمالية المتوفرة لديها. بينما الدول المسرفة في الإنفاق من غير مراعاة للعقل والحرص والشفافية فأن مصيرها التخلف والهلاك حتى وان كانت تمتلك أموال طائلة.

ان عملية الإعمار ، إعمار المحافظات المخربة او المدمرة ، وغيرها من المحافظات الاخرى ، وتطوير البنية التحتية لكل القطاعات في العراق ، التي تحدث عنها د. حيدر العبادي في منتدى دافوس ، وهذا موضوع بحثنا ، عملية معقدة للغاية ، ولا تقتصر عقباتها على شحة الموارد المالية كما وصفها د. العبادي ، وانما يضاف الى العقبات المالية ، عقبات او عناصر اخرى لا يقل دورها أهمية عن شحة او قلة الموارد المالية ، بل وقد تزيد عليها ، ألا وهي (١) فقدان إرادة وتصميم القيادة الوطنية على احداث تطور بنيوي ملموس في كل القطاعات و(٢) فقدان الجهاز الاداري الحكومي القادر والمؤهل على إنجاز التطور بشفافية.

أحدث النظام الملكي العراقي إنجازات هائلة في فترة حكمه ١٩٢١-١٩٥٨ لاسيما الفترة ١٩٢١-١٩٣٤ ، فترة حكم المرحوم الملك فيصل الاول ، في كل المجالات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية ، وقبل كل ذلك في مجال الوحدة الوطنية ، رغم ان موارد الدولة في حينه ، البشرية والمالية ، كانت شحيحة للغاية ، اذ ان العراق كان قد خرج للتو من تحت الركام العثماني ، والبنية التحتية كانت بكل أنواعها مفقودة ، فضلا عن ان عائدات النفط كانت قليلة تأسيسا على ضعف اسعار النفط العالمية في حينه ، والتوزيع غير المنصف لعوائده بين العراق والشركات النفطية المستثمرة ، التي لم توزع بين الاثنين مناصفة الا بداية الخمسينيات من القرن الماضي. ولكن ، رغم كل ذلك ، كانت الإنجازات بادية للعيان ، ومع ازدياد عوائد النفط توجت الحكومة العراقية او النظام الملكي تلك الإنجازات بأقامة مجلس الإعمار سنة ١٩٥٤.

اذن مرجع التقدم الذي تحقق يستند الى صدق وتصميم القيادة السياسية على احداث نهضة في كل القطاعات ، وزاد عليها حسن اداء الجهاز الاداري الحكومي وبكل كفاءة وشفافية لتلك التطلعات التنموية.

وحتى النظام الجمهوري الاول ١٩٥٨-١٩٦٣ تحت قيادة المرحوم عبد الكريم قاسم ، احسن التدبير في الإنفاق والشفافية في التنفيذ بتعامله مع الأموال الهائلة في وقته التي تركها له النظام الملكي ، فتغلبت مرة اخرى كفة إرادة وتصميم القيادة والاداء الجيد والشفاف للجهاز الاداري على كفة الموارد المالية في معادلة مشروع التطور والبناء.

ومن ذلك ، ان الحكمة وحسن التصرف وتجنب الاسراف ومراعاة الشفافية ، لها كلها مجتمعة اليد العليا في مشروع التعمير والبناء ، وربما يعلا دورها على دور الأموال الكبيرة ان كانت متوفرة او غير متوفرة. وخير برهان على ذلك ، القفزة النوعية التي حققها العراق في عشرة أعوام فقط ما بين ١٩٦٨-١٩٧٩ ، التي نقلته من حال الى حال ، وأصبحت خطاه الحثيثة نحو التقدم والازدهار تعد لان يبلغ العراق مستوى الدول المتقدمة في وقت لاحق ليس ببعيد ، او ان يكون قريبا منها في الاقل ، رغم ان الأموال التي كانت موظفة في عملية الإعمار وبناء البنى التحتية ، ليست ضخمة وليست بالمقدار الذي يعتقده البعض ، اذ ان اسعار النفط في الخمس سنوات الاولى منها ، كانت الأسعار السائدة فيها هي الأسعار التقليدية ، وبالاضافة الى ذلك لم يستثمر العراق كل الأموال التي توفرت له في ما بعد نتيجة ارتفاع اسعار النفط في الخمس سنوات الاخرى ، بدليل ان الاحتياطي النقدي العراقي الذي تكدس في البنوك بلغ سنة ١٩٨٠ نحو ٣٥ مليار دولار من غير ان تجد تلك الأموال باب جديد لإنفاقها.

غير ان ما هو العكس او ما يخالف ذلك ، ان انفقت او بذرت الحكومات العراقية المتعاقبة من سنة ٢٠٠٣وحتى سنة ٢٠١٤ مايزيد على ٨٠٠ مليار دولار من غير ان تعمر دَار او حتى تصون على الاقل مشاريع البنية التحتيّة التي كانت قائمة من قبل ذلك.

سوء التصرف في الحكم وفقدان الحرص والحكمة يؤدي قطعا الى الاسراف وعدم الشفافية في الإنفاق ، ووفق ذلك انهارت دولة مصر الفرعونية وأصبحت مصر عرضة للأطماع والغزوات الأجنبية بعد ان انصرف ملوك مصر الى بناء القبور (الاهرامات) العملاقة وتسابق كل ملك مع الملك الذي قبله أيهما قبره اكبر وأوسع حتى افلست الخزينة وتصدعت البنية التحتية والاجتماعية للشعب المصري رغم الخزائن التي كان يمتلكها الملوك على مختلف العصور الفرعونية. في حين ان الحرص وحسن التدبير والحكمة وتحاشي الاسراف في الإنفاق مكن الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور من بناء مدينة بغداد ووضع الأسس القويمة لدولة عملاقة وسط الدول الاخرى القائمة في حينه مع ان المبالغ التي كانت متوفرة بيده ليست بالمبالغ التي ينسب اليها لوحدها هذه الإنجازات.

والان نعود الى جهود إعمار المحافظات العراقية المدمرة والمحافظات الاخرى ، والتذرع بقلة الأموال المتاحة بيد الحكومة العراقية ، وهذا ما سمعناه في منتدى دافوس ، وعزوف الدول العربية والأجنبية عن الإسهام في هذه الجهود.

ما حاجتنا الى الاموال الخارجية ، عربية كانت ام دولية ، يبيع العراق اليوم من النفط الخام ، حسب ما تقوله وزارة النفط العراقية ، نحو ٥ ملايين برميل يوميا. وبسعر نحو ٧٠ دولار للبرميل الواحد. اي ان العائد اليومي من مبيعات النفط نحو ٣٥٠ مليون دولار ، ونحو ١٠ مليار دولار شهريا ، ونحو ١٢٠ مليار دولار سنويا. ولا اعتقد ان العراق بعدد سكانه وبعائداته هذه وغيرها يحتاج الى اكثر من ذلك لكي يستأنف عملية اعادة الإعمار المتوقفة كليا وفِي كافة الاتجاهات. ان ما ينقصه ليس الأموال وانما ضعف الإرادة والتصميم على اعادة الإعمار والتنمية لدى القيادات العراقية الحالية وفقدان الجهاز الاداري الحكومي المؤهل لا يقوم بهذه المهمة بشفافية.

والخلاصة ان التركيز الان ، حتى تتم عملية الإعمار الواسع والشامل ، ينبغي ان يتم (١) تولي قيادة البلاد زعامات تمتلك الإرادة والتصميم على احداث التطور الذي يحتاجه ويطلبه الشعب العراقي في كل المجالات وعلى كل المستويات و(٢) خلق الجهاز الاداري الحكومي المؤهل لتنفيذ مشروع اعادة الإعمار الوطني بشفافية و(٣) الحرص في الإنفاق وعدم الاسراف في الاموال المتاحة. وما غير ذلك ، لو توفرت للعراق كنوز الارض ، وليس ١٢٠ مليار دولار المتوفرة بين يديه حاليا ، لن يستطيع ان ينجز عملية اعادة الإعمار التي يوعد الشعب العراقي بها ، ولن يتقدم او يسير خطوة واحدة نحو الامام.