عوامل وأسباب فشل البناء السياسي والاقتصادي في العراق بعد العام 2003، وتعيدها بشكل خاص إلى خلل في النظام الدستوري وفي ترسيخ مؤسسات الدولة، وعوامل أخرى منها الفساد وأزمة الشرعية السياسية.
تحتل دراسة العوامل والأسباب أهمية استثنائية لفهم طبيعة الفشل الكبير في النموذج السياسي والاقتصادي في العراق، والعجز في الانتقال الدستوري لضمان التطور الديمقراطي والمشاركة السياسية، والتحول من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق المفتوح، بسبب افتقاد الأحزاب الدعوية التي احتكرت السلطة للسياسات وللبرامج العلمية، والاقتصادية، والسياسية، كما غاب مبدأ التوزيع العادل للثروات، وانتشرت ظاهرة التمييز الاجتماعي، والديني، والمذهبي، والعرقي، والابتعاد عن تطبيق معايير الكفاءة والمنافسة النزيهة في توزيع السلطة في شغل الوظائف العامة والخاصة، مما يحرم الفئات المختلفة في المجتمع العراقي من المشاركة في العملية السياسية والاقتصادية.
لقد اتسمت الحياة السياسية بشمولية دينية مذهبية إقصائية، حكمت النظام السياسي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، وبدلا من تحقيق وعود بناء نظام ديمقراطي في العراق يضمن التداول السلمي للسلطة، ويحمي الحقوق، ويرسخ دولة المواطن، ظهر استبداد الأحزاب الدينية كواحد من أخطر أنواع الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تاريخ العراق المعاصر. هكذا تجاهل النظام السياسي الشمولي مفهوم حيادية المؤسسات في الأنظمة الديمقراطية، حيث تكون الدولة محايدة بين جميع الطبقات، والأديان، والمذاهب، والأعراق، والقوميات، والثقافات، والعشائر، وعدم التدخل في شؤون الأحزاب السياسية، وضمان العدالة في المشاركة وفي الحق باختيار الاتجاهات السياسية والفكرية ضمن دولة مدنية ديمقراطية.
وهنا عرض وتحليل طبيعة الاختلالات في النظام الدستوري العراقي للعام 2005، وانعكاسه وتأثيره في فشل الحياة السياسية والاقتصادية، وما سبّبه من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، ومحاولة استكشاف المُشكلات الطائفية، والمحاصصة السياسية التي ظهرت بسبب وجود فجوة عميقة بين ثقافة الأحزاب الدعوية الماضوية التي لا تؤمن بالدولة الوضعية الديمقراطية، وبين فلسفة الديمقراطية الليبرالية، ودولة المؤسسات، والفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان.
يستهدف الدستور العراقي وضع قواعد لنظام العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الدولة ومواطنيها، لضمان العدالة والحقوق والحريات للمواطنين، والدور الآخر للدستور يتمثل كضامن للوحدة الوطنية وسيادة الدولة. لقد هيمنت المقاربة الأيديولوجية المذهبية على الخطاب السياسي للأحزاب الدينية العراقية بعد العام 2003، وانعكست هذه الهيمنة على تأويلات لمضمون الدستور لا تنسجم مع أي نظرة علمية تراعي القواعد الدستورية للدولة الحديثة، مما أفقد دستور 2005 هويته الوطنية التي تمثل مكونات وثقافة المجتمع الذي يتسم بالتنوع الديني والقومي. وظهرت التطبيقات الدستورية محكومة بمفهوم “الأغلبية الشيعية العددية”، التي تتنافى مع جوهر فلسفة الديمقراطية، مما قوّض مفهوم الإرادة الديمقراطية التوافقية. لذا فشل النظام السياسي في ضمان الوفاق الاجتماعي بين الهويات المتنوعة في العراق، وتحول لعامل تفكيك للمجتمع بدلاً من كونه جامعاً وضامناً للوحدة الوطنية).
لقد زعمت الولايات المتحدة الأمريكية، أنها تهدف لتاسيس دولة مدنية ذات هويات ثقافية ومذهبية متنوعة، هويات تضم الشيعة والسنة والأكراد، لضمان ظهور دولة ديمقراطية. لكن واشنطن، تجاهلت تاريخ تشكُل هوية الدولة العراقية منذ العام 1921، مختزلة الدولة بمجموعة من الهويات المذهبية والقوميات والأقليات العرقيةطبقاً للمادة من الدستور. كما اعتمدت الأحزاب والمنظمات الدينية، والتي عملت على توزيع المناصب والمسؤوليات في الدولة طبقا لنظام المحاصصة الطائفية. وكان الأجدر التركيزفي الدستور على مفهوم الوحدة الوطنية السياسية والاجتماعية بدلا من الانقسام لمكونات طائفية، شكّلت ذريعة قوية لصياغة مجموعة من القرارات والسياسات التي كرّست نظام المحاصصة السياسية والطائفية في السلطات الثلاثة ومختلف المؤسسات والمنظمات.
كما تضمن الدستور بعض الفقرات والمواد الإيجابية، التي تشمل مفاهيم ومبادئ للدولة المدنية وفق الآتي: لا ينبغي وضع أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات للمواطنين. الشعب هو مصدر السلطة وشرعيتها، خضوع القوات المسلحة للسلطة المدنية، حظر التعذيب، استقلال النظام القضائي، وتأكيد أهمية منظمات المجتمع المدني. بعض هذه الحقوق كانت موجودة في الدساتير العراقية السابقة، ولكنها لم تكتسب المعنى الحقيقي في التطبيق في ظلّ الأنظمة الشمولية. علماً أنّه في عراق اليوم وبعد هيمنة الأحزاب الدينية والمحافظة والعرقية على السلطة منذ 2003، فقدت كل هذه المبادئ الإيجابية معناها وأهميتها.
لقد تضمن الدستور مجموعة من المضامين المتناقضة مع مبادئ الدولة المدنية الديمقراطية، التي دفعت إلى انعدام التوافق والانقسام بين أطراف العملية السياسية بدلا من المساعدة في حلّ العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وأسهمت العديد من الفقرات في خلق وإثارة مشكلات خطيرة. وبالإمكان تحديد هذه القضايا والإشكاليات الرئيسية كما يأتي: لقد نصت المادة (2): إنّ “الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع”، كما ذكرت: “لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”، وبصورة متناقضة، نصت الفقرة (ب) على عدم جواز “سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية”، أو “يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور”، طبقاً لما ورد في الفقرة (ج)، مما أدى إلى فقد جميع المعاني الإيجابية التي وردت في الفصل الثاني الخاص بالحقوق والحريات، بفعل تناقض السياسات العامة، واستمرار هيمنة واحتكار الأحزاب والمؤسسات والشخصيات الدينية للسلطات الثلاثة.
كما جاء دستور عام 2005، ليعمق تقسيم المجتمع إلى طوائف دينية، حيث أشارت المادة (41) إلى النص الآتي: “العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، بحسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، ويُنظم ذلك بقانون”، مما يصنف العراقيين وفقا للمذاهب الدينية ومعتقداتهم وحياتهم الشخصية، وهي مشكلة سبق للقوانين العراقية النافذة أن تجاوزتها عن طريق وضع قانون موحد للأحوال الشخصية منذ العام 1959، وبما يضمن المساواة والعدالة للمواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. كما أكدت المادة (43) على حرية الطقوس المذهبية، مُشيرة إلى أنّ: “أتباع كل دين أو مذهب أحرارُ في: ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية”. مما أثار تحفظات واعتراضات منظمات المجتمع المدني خصوصاً منظمات حقوق الإنسان والجمعيات النسوية.
أثار تشكيل الجيش العراقي وإعادة بناء القوات المسلحة، نقاشات واختلافات وانقسامات حادة، بسبب عدم تناول المادة (9) من الدستور، لتحديد مسؤولية سلطة الدولة في إنشاء جيش وطني موحد، بل نصّت على الآتي: “تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداة لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة”. وبخصوص منع تشكيل الميليشيات أشارت للنص الآتي: “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”.
ولكن من الناحية العملية، لم تلتزم مؤسسات الدولة المعنية والأحزاب السياسية بتطبيق الدستور، واعتمدت في إعادة بناء القوات المسلحة وتشكيل الجيش بالأساس على دمج مجاميع من الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية، ويقدر الجنرال “ميك بدناريك” نائب قائد عام العمليات بالفرقة 25 مشاة: أنّ الجيش العراقي في بداية تأسيسه بعد الاحتلال الأمريكي لم يكن يضم سوى خمس فرق عاملة، أي حوالى 50 ألف جندي يتراوح استعدادهم للقتال بين 60 و65 %، وأكّد عدة مسؤولين في الجيش الأمريكي أنّ الفرقة الخامسة بالجيش العراقي تتبع الآن لقيادة فصائل الحشد لا الجيش ، ونادرا ما تتواصل مع قيادة العمليات المشتركة بوزارة الدفاع، إضافة لما تقدم، لا يملك رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة ووزارة الدفاع، أي سيطرة على القوات المسلحة الكردية (البيشمركة) التي تعتبر جزءاً من الجيش العراقي ويتم تمويلها من قبل الحكومة الفيدرالية.
ومما لا شك فيه، إنّ الالتباسات التي لا تعد ولا تحصى، والانقسامات الكامنة وراء عملية صياغة الدستور، والخلافات حول تأويل النصوص الدستورية قد خلقت المزيد من المشاكل السياسية وعطّلت قدرات النظام السياسي. كما كان الدستور عاملاً رئيسياً في إدامة حالة الفوضى التي تعمّ معظم المدن والأقاليم منذ احتلال العراق عام 2003، حيث ما يزال العراق، حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من الوعود الانتخابية، واحداً من البلدان الأكثر خطورة وفساداً في العالم. فالوضع الأمني الهش والخدمات الاقتصادية والبلدية مثل: الكهرباء، والصرف الصحي، والمياه النقية، والخدمات الصحية والتعليمية تكاد تكون غير متوفرة.
يشكل الصراع الراهن على السلطة في العراق استمراراً لأزمة النظام السياسي، وعدم قدرته على ضمان العدالة في توزيع الثروة والموارد، وفشله في ضمان حقوق الإنسان والديمقراطية، وعجزه عن تحقيق التداول السلمي للسلطة، واعتماده على أيديولوجية إقصائية طائفية تمثلت في هيمنة الأحزاب الشيعية على السلطات الثلاثة، مما عمّق الأزمات بين ثقافة الأحزاب الثيوقراطية والأحزاب المدنية لبناء دولة المؤسسات والدستور، وعكس خللاً بنيوياً خطيراً، أسّس للفوضى السياسية، وعسكرة المجتمع، واستمرار ظاهرة الحروب والعنف. إنّ تطوّر الأحداث واستمرار الأزمة السياسية في العراق، تثير اليوم قضية أخلاقية في بلدان الشرق الأوسط التي تمرّ بتناقضات حادة، بين نموذج الدولة الديمقراطية الدستورية ومحاولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية نشر النموذج الثيوقراطي الشمولي.
وقد تجذّرت الطائفية السياسية والتهميش والإقصاء، وتمحور الصراع في النظام السياسي حول مواقع المسؤولية في البلاد، ليس للإصلاح وإنّما للهيمنة والاستحواذ وتعميق الشروخ الطائفية والجهوية، ودخل العراق بالفعل نفق الصراع على مراكز النفوذ والسلطة بدلا من الشراكة السياسية.
تتعمق في أوساط الرأي العام السائد اليوم، المواقف المعارضة للنظام السياسي في العراق، الذي يتسم بوجود الدولة العميقة العابرة للحدود، التي تقوض الديمقراطية والفصل بين السلطات وبالفساد السياسي والمالي. بجانب انتشار التعصب المذهبي، والمحاصصة الطائفية والسياسية، والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وانتشار السجون السرية والتعذيب منذ العام 2003، وتضم المعتقلات العراقية أكثر من 300 ألف معتقل، كما تعرضت 4500 امرأة عراقية للاعتقال والاغتصاب، وهذا ما أكدته لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch، كما تنتشر السجون والمعتقلات السرية التابعة للمليشيات حيث يتعرض المعتقلون لأبشع أشكال الإهانة والتعذيب والإعدامات العشوائية التي تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية الموجودة في دستور 2005.)
وعلى الرغم من انضمام العراق إلى اتفاقية الحماية من الاختفاء القسري في العام 2010، إلا أن السلطات العراقية لم تلتزم بالمادة (4) من الاتفاقية التي نصت على: “تتّخذ كل دولة طرف التدابير اللازمة لكي يشكّل الاختفاء القسري جريمة في قانونها المحلي”. كما قرّرت المادة (17) من الاتفاقية الآتي: “لا يجوز حبس أحد في مكان مجهول”، وأنه يجب حبس جميع المحتجزين في أماكن معترف بها رسمياً لكي يتيسر تحديد أماكنهم لضمان حمايتهم بقوة القانون. ولكن الحكومة العراقية ما تزال ترفض التقيد بذلك رفضاً تاماً. فهناك جهات عدة تنازع وزارة العدل، التي تُعدّ قانونياً صاحبة المسؤولية الحصرية عن مراكز الاحتجاز والسجون، هذه الصلاحية، من بينها وزارتي الداخلية والدفاع، وعدد غير محدود من الأجهزة العسكرية والأمنية وصولاً إلى الحشد الشعبي. ورفضت الحكومة العراقية غلق هذه السجون والمعتقلات غير الرسمية التابعة لهذه الجهات.
وبالعودة إلى حوادث الاختفاء القسري الموثقة، ومن بينها حادثة الرزازة، فقد جاء في تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق المعنون: “تقرير حول حماية المدنيين في النزاع المسلح في العراق من 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 إلى 30 سبتمبر/أيلول 2016″، والذي كشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعمليات القتل والخطف غير المشروعة، للعديد من الأفراد الفارين من مناطق النزاع في الأنبار عند نقطة تفتيش الرزازة التي تسيطر عليها مليشيات، وأن عدد المختطفين بلغ ما يقارب 1200 شخص. وأن مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في البعثة قد تمكن من “تأكيد هويات ما يقارب 460 شخصاً من أولئك الذين خطفوا في الرزازة”.)
وفي تقرير آخر لبعثة الأمم المتحدة عن: “وضع حقوق الإنسان في العراق ديسمبر/كانون الثاني – يونيو/حزيران 2017″، تحدث التقرير عن اعتراض: “جماعة مسلحة من كتائب حزب الله، والتي قامت بفصل 1500 من الرجال والصبيان المراهقين عن النساء والأطفال”، لاحقاً “جرى إعداد قائمة تضم أسماء 643 رجلاً وصبياً مفقودين، فضلا عن 49 آخرين يُعتقد أنّهم إمّا أن يكونوا قد أُعدموا تعسفياً أو عُذّبوا حتى الموت في أثناء الاحتجاز”. في الحادثتين، اعترفت الحكومة العراقية بحوادث الاختفاء القسري، وأعلنت عن تشكيل لجان تحقيق، كما أكّدت الأمم المتحدة أنّها تلقت رداً من وزارة الخارجية العراقية يعترف بوجود “707 أشخاص من الصقلاوية لا يزالون في عداد المفقودين”. ولكن، وإلى هذه اللحظة، ما يزال مصير هؤلاء المختفين قسراً مجهولاً، ولم تُعلن نتائج أي من هذه التحقيقات، ولم يلاحق أو يحاسب أحد.
كما فشلت مؤسسات السلطة في مواجهة أزمة النزوح والتهجير، التي عانى منها ملايين العراقيين، ووفق بيان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش في العراق، “بلغت أزمة النزوح ذروتها في إبريل/نيسان 2016 عندما أُجبر 3.4 ملايين شخص على ترك منازلهم. وبعد مرور عامين، لا يزال أكثر من 2.1 مليون شخص نازحين وبحاجة إلى مساعدات إنسانية. إنّ تمويل عملية تقديم الدعم في حالات الطوارئ للفئات الأشد ضعفاً لا يزال، على أية حال، عند مستويات متدنية للغاية”. كما ارتفعت بسبب الحروب معدلات الأيتام من الأطفال لتصل إلى 5.6 مليون وعدد الأرامل 2 مليون، ويحتاج 8.6 مليون إنسان للمساعدة الإنسانية وفق تقديرات الأمم المتحدة، التي أشارت إلى عيش 3.5 مليون مواطن في المساكن العشوائية التي لا تليق بالبشر، إضافة لانتشار 39 وباءً تشكل تهديداً خطيراً للصحة العامة.)
يعرف الفساد السياسي بأنّه إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق منافع غير مشروعة ومصالح شخصية ومكاسب خفية.ويوجد الفساد في الأنظمة السياسية غير الديمقراطية، مهما اختلفت هويتها وعناوينها ومسمياتها وتوجهاتها.ويرتبط الفساد السياسي بالفساد المالي، الذي يؤسس للجريمة المُنظّمة العابرة للحدود، والمرتبطة بجرائم تجارة المخدرات، وغسيل الأموال، وتزييف العملة، والجريمة السيبرانية، والعمولات غير المشروعة على الصفقات، والذي يُعد جريمة مخلة بالشرف وخيانة للوطن طبقا للقوانين العراقية. واتسع حجم الفساد المالي في العراق ليشمل البنية الاقتصادية بكاملها، مما أدى إلى اتساع ظاهرة البطالة التي ارتفعت لأكثر من 31 %، وارتفع مستوى الفقر المدقع إلى 35%، كما وصل عدد الأميين إلى7 ملايين نسمة، وانتشر تعاطي المخدرات بين 6 % من شباب العراق، بجانب غياب العدالة في التوظيف بسبب احتكار سطوة الأحزاب والميليشيات وسيطرتها على آليات الدولة.
إن تدهور الاستقرار والأمن الاقتصادي مرتبط بظاهرة الفساد المالي، وكشف تقرير صادر عن “المركز العالمي للدراسات التنموية” في لندن: (أن العراق حقق خلال الفترة 2014-2006، فوائض مالية تقدر بـ 700 مليار دولار، ذهبت للطبقة السياسية الفاسدة، وكان يمكن أن تساهم في إعادة إعمار العراق وتحويله إلى دولة حديثة)، وفق تقرير نشره سنان الشبيبي محافظ البنك المركزي العراقي. كما نشر النائب عادل نوري، رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب، تقريراً في العام 2016، بيّن فيه: (أنّ الحكومة العراقية قامت بإنفاق 600 مليار دولار، خلال تولي نوري المالكي لرئاسة الوزارة، وبدون وجود إيصالات توثق أبواب الصرف). كما أهدرت حكومة نوري المالكي مبلغاً قدره 206 مليارات دولار، أُنفقت على عقود وهمية أو على مشاريع متلكئة، بلغت 90 ألف مشروع في مجال الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس والعقارات. وبيّن تقرير الشفافية الدولية للعام 2019، (أنّ العراق يأتي بعد سوريا من بين 6 دول الأكثر فساداً في نهب الثروات الوطنية في العالم).
وقال تقرير هيئة النزاهة العراقي، وهي الجهة المكلفة بمتابعة قضايا الفساد في العراق، أنّها عملت في النصف الأول فقط من العام 2018 على نحو 8500 قضية فساد في مؤسسات الدولة، وأنّها تمكّنت خلال نفس المدة، من وقف هدر ما يعادل نحو 400 مليون دولار، كما جرت إحالة الآلاف من المسؤولين إلى القضاء بما في ذلك وزراء وموظفين كبار)
لقد واجه النظام السياسي العراقي تحديات عديدة، تتمثل بإشكالية الشرعية السياسية، التي هددت وما تزال تهدد توازن واستقرار النظام، وغياب الهوية للمشروع الوطني الذي يؤطر السلوك السياسي لجميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية سواء على مستوى علاقات مؤسسات النظام السياسي، أو في علاقة المؤسسات بمنظمات المجتمع المدني، وفي مستقبل جمهورية العراق، لضمان قدر من الاستمرارية والتوازن لدولة المؤسسات في مواجهة تحديات وتداعيات الاحتلال والتفكك.
إذاً، يبقى هدف الحفاظ على الدولة وبنية النظام السياسي في إطار الصيرورة التاريخية لتطور المجتمع العراقي، يمثل هدفاً لبلورة هوية وطنية عراقية جامعة، لمختلف مكونات الشعب العراقي في إطار نظام سياسي ينسجم مع معطيات وحاجات الطبقات والأديان والقوميات، ويوفر فرصاً لمقومات البقاء والتنمية الشاملة المستدامة. أي إنشاء نظامدستوري سياسي برلماني ديمقراطي تعددي، يوفر إطاراً سياسياً جامعاً للتعايش والتعاون والتوافق لكل المنظمات والأحزاب، تحت إطار من الشرعية السياسية التوافقية، بعد تفكيك نظام المحاصصة الطائفية والاحتكار المذهبي الشمولي للسلطة.
تعبر الديمقراطية عن وجودها عبر دولة النظام والدستور، دولة التنوع بين المؤسسات والوظائف التي تؤديها في المجتمع، وهي أيضا تعكس ثقافة وحضارة شعب العراق، وإن أحد محددات ازدهار المؤسسات الديمقراطية هو المضمون الفكري والثقافي للمجتمع الديمقراطي، فبدون وجود ثقافة التعددية السياسية واحترام الخصوصية والتنافس وضمان تطبيق الدستور في فصل الدين عن السياسة، لن يزدهر النظام السياسي والاقتصادي في العراق، وقد تؤشر التصورات النظرية لبعض الساسة العراقيين فهماً جيداً لهذه المعادلة، لكن مثل هذا الفهم لا يمكن أن يكون ذا معنى أو مصداقية بدون خطوات ملموسة على الأرض.
وفي هذا الجانب يقول الرئيس العراقي، برهم صالح، إن “تحقيق الأمن المجتمعي يرتبط بالتحديث الشامل للبنى الاقتصادية، والانتقال من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق المفتوح عبر “تشجيع الاستثمار، وتوفير فرص العمل، والنهوض بالصناعات الوطنية، وتشجيع الإنتاج الزراعي، ودعم المشاريع العمرانية الكبرى، جنباً إلى جنب مع تشجيع المشاريع المتوسطة والصغيرة”) .
أن هذا المنطق بحاجة إلى آليات تنفيذية وليس إلى مزيد من التنظيرات، ففي النهاية لا يمكن ضمان التوافق حول الهوية الوطنية للعراق، وبناء دولة المؤسسات، والفصل بين السلطات، وتوفير فرصة حقيقية لتطبيق العدالة الانتقالية، وتأسيس نظام دستوري عادل وديمقراطي، من غير حل الإشكاليات الأساسية في النهج المتبع في العراق منذ الاحتلال، وهو ما لا يمكن أن يتم من غير مواجهة الطبقة السياسية الفاسدة وإنهاء حالة الارتهان للخارج وفي تحقيق المساواة والعدالة وسيادة مبدأ المواطنة، واحتكار الدولة للعنف، وكل ذلك، على مشروعيته، صعب ومعقد، وقد لا يكون متاحاً أو ممكناً على الفور، أو بدون تضحيات إضافية يقدمها العراق والعراقيون.
في الحقيقة أن النظام السياسي العراقي نظام متآكل، غير مترابط وقوي، ومن السهل جدًا سقوطه، بسبب عدم اكتراث قادة النظام به، وأن الآليات التي جاء بها هذا النظام لا تنسجم مع الديمقراطية السليمة.. فمنذ كتابة الدستور العراقي الذي جاء به الاحتلال الأمريكي، والذي جاء معه شخصيات لا تمت للسياسة، ولا الإدارة شيئًا، وفصل هذا الدستور العراق إلى نظام حسب التقسيم الطائفي والمحاصصاتي للسلطة، وإنشاء ما يسمى بمجالس المحافظات ومنح الساسة الامتيازات الفاحشة، والأموال الهائلة التي كانوا يحلمون بها من قبل، ووضع القاتل الأول للعراقيين ما تسمى بالأحزاب السياسية الفاسدة، التي نهبت وأدمت قلب العراقيين وواقعتهم في مشاكل كثيرة واستغلت الاقتصاد لها، وحكرت التجارة والصناعة والزراعة لمصالحها، ودمرت البنى التحتية حتى أصبح الفساد في العراق مثلًا يضرب به في العالم.
لم يكتب الشعب العراقي الدستور في 2005، ولم تشارك في كتابته النُخب الوطنية من المفكريين والأكاديميين والأساتذة، بل كتبته أيادي حزبية سياسية والاختلاف الطائفي والمكوناتي الكثير بينهم في تقسيمه، قبل أن يتم التصويت عليه، وقد سمي في ذلك الوقت “لجنة كتابة الدستور” المفتقرة إلى المنطق، ولا تملك أي مؤهلات رصينة في كتابة دستور لبلد مثل العراق، وخصوصًا بعد مرحله انتقالية شهدت الإطاحة بالنظام البائد واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
إن أول خطوة يحتاجها العراق، هو إعادة صياغة وكتابة الدستور غير العراقي الذي جاء به مجموعة من المرتزقة الذين طمعوا في ثروات وأموال العراقيين، ولأنه كتب من غير إرادة ومشاركة شعبية حقيقية كبيرة، وأعطى الامتيازات للساسة، وتعامل مع المنطقة الكردية على أنها كيان مستقل، وإقليم خارج عن حدود العراق الجغرافية، وهذا ما كنا نتكلم عليه بأن يكون منصفًا وعادلًا، ولا يتم تقسيم العراق حسب الأقليات والأقاليم، وهذا مغاير ومعاكس تمامًا لما تتطلبه التجربة الديمقراطية والوطنية، وتحتاج كتابة وصياغة الدستور إلى مشاركة النخب الفاعلة في الفضاء العام، ويتم التصويت عليه عبر استفتاء شعبي من جميع العراقيين ومن حق الشعب رفضه أو الاعتراض على بعض من المواد التي باستطاعة اللجنة أن تغير منها، من حقهم رفضه لأنه كتب لخدمتهم ولراحتهم وأمنهم، كتب لأجل العراق لا لأجل المصالح الشخصية الحزبية والخارجية.
في انعدام السلطة التي تشعر بمسؤولية يحدث الفساد، وانعدامها بدرجة مطلقة يحدث الفساد المطلق، ومن الواضح أن السلطة السياسية في العراق انعدمت، فوجودها من عدمها لا يقدم شيئًا للعراقيين بعد أن باتت هذه الوجوه متحالفة فيما بينها لاستمرار الفساد الموجود في كل مؤسسات الدولة، بسبب غياب القانون والعدالة وضياع أموال الناس، وعدم الاكتراث بها، ومن المستحيل محاسبة فاسد لفاسد، وعندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد ويسوم الفقراء سوء العذاب. إنه لأمر كارثي، حيث وصل واستشرى الفساد حتى في القضاء العراقي! إن المشكلة هي هي أن النظام يحمي الفساد ويدفع باتجاه تفشيه، والنخبة السياسية الحاكمة تعاني منه بدرجة مطلقة. فإذا صلح القائد فمن يجرؤ على الفساد؟ لقد قام النظام السياسي العراقي على أخطاء كثيرة وعديدة، عند كتابة الدستور، ومنها المحاصصة للمناصب بشكل يقوم على الانتساب الطائفي لا الكفاءة، وتقسيم المناصب يبنى على حساب تهميش حقوق الآخرين ونهب ثرواتهم، فضلًا عن لغة العنف التي تطبع بها، والتي لم ينتج منها غير الدمار الاجتماعي، فيما عملت السلطة بعد 2003 على الحكم وإظهار بأنها ديمقراطية، لكنها لم تكن ديمقراطية أبدًا، ويصح القول إن ما يحدث في العراق ديمقراطية بلا ديمقراطيين، أو أنها ديمقراطية تحمي الفساد.
فشلت الطبقة السياسية في وضع الحلول لكل أزمة مر بها العراق، ويمكننا أن نذكر هذا الفشل على شكل نقاط:
1ـ الدستور العراقي غير صالح للعراقيين، وضعيف، وتمت كتابته من قبل أشخاص لا يمتون للسياسة والعمل السياسي بشيء ولأجل مصالحهم وأهدافهم لا أكثر.
2ـ تقسيم السلطة على أساس نظام طائفي والمحاصصة وإعطاء الرئاسات الثلاث والوزارات حسب الطائفة والمذهب وليس على أساس الكفاءة.
3ـ الاستغلال والتستر بالدين عبر ما يسمى أحزاب الإسلام السياسي في مجتمع متنوع.
4ـ عدم استقلالية المفوضية العليا للانتخابات.
5ـ منح الامتيازات الفاحشة والرواتب إلى الساسة والقادة.
6ـ إنشاء مجالس المحافظات الذي لا ينسجم مع واقع العراق.
7ـ غياب وتشضي المعارضة الحقيقية القوية التي تطالب بحقوق الشعب وتعارض النظام السياسي داخل البرلمان..
8ـ غياب الدور الرقابي والتشريعي للبرلمان والضعف والفساد في النظام القضائي.
9ـ غياب الهوية الوطنية للساسة العراقيين وتبعيتهم وولائهم المطلق لدول الجوار أو الغرب حفاظًا على مصالحهم.
10ـ غياب وجود قوة وإرادة حقيقية في تغييرالنظام السياسي.
11ـ عدم وجود نظام اقتصادي في العراق تحت مبدأ المصلحة العامة للبلاد.
12ـ غياب دور السلطة والقانون في كشف الفساد ومحاسبة الفاسدين وتقديمهم للعدالة.
13ـ خضوع النظام السياسي العراقي إلى إرادة غير عراقية خارجية تتحكم فيه وبثرواته ومستقبله.
14ـ اعتماد النظام على النفط تاركًا التجارة والصناعة التي من شأنها أن ترفع اقتصاد البلد.
15ـ تدمير القطاع الزراعي وعدم تشجيع الفلاح العراقي وتقديم له المعونة والمتطلبات الحقيقية.
16ـ غلق المصانع والمعامل وعدم تشجيع المنتج الوطني المحلي والاستيراد من دول الجوار والغرب.
17ـ كثرة البطالة، وخصوصًا عدم تخصيص درجات تعينية للمتخريجين والاستفادة من خبراتهم.
18 ـ عدم السيطرة على تهريب النفط إلى الشمال ودول الجوار والفساد الضخم فيه.
19ـ سوء وضعف الجهاز الأمني بسبب فساد النظام السياسي.
20ـ تسيس الإعلام وخضعه لأيادي حزبية، ولصالح السلطة السياسية غير الوطنية.
21ـ تهميش وتهجير الكفاءات العلمية النزيهة المستقلة.
22ـ غياب دور القانون مما أدى إلى انتشار السلاح خارج إطار الدولة وتأسيس جماعات مسلحة قد تهدد الدوله نفسها.
23ـ ضعف التمثيل الخارجي الدبلوماسي سواء في الأمم المتحدة أو العلاقات الدولية بعد أن أصبحت وزاره الخارجية مقرًا لأبناء وأقارب الوزير و”طائفته” بالضرورة المحاصصاتية.
24ـ إهمال مراقبه الحدود الجغرافية العراقية وعدم حمايتها من المتربصين بأمن العراق وشعبه.
25ـ سوء الخدمات اللازمة التي يحتاجها المواطن العراقي.
26 ـ سوء التعليم في العراق وعدم وجود كوادر تدريسية كافية مع قلة المدارس.
27 ـ تدمير الثقافة والفن وعدم وجود أي برامج أو مواصلات داعمة للحراك الثقافي.
28ـ عدم وجود خطط للتحديث العمراني والبنى التحتية والبدء بمشاريع خدمية.
كل هذه النقاط ما هي، إلا لمحة صغيرة، ونقطة في بحر من الهفوات والعيوب ومساوئ العملية السياسية العراقية، التي لم تصلح منها أي شيء، وأن المشاكل في جميع النظام السياسي والمؤسسات والفساد يستشري بها كالمرض الخبيث. ومن هذا الفشل المتفاقم يطرح السؤال عن سقوط هذا النظام وهل من الممكن انهياره؟ إن أقوى وأعظم الإمبراطوريات قد تلاشت مع مرور الوقت، وإن في عالم السياسة لا يوجد ما هو ثابت، وخير مثال (الاتحاد السوفيتي). إن الحكومات لا تسقط بل تتساقط، وهي من تسقط نفسها بنفسها، وذلك بسبب الاستخدام المفرط للقوة أو الاستبداد، والاستخدام المفرط للجشع، وطبقها على النظام السياسي في العراق فقد بدأ بالتساقط تدريجيًا، وهناك عوامل كثيره تجعله هشًا، ومنها عدم الشرعية، وعيشه في أزمة الإنجاز، ولم يؤد مهامه اتجاه الشعب، وعدم إتاحة الفرصة للآخرين بالمشاركة الفعلية وتقديم الخبرات، كل هذه العوامل، ومعها عوامل كثيرة تشير إلى انهيار النظام السياسي، ولا ننسى غضب الشعب العراقي وعدم تقبله للنمط الموجود في الحكم.