23 ديسمبر، 2024 9:23 ص

الأيكـــــــــــــــة

الأيكـــــــــــــــة

في فترة الستينيات وبالتحديد في منطقة ” الفيصلية ” التي ماأنفك عمي “عمران ” ان يسمي محلة الجمهورية الحالية بها , ربما بسبب أرتباط هذا الأسم ببيئته الثقافية وظروفه الأولى التي كوّنت شخصيته وبلورتها . فوق تلك الأرض , كان عمي من ذلك الصنف من الرجال الذي يبدو ظاهريآ – عند قراءة ملامحه – أميل للكسل أو الخجل منه الى التأهب والحيوية , بعكس باطنه الذي يتميز بالرصانة والتبصّر والرجولة , وموهبة رواية الحكايات التأريخية المدهشة ذات الطبيعة المبررة للأصلاح بين الأطراف المتخاصمة . كان ممتلئ الجسم , يمتلك ذراعان كأنهما سيفين , يتحكم بهما رأس ذو وجه لم يكن يخلو من صرامة في أحايين ووداعة في أحايين أخرى , تتلألأ فيه عينان فقأت أحداها في شجار قديم , أما الأخرى فكانت خضراء كلون ورقة نعناع نضرة , أما لحيته وشعر ذراعيه فكانا يبعثان أمواجآ ذهبية طوال ساعات النهار . فكنت أشعر بالأمان قربه وألوذ به – عندما يشتد بي الخوف من أبي – كما يلوذ الطائر المهاجر بالأيكة .

كان في موسم الربيع من كل عام يشدّ رحال السفر الى مدينة بعيدة لأمر كنت أجهله , إذ كان يقوم بتقبيل جميع أبنائه في المساء , ويضع هدايا فيقول : هذه لمدحت .. وهذه لعبد الحسين .. قبل أن يتوجه في الصباح الباكر الى كراج السيارات . كان يتأملهم وهم نيام كأنه يعتذر اليهم , لأنه لم يجد مايقوله للكشف عن سبب رحلته . لكنني مرة سمعت كلمة أنطلقت من فمه رغمآ عنه , ربما لم يقدر على جعلها تختفي بين أضلاع صدره : سيقتلونه !!

لم أعرف من هو الذي سيقتلونه ؟ لكنني أتذكر أن وجه عمي الستيني آنذاك , البالغ النضارة كان يبدو مثل حصيرة القصب المفروشة في باحة البيت , وخطواته بدأت تتعثر . وقفت لأراقب عن كثب حيرته التي لاتصدّق وهي تعلو كائنآ بشريآ ضخمآ . كان قلبي يضجّ بالأسئلة , إلا أنني آثرت الذهاب الى أبي وقتئذ على مضض لكي يكشف لي عن ذلك التحدي الذي أمتلأ صدره مما جعله يتهاوى بسببه .

كان أبي رجلآ نحيلآ , لم يعتن بنفسه كثيرآ برغم ذكائه المتفرد في نواح مهنية عديدة , إلا أنه كان كثير التوتر مما جعله يمضي معظم أوقاته في لعب ” الدومينو ” في مقهى السوق على الرغم أنه لم يكن ضليعآ بفنون اللعبة , لكنه كان يخرج من المقهى مبتهجآ كأنه شاهد عرضآ مسرحيآ ساخرآ . كان أبي يعمل في حانوت وضعه له عمي في منتصف السوق بجانب محله , وهو عباره عن كنتور كبير من الخشب السيسم الهندي القديم , جعله أبي لتصليح مكائن الخياطة . كان لذلك الكنتور الفضل الكبير في تعليمي لغة التعامل مع الماكينة حتى أصبحت محترفآ في تصليحها في ما بعد .

على الرغم من أنني كنت الأبن الثاني في الأسرة , إلا أنني كنت في غاية الألم والغربة , وذلك لأنشغال أبي في أشياء جعلتنا في يأس أكيد عن عقد أي أتفاق مع المستقبل . كانت بوادر الأنفصال عن الأعتماد عليه قد بدأت شيئآ فشيئآ خاصة عندما أشتدّ في صرف النظر عني وأمعن في تعنيفه لي حتى وصل الى حد الضرب المبرّح في منتصف الليل وأنا نائم . فلم أكن قادرآ على التصدي له ولقسوته فآثرت الهجرة الى بيت عمي , وهكذا بدأت التأثر به كثيرآ ليصبح معلمي الأول . كان ذا أفكار بليغة وحكايات ملأى بالحكمة . فشرعت في بذل أقصى الجهود لكي أكون على غراره مع كوني لم أعرف علة ذلك التأثير .

فقدمت الى المحل لأجد أبي منهمكآ في تفكيك أحدى ماكنات ” السنجر”. أغتنمت الفرصة لكي أقتحم أفكاره فسألته بمواربة عفوية :

– أبي .. أترى لكلمة ” صنكر ” من معنى ؟

أجابني بأقتضاب و بيقظة الرجل العارف بمهنته :

– ألا ترى أنها تغرد من أجل أن نواصل العيش ؟ ! ثم أضاف بحذق :

– وهي ” سنجر ” بالانكليزية وتعني ” المغرد ” وليست ” صنكر ” .

ودون أن أبدو متعمدآ لذلك , عقّبت مضيفآ :

– أعتقد أن هذا الأسم يقصد به – ربما – تعديل لسمتها الآلية كونها تعمل بأنسيابية هادئة ووداعة لترتبط بسمات الكائنات الحية لتشاطرها الأحاسيس .

لطمني على رأسي بيده زاعقآ : أسكت أيها المجنون .. ماهذا الهراء ؟ يبدو أنك قد أصبحت عاطفيآ بتأثير من عمك عمران !!

لزمت الصمت برهة من الزمن ثم قلت لنفسي : أفسدت يومك هذا , ولابد من تحول الموضوع وفق مزاج وطبيعة المرء الحالية الى وجهة أخرى لتحقيق التوازن النفسي لديه .. فقلت :

– أنا آسف ياأبي فأنا لا أقصد من هذا شيئآ , غير أن هذا الأسم ذو مهمة تبعث على الأثارة وأستحضار الأحاسيس . ولا يوجد ضير في أن أتأثر به بدرجة معينة من التأويل بسبب كون الكلمة أنجليزية ..

رفع أبي رأسه ونظر اليّ مليّا ثم أخرج سيكارة وأشعلها وهو يقول :

– حسنآ , ولكن مكوثك هنا سيتسبب في تعطيل هذه الماكنة ..!

ضحكت وأسرعت في سؤاله :

– أبي , أريد أن أطلعك على شئ ربما لا تعرفه ..

أجابني بعد أن أخذ الشهيق الثاني من سيكارته بشئ من السكينة :

– قل ماعندك فقد بلغت ذروتك هذا اليوم .. أيها النكد ..!

– ألى أين يسافر عمي ؟ ولماذا هو حزين القلب ؟

تعثّر لسانه كأن شيئآ يمنعه من الرد , إلا أنه أجابني بكلمات متقطعة وبالغة التمزق :

– إن مصدر حزنه هو ولده الكبير ” عيسم ” , فقد أخذوه سامحهم الله بدعوى سياسية , ثم أردف بعد أن أخذ شهيقآ عميقآ قائلآ :

– هذه هي الحياة ياأبني .. فهي تبدل جيلآ بعد جيل ..

لم أرد على أبي بشيء , على الرغم من انه قبع في مدرسة السكوت الذي أصاب الكثير من مجاييليه , ففضلت أن اكون مستمعآ فحسب , ثم تركته لعمله ورحلت .

في أحد أيام القيظ , كانت السفرة الأخيرة لعمي ” أبو عيسم ” الى تلك الارض البعيدة . كنت وقتذاك في البيت وقد أدركت – رغم صغر سني – نوع المعركة التي يخوضها وهي معركة جيل أراد أن يستبدل تأريخآ بآخر .. وهكذا وجدت نفسي معنيآ بأهتمامات تتجاوز كبر سني , فيما كانت أواسط الستينيات مسرحآ لصور واقعية هزيلة ومحطمة ويخيم عليها اليأس , أما فرص التمرد فكانت غزيرة غزارة الدماء النافرة في العروق , إلا أن فقدان الحماس في كل شيء قد أضاعها في غمرة نظام دقّ ركائزه في قلب الحياة السياسية . فكانت مهمة المحرومين لا تعدو عن حمل تلك الشراذم المتنمرة التي كرست وقتها لفرد واحد على الاكتاف , فأنفجرت الكارثة وأنكفأ الناس خطوات نحو الوراء بدء بالسبعينيات من ذلك القرن .

كان ” درويش ” احد أصدقاء والدي الذين واجهوا ضراوة الحياة بائعآ للمسبحات والاحجار البحرية وقناديل البخور وطاسات جوز الهند المستخدمة قديمآ في حمامات البصرة إبان العهد العثماني . ذلك الرجل صنفته عيون المخبرين على أنه مشعوذ تحوم حوله الشبهات كونه لايحمل الجنسية الوطنية مما أضطر أن يغير مهنته الى بائع للملابس العسكرية المستهلكة للجنود المتسرحين لكي يسلمونها بدلآ عما فقدوه لأخلاء ذممهم . فأيّ عمل رثّ ومن أية زاوية ضيقة سعى درويش للتمسك بأهداب الحياة ؟

أما والدي فقد تحول بفضل شهادة الفقر الى القيام بمهنة ” الدلال ” في سوق الهرج لأنها حرفة لا تتطلب رأس مال أو حانوت أو عدد يدوية , هذا ماطرأ عليهما وأفضل ما أختاروه لمواجهة الحياة .

ذهبت الى العم ” درويش ” يومآ وكان جالسآ قبالة باب فندق دجلة الذي يطل ببالكوناته المتهاوية على باحات السوق المؤلفة من طريق يمتد من الغرب نحو الشرق ليلتقي ببناية القسم البلدي والطريق الفرعي الذي يمتد نحو حوانيت النجارين وبعض حوانيت بائعي الحبال وشباك الصيد والملابس المستعملة . كانت عيناه ترقب حركة الناس برزانة حكيم راح ينفخ دخان سيكارته من أنف أستدق نحو

الاعلى كالرمح . أما الغطاء الابيض المخرّم الذي يعتلي رأسه , فكأنه طلّسم غريب لفرط نقوشه الحمراء والصفراء التي تحيل الى صور هياكل مقدسة تصرخ بالماضي البعيد . فكان يبدو لي أكبر من كونه بائعآ لأكوام من الخرق البالية .

أقتربت منه بهدوء حتى أنتبه لتحيتي ليقول لي :

– ها .. ماذا تريد ؟

أحسست بخيبة وانا أبحث عن أسلوب آخر كي الفت نظره فقلت له :

– جئت أسألك أن كنت تعرف شيئآ عن أبن عمي ” عيسم ” ؟

نظر اليّ نظرة ساخرة إلا أنني لم أهتم لذلك , فلم أتملقه وكنت واثقآ من مشاعري هذه المرة إذ لم أجعل جهلي يقف ضدي , فتململ قائلآ :

– بلى أعرفه .. ثم سكت ! ورماني بنظرة ثاقبة وسألني بغموض :

– ألم يخبرك أبوك بذلك , أم أضعت أنت الآخر حرارتك كما فعل الآخرون ؟

عجبت لكلامه , كأنه أراد أن يدسّ ما يحير من رموز تحث على التدبّر . فأجبته متحيرآ :

– نعم , لكنك تعرفه جيدآ أيضا . أما أنا فليس في ذاكرتي شيء عنه , فأنا بعيد عن بيت عمي لسنوات , نعيش حياتنا البسيطة ..

فرد عليّ بهدوء :

– صدقت ياولد .. أما أبن عمك فقد كان أكثر تدقيقآ في حياته , بل وحتى في مدينته . وفي الشبه والمثال فهو لأبيه بكل شيء .. فحكم عليه بالسجن لثمان سنوات يقضيها في مكان بعيد عن هنا !

كنت محقآ في ماقلته للعم درويش آنذاك إذ أنني لم أر من أبي شيئآ سواء في فلسفته أو أفكاره غير عبارة كان يرددها : المفلس في القافلة أمين , ذلك بسبب بساطة عيشه . لكنني لم أقبل بهذا النفي للصراع . ثم تابع العم درويش كلامه قائلآ :

– أحسبه قضّى خمسآ منها ..

ودونما وعي , ظلت عيناي تحدقان في شفاهه الخرساء المرتجفة , ولاح لي كيف أن عمي وزوجته وقفا يبكيان في ذلك الصباح الصيفي , ربما لفرط العناء الذي خاضوه طوال السنين السابقة والألم الذي عانياه من دون أن يبدياه لأبنائهم أو اليّ آنئذ على الرغم من أنني ترعرعت في كنفهما لسنوات تجنبآ من سلطة أبي . فتنبه لي العم درويش وقال :

– عجبآ الى أين ذهبت بك الأفكار ؟ ظننتك تحقق أتصالآ بين ماضيك وحاضرك , أو أنك وجدت أول نماذجك لتحذو حذوه .. أم لديك شيئآ آخر يفسر أستغراقك هذا ؟ !

غرقت في مخيلتي ثانية تاركآ العم درويش فلم أتذكر شيئآ سوى وجهه المحمر والقلنسوة التي أنتزعها من على رأسه وضربني بها على وجهي في ذلك اليوم لأنني سمحت لذهنه أن يتشتت . وهذا ما جعلني أقطع صلتي به مدة طويلة بسبب ذلك الموقف .

في اليوم السادس من شهر حزيران عام 1968 عاد الابوان من تلك المدينة البعيدة , وفي اليوم التالي بدأت حكايات عمي تصب في إطار واحد وهو ماتمخض عن تلك الرحلة التي كانت , كما بدت لي , بمثابة البحث عن أنسان جعلوه فوق أهتماماتهم الأخرى في الحياة . أما الضيوف فكانوا يتحاورون مع صمتهم من دون أن يحفل به أي حوار , فيما دخل فتية وسط ذلك الصمت ليحيطوا بعمي كما تحيط الأضلاع بالقلب , وحدثوه بأحاديث الحب والعاطفة , فبادره العم درويش وقد أدهش الجميع بتساؤله الذي فجّر الصمت قائلآ : وهل قتلوه ياعمران ؟! أجبني هذه المرة ؟

كان في تساؤله راحة لي . أبتسم عمي بمرارة ثم غمغم قائلآ :

– هو أحد الفتية الذين نذروا أنفسهم لأن يكون سجنهم البشارة والموت فيه البشارة من جديد .. ففي كل ظهيرة يأخذهم ذوو الوجوه الصغيرة , المجرمون الى حفر بعيدة عميقة ليمرغونهم بها ثم يسحبون أقسام بنادقهم لينطلق الرصاص في الهواء إلا من رصاصة ..

وقف عمي ولم تتوقف حبات الدموع وأضاف قائلآ :

– أتعلم ماالذي قاله عيسم حينما أخذوه الى حفرته . قال : أنكم تقودوننا الى مجدنا وعندما نموت ستعرض اسماؤنا مثلما تعرض اللوحات النادرة !

نظر اليّ العم درويش وهتف بي :

– هذا عمك يابني الذي لم يتخل عن الذهاب في كل عام الى تلك المدينة ليضع باقات من الورد فوق ترابه الطاهر رثاء وانكارآ لافعال اولئك المجرمين , فلم يصبه اليأس أو الرتابة او الملل .. فقاطعه عمي ليقول : أسكت .. أسكت يادرويش .. هيهات اسقط اسمه من على لساني اوشفتي , فهو حياتي هنا ومكان عزلتي هناك ..هكذا اذن ياعمي – قلت في نفسي – الآن وقفت في التضاد مع الواقع الخانق بهذه الكلمات الايحائية المتصارعة في داخلك فأقررتها وكأنك أقترحت على نفسك الخلاص من ذلك السر الذي احتفظت به سنينآ طوال رغم عجزك عن الاقرار به فترة طويلة . فرمقت عينيه وقلت مقاطعآ : وأنا أستأذنك القول ياعمي ! وهنا تنبه الجمع وبدأوا بتعليق ابصارهم بي , فهتفت :

– ياعمي ا ن اخي عيسم لايشبه غيره من الخائفين . لأن الخوف ياعمي هو الاساس في تدهور الاخلاق وأنهيارها . والنخبة الحقيقية في المجتمع هم ممن لم يتخاذلوا , وهم ايضآ ممن علقوا بأبصارهم بضمير الاخلاق وليس بهياكل الطغاة , فالضمير يا عمي حاسة داخلية أخرى وقوة عظمى لدى الانسان , لذلك فقد اختار السجن للدخول في مواجهة السلطة , مع رجال عظماء أرتبط بأذهانهم لتحمّل مسؤولية وهدف واحد .

ظل الجالسون مسمرين لايبالون بما يجري إلا من رؤوس تهتز بين الفينة والاخرى وكأنهم لايملكون شيئآ يقولوه . فألتفت نحوي العم درويش وكأنني أقول له : هاقد اخبرنا الراوي – صادقآ – بمحنته وأزمته بتفائل وتوازن غير محدود . فهتف العم درويش وهوينهض من دون تململ ليقول :

– لقد سمعت صرختك يابني وأدركت غايتك , وأعلم أنك قلت كلمتك فلن يضربك أحد هذه المرة ! ثم التفت الى عمي ليقول مشيرآ اليّ :

– أمسح دموعك ياعمران لتضم طائرك الثاني !