علاقة كاميران بدرخان بالفرنسيين
كانت فرنسا الدولة المنتدبة على سوريا ولبنان منذ علم1919م، ولذا كانت لديها علاقات خاصة مع الكرد عامةً المستقرين في بلاد الجزيرة شمال شرق سورية، والاسرة البدرخانية بصورة خاصة، فهم دعموا جهود الاخوين جلادت وكاميران من الناحية الثقافية في تأسيس مجلة (روناهي – النور) التي صدرت في دمشق عام 1932م.
لقد كتب الكثيرون في مجلة (هاوار- النداء) وساهموا في إخراجها وتوزيعها، وأحد أولئك المحررين الذين كانوا يكتبون في هذه المجلة الأمير الدكتور كاميران عالي بدرخان الذي واظب فيها على كتابة القصة والشعر الحديث تأليفاً وترجمةً. ويعتبر أول من كتب الشعر الحديث (الحر) في الأدب الكردي المعاصر. ومن أروع وأهم ما ترجمه الى اللغة الكردية تفسير (القرآن الكريم)، وقد ظهرت هذه الترجمة على صفحات مجلة (هاوار) في العدد السابع والعشرين وحتى نهاية صدورها، باستثناء بعض الأعداد، وكانت الترجمة قد وصلت في العدد السابع والخمسين الى سورة النساء حتى الآية (48). كما ترجم بعض الأحاديث النبوية الشريفةً.
في عام 1940م كان كاميران بدرخان يلقّن الأكراد في لبنان اللغة الكردية ويعلمهم أصولها في معهد (لاييك) ذي الشهرة الواسعة ويشارك في البث الإذاعي- القسم الكردي- في إذاعة الشرق الأوسط الفرنسية في بيروت التي تأسست في اليوم الخامس من شهر آذار عام 1941م. وكان هذا البرنامج يتكرر في الأسبوع مرتين يومي الأربعاء و الجمعة. وفي بيروت نشر بعض كتبه التي طبعت في مطابع (يوسف سليم الصيقلي) الكائنة في حي (زقاق البلاط). وأفتتح مدرسة لتعليم اللغة الكردية في الحي نفسه.. وكان الامير كاميران في الوقت نفسه يشارك شقيقه جلادت في إخراج مجلة (روناهي – النور) وينشر فيها كتاباته، وقد استمر ظهورها منذ اليوم الأول من شهر كانون الثاني عام 1941م حتى شهر آذار من عام 1945م وفي خلال أربعة أعوام، صدر من مجلة (روناهي) ثمانية وعشرون عدداً.
في خلال أعوام 1943م-1946م أصدر الدكتور كاميران عالي بدرخان جريدة (روزا نو- اليوم الجديد) الأسبوعية باللغة الكردية واللغة الفرنسية بلغت أعدادها الصادرة ثلاثة وسبعين عدداً. وهو الذي كان يقوم بإدارتها وتحريرها وينهض بجميع مسؤولياتها. وفي هذه السنوات كان يصدر أيضاً صحيفة “ستير (النجمة)” التي كانت تخرج بأقلام كتاب وأدباء وشعراء الأكراد. ومن الملاحظ أن أغلب الكتاب والأدباء والشعراء الذي كانوا يكتبون في مجلة (هاوار) و(روناهي) كانوا أيضاً يكتبون في جريدة (روزا نو) و صحيفة (ستير) أمثال: جلادت عالي بدرخان، وكاميران بدرخان، و أوصمان صبري، وقدري جان، وحسن هشيار، وجكرخوين، ورشيد كورد،… و روجيه ليسكو كان يكتب أحياناً في مجلة (هاوار) قسم اللغة الفرنسية.
كان (روجيه ليسكو) ضابطاً فرنسياً أوفدته الحكومة الفرنسية الى العاصمة المصرية (القاهرة) بصفة رجل سياسي. وهو الذي سعى لدى حكومته للحصول على موافقة للدكتور كاميران عالي بدرخان للعمل في (فرنسا). وهو الذي كان يمارس في تلك الفترة مهنة (المحاماة) وكان يعتقد أن العمل في فرنسا سيفيد في دعم القضية الكردية، وفكر في اتخاذ باريس مركزاً لهذا العمل. في عام 1947م سافر الى فرنسا وأصبح مسؤولاً عن معهد البحوث الكردية، وفي عام 1948م توجه الى أمريكا وقدم مذكرة باسم الشعب الكردي للسكرتير العام للأمم المتحدة بشأن القضية الكردية. وأهتم اهتماماً كبيراً في إحياء علوم اللغة الكردية، وخلال وجوده في فرنسا وممارسته لمهنة التدريس في جامعة السوربون- قسم اللغات الشرقية، أقام علاقات متينة بالمسؤولين والمفكرين والسياسيين الفرنسيين ونال منهم الحب والتقدير وخاصة من المستشرق الفرنسي (بيير روندو) مدير معهد الدراسات الإسلامية العليا في باريس، وابنه (فيليب روندو). وفي إثناء إقامته في فرنسا كان يتكلم بصفة ممثل للقضية الكردية ونظم كثيراً من الندوات حول هذه القضية.
ففي عام 1947م غادر الدكتور كاميران بدرخان بيروت إلى باريس بدعوة عدد من المستشرقين الفرنسيين، منهم: الضابط روجر ليسكو (1914- 1975م)، والمقدم بيير روندو (1904- 2000م) مدير معهد الدراسات الاسلامية العليا في باريس، بالاضافة الى رجل الدين الفرنسي الاب الدومنيكي توماس بوا (1900-1974م)، الذين كانوا يتعاطون العمل الاستخباراتي في سوريا ولبنان في حقبة الاستعمار الفرنسي للبلدين، حيث كانت مهمة بيير روندو الاتصال بآل بدرحان: جلادت وأخيه كاميران، ومن خلالهما الاشراف وتصحيح القسم الفرنسي من (مجلة هاوار) التي كانت تصدر باللغتين الكردية والفرنسية ابتداءً من شهر مايس/ أيار عام 1932م في دمشق، مع مساعدة جلادت بدرخان في عمل الالفباء الكردية بالاحرف اللاتينية .
وكان الكاهن الفرنسي (توما س بوا) قد استقر حقبة من الزمن في دير مارياقو الدومنيكاني الواقع في الجبل في قرية (قشفر) شمال غرب مدينة دهوك في كردستان العراق عام 1933م، ولكنه غادرها الى منطقة الجزيرة (= القامشلي) بعد هجوم بعض القبليين الكرد على الدير ونهبه؛ إثر حوادث الآثوريين الشهيرة في العراق في شهر آب /اغسطس عام1933م
أما (روجر ليسكوت) فقد ذهب مرتين الى منطقة اليزيديين في شمال سوريا(= جبل سمعان – عفرين وأطرافها) لعمل اطروحة عنهم، ومن ثم نشر كتاباً حول قواعد اللغة الكردية، وعمل بالاشتراك مع كاميران بدرخان في إصدار قاموس كردي – فرنسي ، بعدها عمل في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1944م، ثم صار استاذاً في المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية في باريس بين عامي 1945-1946م، وعندما أنهى عمله الدبلوماسي بتعيينه بصفته وزيراً مفوضاً فوق العادة في كل من الاردن وتايوان، منح الدكتور كاميران بدرخان منصب مدرس في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في جامعة السوربون .
بعدها اختص بدرخان بتدريس اللغة الكردية، ثم أصبح رئيساً للقسم، بعدها تمكن من تأسيس مركز للدراسات الكردية بدعم من الاستخبارات الفرنسية والوكالة اليهودية على حد تعبير الباحث والصحفي الاسرائيلي (شلومو نكديمون) في كتابه ( الموساد في العراق تحطيم الآمال الاسرائيلية والكردية)، وفي إثناء إقامته في فرنسا عمل بصفة رسول للقضية الكردية ونظم كثيراً من الندوات حول هذه القضية، ثم تزوج عام 1954م من السيدة (ناتاليا دوستوفسكي) البولونية الأصل ولم يرزق من زوجته أولاداً حسب طلبه، وفي عام 1948م توجه الى أمريكا بصحبة شخصيات كردية أخرى وقدم مذكرة باسم الشعب الكردي للسكرتير العام للأمم المتحدة بشأن القضية الكردية .
أثناء حقبة الاحتلال الفرنسي لأراضي سوريا ولبنان كان كاميران بدرخان يتواجد في لبنان ويتردد على دمشق، أي بعبارة اخرى كان يعيش بين بيروت ودمشق اعتباراً من عام1927م، خلال هذه الفترة أستطاع ان يقيم علاقات متينة وقوية مع فرنسا . ومن خلال هذه العلاقة أستطاع ان يخاطب الحكومة الفرنسية عن طريق المندوب السامي الفرنسي في سورية، فكتب مذكرة في 9 آذار/مارس عام1940 حول القضية الكردية والأحوال التي يعيشها الشعب الكردي وقدمها للمندوب السامي الفرنسي في سورية لكي يرفعها هو بدوره إلى حكومته (الفرنسية) وقد تضمنت هذه المذكرة النقاط التالية:
1ـ الدعاية الروسية في كردستان، وطلب الوقوف ضدها.
2ـ القضية الكردية في كردستان الجنوبية والشمالية وفي الشرق الاوسط برمتها وسياسة الحكومات العراقية والتركية والإيرانية الاإنسانية اتجاه الشعب الكردي.
بخصوص النقطة الاولى( الدعاية الروسية في كردستان) حللها كاميران بدرخان كالآتي:
أن الدعاية الروسية بين الأكراد يتم عن الطريق الصحف والاذاعة ومندوبين الروس في المنطقة،وان ترويج هذه الدعاية بين اوساط الكرد يتم بإشراف ودعم السلطات البلشفية الروسية. من خلال تطرقهم إلى انقاذ وخلاص الشعب الكردي من الحكم الاجنبي المسيطر على رقابهم ويقدمون امثلة ما حققه الثورة البلشفية لـ(مائة) الف كردي الذين يعيشون في روسيا من خلال تحقيق مطاليبهم وإعطائهم حقوقهم المشروعة وأقناعهم بأن الاتحاد السوفيتي يتعاون معهم ويدعمهم من اجل تأسيس دولة كردستان المستقلة مثل بقية جمهوريات الاشتراكية المستقلة الخاضعة للاتحاد السوفيتي.
فإن تأثير الدعاية الروسية على قضية الشعب الكردي من وجهة نظر كاميران بدرخان، لها كذلك تأثير كبير على الكرد ويطالب بالوقوف ضدها، لانه يعتقد بإن هناك قسمين من الكرد:
القسم الأول: كرد كردستان الشمالية (تركيا) فإن الدعاية الروسية موجه لهم وهم واقعون تحت إشراف وتوجهات البلشفية الشيوعية.
القسم الثاني فإنهم الثوار الذين يعيشون في القسم الثاني من كردستان الجنوبية (= سوريا)، إنهم مرتبطين بفرنسا، وإن كرد هذا القسم هم قوميون من وجهة نظر الاجانب. وأنهم محررون ومستقلون. ومن خلال تحليله للدعاية البلشفية يصل إلى نتيجة بأنها كانت مؤثرة في الاوساط الكردية، في الوقت الذي يجب أن يقال إن لحد ذلك الحين لم تكن لفرنسا أي مكانة بين الكرد ولم تكن لها أي تأثير يذكر، كذلك أكد الامير بدرخان على ان الاكراد الذين كانوا خاضعين للسيطرة والنفوذ الفرنسي كانوا قوميين ولم يتأثروا بالدعاية التي كان تروج لها الدول الاجنبية (لاسيما روسيا) في اوساط الشعب الكردي.
ويذكر أحد الباحثين، أنه من المحتمل كان لـ(كاميران بدرخان) غاية أو مصلحة خاصة من هذا التوجه وتحليل احداث السياسية بهذه الصورة، وهو يريد أن يقول يجب على فرنسا أن تقوم بدور أكبر واكثر فعال ومؤثر، وتقوم بتقديم يد المساعدة والعون للشعب الكردي لتأسيس الدولة الكردية، ومن اجل الوقوف بوجه الدعاية الروسية في كردستان، فقد أقترح كاميران بدرخان بعض الوسائل المساعدة للحكومة الفرنسية الواجبة القيام بها لمواجة هذه الدعاية ومن هذه الوسائل هي:
1ـ إصدار صحيفة باللغة الكردية.
2ـ انتاج وبث بعض البرامج الاذاعية باللغة الكردية.
3ـ فتح مدرسة للشباب الكرد، وان تدرس في هذه المدرسة المواضيع والنصائح والارشادات والمواضيع الفلسفية والثقافية باللغة الكردية. ينظر: شعبان مزيري، دور كاميران بدرخان في تحليل القضية الكوردية، صحيفة التآخي، العدد 9193 في 14/5/2020م، الجزء الاول.
ومن جانب آخر يشيد الدكتورعصمت شريف وانلي بجهود الامير بدرخان في تعزيز الثقافة الكردية في فرنسا بالقول:” … وتعتمد الجامعات دراسات متخصصة في اللغة الكُردية في باريس، وحيث نرى الامير بدرخان يقدم مرحلة دراسية في اللغة في المعهد الوطني للغات الشرقية الحية…”. ينظر: كردستان العراقية هوية وطنية ( دراسة في ثورة 1961م)، ص41.