ففي عام 1959م التقت جويس بلو بالأمير كاميران عالي بدرخان في باريس، الذي علّمها اللهجة الكرمانجية الشماليّة، ثمّ تعلّمت بنفسها اللهجة الكرمانجيّة الوسطى (= السّورانيّة) وكانت حينذاك طالبة في المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية، حيث كانت تحضر دبلوما في اللغة العربية، و كان الأمير بدرخان يدرّس في المدرسة ذاتها، وكان حينها يبحث عن العون لإطلاع الشعب الفرنسي على وضع الكرد بصورة خاصة في العراق، وقبل ذلك بعام واحد أي في عام 1958م أطاح الانقلاب الذي قاده ( الضباط الأحرار) بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم بالمَلَكية في العراق, فتحسّن وضع الكرد من جهة الاعتراف بهويتهم القومية، و قد كان ذلك أمرا جديدا في تاريخ الكرد، واستمرت جويس في عملها حتى تقاعدها سنة 2000م، وقد عملت قاموس ثلاثي اللغة (كردي- فرنسي- إنكَليزي) عام 1965م بمساعدة الامير كاميران بدرخان، وأعادت دار(سوسيال يلانيري) نشره كقاموس رباعي اللغة؛ بإضافة (التركيّة) إليه، في أوائل سنة 1990م
وفي الواقع، تعترف جويس بلو:” بأنها لم تكن لديها أي معلومات عن الكرد، ولم تكن تعترف بوجودهم؛ الى أن التقت بالأمير كامران بدرخان عام1959م، وإثر لقائها بالامير بدرخان قامت بدراسة الماجستير في اللغة الكردية والتراث الكردي، ومن ثم نشرت رسالتها للماجستير كأول رسالة علمية نوقشت في فرنسا حول هذا الشعب في عام 1963م بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماعلى ظهور أول بحث علمي حول الكرد في عام 1930م من جامعة السوربون في باريس. ونعترف جويس بلو أن بحثها هذا كان أول بحث علمي اكاديمي رغم إعتباره بدائيا في الوقت الحاضرالا أنه كان في وقتها ثورة في عالم البحث العلمي عن الكرد.
و بعد حصولها على شهادة الماجستير، بدأت بدراسة الدكتوراه في مجال اللهجات والأنثروبولوجيا الكردية، على إثرها تعددت زياراتها الى كردستان العراق؛على الرغم من الحرب القائمة بين الحكومة العراقية والحركة الكردية في عقد الستينيات من القرن العشرين، وتحديداً عام 1967م، الا أنها كنت مصممة على التعلم أكثر فأكثر عن الكرد والبحث عن وثائق تفيدها في دراسة الدكتوراه، لذا زارت مدن: بغداد والموصل ومنها عرجت على كردستان العراق حيث زارت مدينة العمادية حيث سكنت مع عائلة كردية لم يكن فيها رجال أو شباب، الكل كانوا بيشمركه يحاربون في الجبال، ومن ثم ذهبت الى سنجار. وتعددت زياراتها الى كردستان حتى عقد السبعينيات من القرن الماضي أيضا، وما أن نالت شهادة الدكتوراه حتى بدأت بتدريس اللغة والتراث الكرديين في معهد اللغات الشرقية الحية في السوربون في باريس الى تقاعدها عام2000م.
وكانت للبروفيسورة جويس بلوعلاقة بالمعهد الكردي تعود الى بدايات تأسيسه عام 1983م حيث كانت تشارك في فعاليات الطلاب الكرد في باريس من خلال جمعيتهم التي تسمى (مالا كوردان) أي بيت الكرد التي كانوا يستخدمونها في نضالهم للدفاع عن القضية الكردية، ولكن ما أن تبوأ الحزب الإشتراكي الفرنسي مقاليد الحكم بقيادة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران(1981-1988م)، حتى قدم الباحث الكردي الدكتور كندال نزان (= من كرد تركيا ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية) طلباً الى الحزب الاشتراكي الفرنسي ذات النزعة اليسارية لمساعدت الطلبة الكرد في تأسيس المعهد الذي تم شراء بنايته من مساعدات الكرد في جميع انحاء اوربا وتبرعت أيضا جويس بجزء صغير من المال رغم أنها لم تملك الكثير، وتولت فيما مسؤولية أمانة الصندوق للمعهد الكردي.
وأنشأ المعهد الكُرديّ بباريس مِن قِبل مجموعة من المفكّرين والاكاديميين والفنّانين الكُرد، وشارك عددٌ كبيرٌ منهم في الحضور بحفلة الافتتاح؛ على الرغم من الشكاوى والاعتراضات وعدم الرضى الذي أبدته السلطات العراقية والايرانية والتركية؛ إلا أن الحكومة الفرنسية الاشتراكية تجاهلتها ومضت قدما في افتتاحه، وكانت السيدة دانيال ميتران زوجة الرئيس الفرنسي ميتران(1981-1988م) هي التي افتتحت المعهد رسمياً في 24 شباط من عام 1983م بحضورالعديد من الشخصيات الفرنسية والكردية بلغ قُرابة ستة آلاف شخصِ نتيجة رفع السّلطات الفرنسيّة تأشيرة الدّخول يوم الافتتاح. ومن أبرز الشخصيات الكردية المشهورة، مثل: جكرخوين Cegerxwîn، اورديخان جليل Ordîxan Celîl، حجي جندي Heciyê Cindî، هجار Hejar، كندال نزان Kendal Nezan، قناتى كُوردو Qenadê Kurdo، يلماز جُوني Yelmaz Gunî، زمزي بوجاك Remzî Bucak، اوصمان صبري Osman Sebrî، توفيق وهبي Tewfîq Wehbî، شريف فان لي Î. Şerîf Vanlî ، نوردين ظاظا Nûredîn Zaza ، افتتاحه كان صدمة كبيرة للحكومات المذكورة، وما زال المعهد مستمرا بعطائه وخدماته للطلاب الكرد منذ أكثر من أربعين عاماً، وهو أول معهد يتحول الى مؤسسة ذات فوائد عامة وهو ثاني مؤسسة أجنبية تحصل على هذا النوع من اللقب بعد معهد العالم العربي.
ومن جانب آخر فإن الامير بدرخان كان ينسق مع كل من إلياهوساسون ويهوشع فلمان(= موظفي الشعبة السياسية في وزارة الخارجية الاسرائيلية- بمثابة المخابرات قبل تأسيسها) عندما كان مستقراً في بيروت، وبعد هجرته الى باريس عام1947م تم ربطه بممثلية الموساد في باريس حيث ارتبط ب جدعون رفائيل (أحد مؤسسي وزارة الخارجية الاسرائيلي) في باريس اعتباراً من سنة 1954م. بعدها تم تسليم ملفه الى العقيد (يوفال نئمان) نائب رئيس شعبة الاستخبارات الاسرائيلية والمكلف بالتنسيق بين أذرعة الاستخبارات الاسرائيلية والفرنسية من سنة 1956م لغاية 1957م. ثم استلم الملف المقدم (يهودا بن ديفيد) نائب الملحق االعسكري في السفارة الاسرائيلية في باريس ومسؤول الاتصالات مع الجهات الاستخبارية المحلية والاجنبية ملف الاتصال مع الامير الكردي اعتباراً من سنة1975م، حيث اجتمع مع الاخير في شقته بباريس، حيث كانوا يسمونه في تلك المرحلة مسيو دي برنس (= السيد الامير). ويذكر ديفيد بن يهودا في مذكراته:”… قادني زميلي السابق في الوظيفة،(= الى منزل قديم وهناك شاهدت شخصاً واقفاً، بيد أنني لاحظت أن كل حركة من حركاته تشير الى النبل. ولاحظت أن الشيب قد غزا فوديه، وشاربه الدقيق، أما بنيته فقد بدت لي ثقيلة وطويلة الى حدٍ ما…”، وكانت المعلومات التي بحوزة بن ديفيد تؤكد أن مضيفه من سلالة عائلة أمراء كردية، وأنه نفسه يحمل لقب أمير، وأنه في العقد الخامس من عمره، يمثل الاكراد في أوروبا، ذلك الشعب الذي فرقت بلاده بين خمس دول هي: العراق، وتركيا، وايران، وسوريا، وأرمينيا السوفياتية. وأبناؤه يقاتلون من أجل نيل حريتهم واستقلالهم. لقد كان الناطق لابناء كردستان الذين رفعوا لواء التمرد”. ويستطرد بن ديفيد القول:” ولا شك أن كل اسرائيلي اجتمع مع الاميربدرخان حتى ذلك الحين سمع منه روايته ونظريته دفعة واحدة، وبعد أن تبادل مع بن ديفيد التحية… قال الامير: أتريد أن تعرف المسبب الذي حدا بي للاتصال بكم، أنتم الاسرائيليين، انا – نحن الاكراد – نشبهكم الى حدٍ ما، والشبه بيننا وبينكم، هو أننا ممزقون بين خمس دول، وان هذه الدول استخدمتنا، واستغلتنا لاغراضها الخاصة. ولاشك أن هذه الدول لم تكن تعتزم ولو مرة واحدة، بصدق لمنحنا الحكم الذاتي، عداك عن الاستقلال. لقد بقينا على أراضينا، بيد أننا طوردنا طيلة الوقت، وتوحدنا او تمزقنا وفقاً لمصالح تلك الدول”. ينظر، الموساد في العراق المرجع السابق، ص19-20.
وفي تعقيب بن ديفيد على كلام الامير:” بناءً على الخرائط (= خارطة كردستان)، هناك تواصل أقليمي بين أراضي الاكراد الموزعة في الدول الخمسة، وأنتم (= الاكراد) تعيشون في مناطق تتسم بوجود العديد من المحاور والطرق الاستراتيجية، وكذلك الكنوز الاستراتيجية، مثل النفط، ألم تستطيعوا التغلب بقوتكم على هذه الضغوط”. فرد الامير بالقول:” نعم، لكننا لا زلنا متخلفين بالنسبة للشعوب الاخرى، فيما يتعلق بالتبلور الوطني الحديث، لقد بقينا متمسكين في جميع الحالات والتقاليد القديمة المتوارثة، والاطر القبلية الضارة، والتي تعرقلنا وتوقع بنا الاضرار، كلما كان علينا أن نناضل ونقاتل”.
وذَكر المندوب الممثل الاسرائيلي من خلال لقائه بالامير الكردي، إن قيم الحق والعدل والانصاف لا تستطيع اقناع دول العالم بالنضال ضد الدول الخمسة التي تحتل أراضي الكرد بتقديم مبادرة لتصحيح الاوضاع ومنح الكرد الحكم الذاتي؛ لذا كان الامير الكردي صارماً في طرح فكرته التي تتلخص في القول :” الويل لنا من شرق أوسط متجانس(= دين واحد وقومية واحدة) يخضع لسيطرة حركة عربية، والتي سرعان ما تتحول الى فزاعة، إننا وأنتم الاسرائيليين سنصبح ضحية هذه الحركة(= في إشارة الى القومية العربية التي كان عبدالناصر يتبناها حينئذٍ )”. المرجع السابق، ص21.
وخَلص بن ديفيد في نهاية المقابلة، أن بدرخان كان يتنبأ بشرق أوسط ممزق الى وحدات طبيعية (= دينية وقومية ومذهبية)، تحظى فيه كل مجموعة أو طائفة عرقية بحق تقرير المصير، في إطار حدود معقولة، تمكنها من تجذير استقلالها الحضاري. وكان بدرخان يدرك أن هذا الحلم والنبؤة لن يتحققا بين عشيةٍ وضحاها، لذا اقترح أن تحظى الطوائف والمجموعات العرقية في مسار مرحلي، بالحكم الذاتي في إطار الدول التي تعيش فيها.
وعلى المدى البعيد ، كان الامير يؤمن بأن نهاية الحكم الذاتي ستنتهي، وسينشأ شرق أوسط جديد متعدد الدول(= عربية وفارسية وتركية وكردية واسرائيلية وغيرها) والتي ترتبط ببعضها البعض في صورة اتحادات كونفدرالية، وكل دولة ستبدي قدراً كبيراً من الاحترام للدول الاخرى.
وكان بدرخان يعد اسرائيل بمثابة شؤيك طبيعي في الاتحاد الكونفدرالي المزمع عقده في الشرق الاوسط الجديد؛ لأنها دولة غير عربية، وصغيرة، وتتمتع بقوة عسكرية هائلة، التي تثير مخاوف العراق وسوريا، وتسهم في تعزيز قوة الكرد، لأن وجود اسرائيل هو السبب الرئيسي الذي يحول دون قيام العراق باستخدام كل قوته العسكرية لتدمير الكرد.
ويعتقد الباحث أن الكثير من نبؤات وتوقعات الامير الكردي قد تحققت في عالم الواقع في الشرق الاوسط الجديد، قبل أن تفكر الولايات المتحدة الاميركية في ذلك بعدة عقود.