19 ديسمبر، 2024 12:54 ص

الأطباء العراقيون … ثروة الشعب الثمينة … أما من نهاية لمعاناتهم … ؟  – 2

الأطباء العراقيون … ثروة الشعب الثمينة … أما من نهاية لمعاناتهم … ؟  – 2

 الواقع الصحي و الطبي في العراق أصابه الكثير من الإرباك والخلل في السنوات الأخيرة , لإسباب كثيرة منها ما يتعلق بالبعض من الأطباء الذين طبع الجشع سلوكهم  , و منها ما يتعلق بالرؤوس الكبيرة الفاسدة في وزارة الصحة , و منها ما يتعلق بجمهور من المجتمع خلط الأخضر باليابس في نظرته إلى الطبيب , لا خلاف على أن الأطباء , أولا و أخيرا , بشر , فيهم الصالح وفيهم الطالح , لكن , و لكي تكون الصورة واضحة أمامنا , كم هي نسبة الصالحين إلى الطالحين  , هذا  السؤال  يجيب عليه عشرات ألآلاف من المرضى الذين يراجعون مستشفياتنا و مراكزنا الصحية في كافة أنحاء العراق … و لا ضير من تسليط الضوء على بعض صور واقعنا الطبي بسلبياته و إيجابياته :
     الصورة الأولى :  لنتذكر دائما أن لكل سلوك  بشري أسبابه , و لنتناول مسألة عمل الطبيب في المستشفى و في العيادة  الخاصة ,  تعامل الطبيب مع المريض في المستشفى يختلف عن ذاك التعامل في العيادة الخاصة … لماذا ؟ … و ما السبب ؟ السبب الرئيسي أن في المستشفى الطبيب يفحص عدد كبير من المرضى خلال الدوام الرسمي , و جميعنا نعرف شدة الزحام والتدافع  على أبواب غرف الأطباء في مستشفياتنا , و هذا ينعكس بدوره على نوعية التعامل و الفحص المقدم من قبل الطبيب , خاصة أن أكثر المرضى يمطر الطبيب بوابل من الأسئلة عن مرضه ( و هذا من حق المريض طبعا ) , لكن من أين يأتي الطبيب بالوقت الكافي كي يجيب على كل أسئلة المريض و هناك العشرات من المرضى الآخرين يتدافعون و ينتظرون دورهم خلف الباب ( وهذا يعيدنا ثانية إلى موضوع هجرة الأطباء الذي تسبب بنقص كبير في عددهم أدى بدوره  إلى تفاقم ظاهرة الازدحام في المستشفيات) , أما في العيادة الخاصة فالوضع مختلف تماما لان عدد المراجعين قليل قياسا بالعدد في المستشفيات , وان هناك مكان للجلوس في غرفة الانتظار , وان المريض يتلقى إجابات كافية وافية على أسئلته
, الخطأ الذي يقع فيه اغلبنا هو الاعتقاد بأن الطبيب يفحص المريض بشكل جيد في العيادة الخاصة لإنه يحصل على مبلغ من المال لقاء ذلك ( هذا الواقع في جزء منه صحيح ) لكن لماذا ننسى الواقع الآخر وهو شدة الزحام التي تعرقل الفحص الجيد للمريض  في المستشفى , لو كان عدد المراجعين في المستشفى معقولا لما تأخر الطبيب في تقديم الفحص الجيد للمريض  ( مع ملاحظة أن هناك بعض الاستثناءات قد لا تستحق الذكر ) فهذا هو عمله و هو ليس مجانا , بل هو يتقاضى عنه مرتبا شهريا لا بأس به , أما  في عيادته الخاصة فالوضع مختلف حيث لديه الوقت الكافي لفحص المريض بشكل مريح , و لا ننسى أن الطبيب يعمل في عيادته مساءً لإن  من حقه أن يزيد من دخله , حاله حال أي مواطن آخر لديه إمكانية  لزيادة دخله و تحسين معيشته , و ما يأتيه من مورد من العيادة فهو على حساب وقته و راحته , و ممكن ملاحظة أن الكثير من الأطباء الذين عليهم إقبال كبير في عياداتهم , ألزموا أنفسهم باستقبال عدد محدد من المرضى يوميا كي يكون فحص المرضى دقيقاً و نوعياً لا عاماً و كمياً … وهذه ظاهرة إيجابية .
    الصورة الثانية : اجور الأطباء في العيادات الخاصة و المستشفيات الخاصة  موضوع ذو شجون , ما يسمى عندنا ب ( الكشفية ) تختلف بين طبيب و آخر , البعض يتقاضى إجرة معقولة و البعض الآخر يتقاضى إجرة ما أنزل الله بها من سلطان , و هذا الحال ينطبق أيضا على المستشفيات الخاصة , و لا من حسيب و لا من رقيب , و هذه الفوضى في إجور الفحص تتحمل وزرها  نقابة الاطباء  ( التي لا شغل لها سوى جباية رسم الاشتراك السنوي من الأطباء  ) , و المواطن مطحون بين إجرة الطبيب و إجرة المختبر وإجرة السونار  و فوق كل ذلك إجرة الدواء من الصيدلية , لذلك نجد أن الفقراء لا يستطيعون الذهاب إلى العيادات الخاصة , و ليس أمامهم  الا المستشفى و هذا أيضاَ سبب رئيسي للازدحام في المستشفيات . يلاحظ ان البعض القليل من الأطباء ( و لا بد من التركيز على كلمة  ”  البعض  القليل ”  )  يوصي المريض بالذهاب إلى صيدلية معينة أو طبيب سونار معين أو مختبر معين , و هنا حقيقةَ لا توجد مشكلة كما يتصور البعض  فالمريض سيدفع نفس مبلغ الدواء سواء اشتراه من هذه الصيدلية أو تلك في حالة حاجته الى هذا الدواء ,  و كذا الحال مع المختبر , وربما يكون طبيب السونار الموصى به صاحب خبرة أكثر من غيره , و الكثير من الأمراض لا يمكن معرفة أسبابها بشكل دقيق الا بعد التحاليل المختبرية  و فحص السونار , مع ذلك , لا بد من تدخل وزارة الصحة أو نقابة  الأطباء لوضع حد للفوضى في أسعار الخدمات الطبية في كافة أشكالها و فروعها و أنواعها  كي لا يحرم الفقير و المواطن البسيط من هذه الخدمات , و رحم الله أيام زمان حين كان قسم من الأطباء يخصصون يوما في الاسبوع لمعالجة المرضى الفقراء مجاناَ .
    الصورة الثالثة : بعد العام 2003 طفت ظاهرة عجيبة غريبة في مجتمعنا تتمثل في محاسبة الطبيب عشائريا عند وفاة المريض في المستشفى … دون  التحري و الرجوع  إلى معرفة سبب الوفاة , هل هو تقصير و إهمال من قبل الطبيب أم لإن مشيئة الله فوق كل مشيئة  , ما دخل العشائر في عمل الطبيب … ؟  مع وافر الاحترام لكافة العشائر , من  لديه شك أن سبب الوفاة تقصير من قبل الطبيب عليه تقديم شكوى إلى وزارة الصحة , وهذه بدورها لديها لجان  خاصة من أطباء مرموقين تحقق في حالات من هذا النوع , و من يثبت تقصيره يعاقب من قبل الوزارة  و حسب تقصيره , و أزاء انتشار ظاهرة التدخل العشائري و طلب الفصل من الطبيب , توقف الكثير من الأطباء عن إجراء العمليات الصعبة و المعقدة و التي بدونها قد لا يعيش المريض طويلا , خوفا من الوقوع في مطب الفصل العشائري , و في ذلك خسارة مزدوجة للمريض و للطبيب أيضاَ , للمريض لإن نسبة نجاح العملية المزمع إجرائها قد تتراوح بين 80 إلى 90 بالمئة , وهي نسبة تستحق المجازفة بدلا من ترك المريض يواجه الموت المحتم بعد أيام أو أسابيع معدودة , و خسارة للطبيب لفقدانه فرصة زيادة خبرته في إجراء عمليات صعبة تنعكس ايجابيا على عمله و على مرضاه عند القيام بعمليات مماثلة مستقبلا .
    الصورة الرابعة : لا شك أن الجميع يعرف أن هناك سباق محموم بين شبابنا و شاباتنا أيضاَ من أجل الحصول على مقعد في إحدى كليات الطب المنتشرة في العراق , و هذه صورة جميلة و مفرحة , و مفخرة لشبابنا و لشاباتنا , و رغم أن الدراسة طويلة و صعبة والعمل بعد التخرج كطبيب يعني تحمل مسؤولية علاج و شفاء المرضى و هي مسؤولية ليست هينة , إلا أن الإقبال على كليات الطب لا يزال شديداَ , و يزداد سنة بعد اخرى , بدليل أن الطلبة الذين يحصلون على اعلى المعدلات هم  فقط الذين يقبلون في كلية الطب , في مفارقة جميلة حيث أطول و أصعب دراسة يكافح الطلبة من أجل الحصول عليها , و يمكن القول أن الكثيرين من طلبة الصيدلة و طب الأسنان كانت رغبتهم و اختيارهم الأول هو كلية الطب لكن المعدل لم يسعفهم , و بفارق قد يكون جزء من الدرجة , هذا الاقبال الشديد على كليات الطب يعكس الرغبة البشرية في الحصول على حب الناس من خلال تخليصهم من العلل و الامراض و زرع البسمة , اذا جاز التعبير , على وجوههم و وجوه ذويهم , زائدا طموح الانسان الطبيب بتبؤ مكانة اجتماعية مرموقة متاحة لكل من يتنافس عليها , فالميدان مفتوح للجميع و من جد وجد , خاصة اذا علمنا ان طريق الطب لا تحف به الورود من الجانبين , بل هو طريق فيه ما فيه من مشقة و مسؤولية لا يقدر عليها الا من احب مهنة الطب بصدق .
          
    و عودة إلى موضوع معاناة الأطباء , نشاهد على التلفاز , و بين فترات متقاربة , إعتصامات و إحتجاجات تقوم بها الكوادر الصحية أمام مقرات عملهم , و أحيانا  يصل الأمر إلى التوقف عن العمل لمدة ساعة أو ساعتين , احتجاجا على مقتل احد الأطباء أو التعرض للإساءة و التهجم من قبل شخص جاهل و متخلف ربما لا يعرف حتى كتابة اسمه , و هذه ظاهرة مؤسفة لا بد من تثقيف الناس  اعلاميا و اجتماعيا بخطورتها لإن نتائجها سلبية علينا جميعا , ثم  علينا عدم نسيان ما يتعرض له الاطباء , وبشكل خاص أطباء و طبيبات ردهة الطوارىء , من ضغط اضافي في عملهم بسبب التفجيرات الارهابية المستمرة التي تتطلب استعداد دائم لاستقبال و معالجة المصابين , سواء كانوا عسكريين أو مدنيين , حيث عليهم مواجهة و استيعاب الحالة النفسية الصعبة للمصابين و مرافقيهم . و مرة اخرى  الطبيب ليس كأي موظف في الدولة جالس على كرسيه المريح , يستلم منك المعاملة و يقول لك تعال غدا أو بعد اسبوع او بعد شهر ثم يمد يده لكأس الشاي الساخن … , ( مع التقدير لكل الموظفين المخلصين ) , يوميا تجري في مستشفياتنا مئات العمليات ( كبرى و متوسطة و صغرى ) تستغرق بعضها عدة ساعات متواصلة لا يتقاضى عنها الطبيب شيئا غير راتبه الشهري , و هذه المقالة , و التي سبقتها , هي دعوة لنا جميعا كي نحافظ على اطبائنا بيننا و بين ظهرانينا , لإن تهجيرهم خارج الوطن عن طريق إرهابهم إنما هو مخطط خبيث الغرض الرئيسي منه الحاق الضرر بالشعب من خلال حرمانه من أطبائه . 
       و أخيرا لننظر بإنصاف و تقدير لما يقوم به الطبيب من عمل إنساني , و بعض النقاط السوداء هنا أو هناك لا يمكنها ان تغطي البياض الناصع لصفحة و تاريخ أطبائنا , و شفى الله جميع مرضانا إنه السميع المجيب  .