23 ديسمبر، 2024 6:45 ص

(الأصولية ) الماركسية – (طهر) النظرية وإخفاق الإنبعاث – 3

(الأصولية ) الماركسية – (طهر) النظرية وإخفاق الإنبعاث – 3

منذ أن تهاوت قلاع الماركسية بنسختها اللينينة، لم تنقطع محاولات الإجابة عن سؤال: لماذا ثار ت الطبقة العاملة ضد أحزابها؟ هل إكتشفت مقدارخديعتها بتلك الأحزاب؟ أم ان الماركسية كانت نظرية في التجريد يمكن ان تسهم في نشوء الدكتاتوريات عند التطبيق كما حدث فعلاً؟ وأخيراً : هل حطّمت الأحزاب الشيوعية مراياها بعد أن اصطدمت بواقعها؟
في الأسطورة، إن لبعض المرايا قدرة سحرية على جعل الإنسان ينظر من خلالها الى ذاته (الجوانية) بكلّ ماتحمله من تناقضات، وفي الغالب الأعم، نصاب بصدمة حين نرى ذواتنا على حقيقتها، إذ يفترسها قبح فظيع لانستطيع تحمل رؤيته هكذا عارياً، لذا نلجأ الى تحطيم المرايا التي عكستها في لحظة انفعال درامية، رغم ان المرايا ليست مسؤولة عن الحقيقية، لكن مواجهة ( مشهد) على هذه الشاكلة، يستلزم جرأة أخلاقية عالية مجبولة بصدقية حاول بعض الماركسيين اكتسابها، لعلّ في الأزمنة ما يمكن تداركه، لاستعادة دور (كان) لهم.
لكن على الفعل (كان) الماركسي، ألايأتي باعتباره فعلاً ماضياً ناقصاً كما في مدلوله اللغوي، بل امتداداً في الزمن بإبعاده الثلاث : يستحضرالماضي لا بصفته خاطئاً ينبغي رجمه من قبل حاضر ليس بلا خطيئة،بل يجتمعان معاً من أجل رسم مستقبل لم تتضح ملامحه بعد، انها التجربة بكلّ ذنوبها وخطاياها وإشراقاتها وإخفاقاتها، إلا أنها مرفقة بما راكمه زمن بل أزمنة، عجاف وشبعى، مغبرّة ونضرة في الوقت عينه، تلك هي المفارقة التي تستبطن صعوبتها.
 قد تكون المتحصلات (النضالية) للماركسية يابسة في النتائج السياسية، لكن المساهمات (الفكرية) مازالت قادرة على العطاء، لذا تستقيم معادلة تجعل الماركسيين لايقدمون على تحطيم المرايا كما في العنوان، إنما يأتونها وهي محطمة أو متصدعة أصلاً، لذا يحاولون ترميمها، و من ثم يحدقّون فيها بإمعان قبل ان يساءلونها ويتقبلّون مساءلتها معترفين إن ماتعكسه لم يكن مخادعاً أو ملتبساً بكليتّه كما يمكن للمرايا الخادعة أن تفعل، وإلا لما أقدموا على فعل الترميم .
السؤال يسبق الإجابة دوماً، تلك هي أولى المشكلات، لكنه زمن (تتقدم فيه الأسئلة وتنهزم الإجابات) كما يقول أدونيس، لذا ينبغي للإجابة أن تسبق السؤال، تلك هي طبيعة الأشياء حينما تأخذ الأزمنة أحقيّتها في النمو، وعلى السؤال أن يتشكّل لاحقاً ليكمل المعنى في لبّ الإجابة، ذلك لأن في حضور الإجابة ما يجعل السؤال يقف متأهباً باتساع بعده المعرفي، أما حين تغيب الإجابات، فإن الأسئلة تدور شاحبة في خواء العدم، إنها الأزمنة التي استدعت صرخة أدونيس الإحتجاجية، واستهلال الماركسيين في مساءلة مراياهم .
نقد النظرية بأدواتها، الشيء من جنسه، إذاً كيف يحترق المخلوق من نار؟ وكيف يغرق المصنوع من ماء؟ .
ذلك ما يعيدنا إلى لعبة (الجُلل*) كنا نلعبها في يفاعتنا، حيث(النقدة) تعني توجيه ضربة متقنة التسديد بواسطة أداة من اللعبة ذاتها، نحو أداة الخصم لدفعها عن الخطّ (الورطة *1) الذي وضعتْ فيه، وليسهل من ثم ضربها لاحقاً بنقدة أخرى تهيئة لإخراجها من اللعبة .
هنا تبدأ (جلّة) السؤال بالتدحرج نحو الخطّ الموصل بين ذاكرة الماركسي المشحونة بأسماء فلاسفة وعلماء وثوار ومنظرين ومفكرين، بما كتبوا ووضعوا ونادوا به، وبين حاضر لم يبق فيه للماركسية من حضور بين اللاعبين سوى ماتختزنه تلك الذاكرة، لذا فهي تجهد لإستخراج مايمكن الإتّكاء عليه كي يصار من ثم الى ضخّ أمصال في عروق نظرية باتت عصيّة على وصف محدد، أو إعادتها إلى ال(ورطة) من جديد،خاصة بعد ان حملت الماركسية منذ بدايتها، ذلك الكمّ من (المتمركسين والتحريفيين والإنتهازيين والدوغمائيين والسطحيين والسفسطائيين )على حدّ وصف عبد الحسين شعبان ،بحيث لم يعد من متّسع لمعرفة من يحمل (طهر) الماركسية على وجه التحديد؟ ومن هو الجدير بالحفاظ على عذريتها ؟.
(إن القراءة المتأنية للماركسية غير الرائجة أو الصنمية التي تم تحويلها الى محفوظات مدرسية وتعاليم محنطة، ستكشف مدى التباعد والتعارض بين المتمركسين ولافرق بين أصحاب اللغة الخشبية وبين الإنزياحيين المعولمين- (1) .
ذلك هو الوصف الذي يسبغه مفكّرماركسي عراقي، على نظرية تم تقسيمها وفق معايير جاءت من داخلها، فإذا هي رائجة أو كاسدة، صنمية أوحيوية، تدسّ في محفوظات مدرسية حيناً، وتبدع في (قصائد) فكرية تجديدية حيناً آخر، تلك أحكام تحمل في بعض جوانبها إستعداداً مسبقا ًللوثوب المتداخل مع تحفّز وشكاية غاضبة .
قد لايبتعد الأمر كثيراً في ثورة الإصلاح الفكري عند بعض(كهنة) الماركسية وحاملي مباخرها، عن مثيلاتها في محاولات إصلاح الفكر الديني وحاملي ألويته، إذ اتكأ الطرفان على مقولة معلقّة على مشجب طوباوي : ان النظرية صالحة بذاتها، لكنها لم تطبّق كما ينبغي، فّاذا كانت الماركسية تعنى بخير الإنسان في جانبه المادّي، فإن الدين معني ب (إشباع حاجات الإنسان الروحية -2) لذا تتوحد المنطلقات في كلا المحاولتين لتلّتف حول نقطة أساس : العيب في التطبيق لافي النظرية .
لكن ذلك القول بات متأخراً منذ أن تقدم السؤال على إجابته (المنهزمة): كيف يمكن لنظرية صالحة، أن تجمع كلّ هذا القدر من التشوّه؟ – سواء في الدين الذي يرفع المفكرّ الماركسي بوجهه حرارة السؤال :(هل أن الدين يعني الخوف من العقاب لاسيما فكرة الموت؟ أم أن الدين يعتبر مصدر السعادة والطمأنينة وبالتالي حقلاً للحب والرحمة والتسامح ؟- 3) أم في الماركسية الذي ينعيها ضمناً في معرض الدفاع عن (طهرها ) المفقود (من هنا فإن إجتراح الماركسية كونها نظرية شمولية،ضيّع علينا التفكير بالحاجة الدائمة إلى إغناء تفصيلي وبحث إشكالي-4).
هناك قلق ينتاب بعض الماركسيين، ويطغى على مختلف إجاباتهم – خاصة حين تنغمس بالفعل الفلسفي – لذا يمدّون جسور التصالح مع موروث ديني ترّبوا عليه أطفالاً ويافعين، ونظرية إعتنقوها شباباً وكهولاً، لكنهم وقفوا حائرين بين الإثنين بعد زوال (الدهشة) الأولى ومن ثم تزحزح (الجلة) الماركسية عن خطوطها (المقدسة) بعد تعرضها لسيل من (النقدات) التي أفرزها الواقع وثبتتها الوقائع حيث تراجع الماركسيون عن دور كان لهم فيما مضى من أزمنة .
 إنها الأسئلة التي تحمل مقداراً من ذلك القلق، فلا الدين كان مصدر حبّ وتسامح حينما دخل في تكوينات الدولة، ولا الماركسية كانت مصدر رفاهية للإنسان وهي تقود الدولة، بل يمكن القول ان كلاهما لم ينصفا الإنسان في تجسيداتهما العملية، ذلك ما دوّنته فصول التاريخ بكلّ إشكالياته وتعرجاته، وهو ما يعيد دائرة السؤال إلى نسبتها الثابتة: ماهو الدين الصحيح إذاً؟ وماهي الماركسية المنشودة ؟ وهل من إمكان لاستخراج مساحة الإمتداد اللازمة أو الملائمة لروح العصر في كلّ منهما ؟ .
تجتمع الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية – المسيحية – الإسلام ) حول فكرة الخطيئة التي على الإنسان أن يسعى إلى طلب غفرانها، فقد عصى آدم أوامر الله ما أدى الى حرمانه من الجنة ونزوله الأرض حيث الألم والعذاب، ثم وقعت على الأرض الجريمة الأولى التي ارتكبها قابيل ـ المرفوضة قرابينه ـ بقتله هابيل ـ المقبولة قرابينه ـ حسب التوراة، وهكذا قتلت البراءة ومعها الرضا الإلهي عن البشر، وبقيت الجريمة ومعها الغضب الإلهي، لذا كان لابد من وسيلة لتجنب الغضب ونيل الرحمة .
طقوس العبادة التي تحولت من استرضاء فردي للقوة المتعالية الغاضبة على البشر تارة، والراضية عنهم تارة أخرى، إلى طقوس جماعية خصصت لها الهياكل والمعابد التي اكتسبت قدسية متزايدة وكرّس لخدمتها أناس سيكتسبون بدورهم مكانة خاصة وتأثيرات كبيرة في المجتمعات البشرية التي أوكلت أمر إدارتها وتنظيم شؤونها إلى من يملك القدرة والقوّة على فعل ذلك، ما أدى الى ظهور المؤسسة التي ستتحول فيما بعد إلى الإكتشاف الأكبر في حياة البشر، والمفارقة أن تكون ولادتها، متزامنة مع أول ولادة للإله (السياسي-6 ).
تلك المؤسسة بما مثّلته ومارسته، كانت الحّد الفاصل في السيرورة البشرية، بين ماسمي بعصور ماقبل التاريخ حيث الإنسان البدائي ساكن الكهوف وصائد الطرائد، وبين عصر الحضارة حيث مسار الحياة يتخذ منحى آخر ولتبرز من ثم أداة أخرى للسيطرة تكون هذه المرة أشد فتكاً وأكثر تنظيماً وقوة، إنها الدولة (7) .
لقد توزع الدين بين مفهومين : شأن فردي في جوانبه الروحية، وشأن عام في تجسيداته الأجتماعية المنعكسة على سلسلة من المقدسات التي لاتجوز مخالفتها وإلا فالنبذ والإقصاء أو التكفير والقتل، وعليه، ذهب تسامح الدين في تشدد (المتدينين) وضاع مافيه من عدل ورحمة، مع استبداد الدولة، وبالتالي انتكست محاولات العودة للبحث عن نقاء مفترض في جوهر الدين،كما باءت بالفشل محاولات استنهاض (النقاء) في جوهرالماركسية .
لكن مايمتلكه الدين تفتقده الماركسية، فالدين يقدم وعداً فردياً بجنة آخروية وإطمئنان دنيوي (إجتماعي) تجلبه الطاعة لله والإخلاص للدولة، فيما الماركسية تقدم وعداً (طبقياً) بعدالة أرضية تجلبها الطاعة للدولة والإخلاص للعقيدة (الحزب) لكن سيروة كلّ من الدين والماركسية، كشفت ان الدين أبقى على الإرضاء الروحي حيث (ينتمي الدين الى العالم الروحي للإنسان-8) وهذا الإرضاء إنما يتأتى من الوعد باليوم الآخر غير الدنيوي، فيما تصحرّ العالم الروحي للإنسان (الماركسي) من دون ان يحصل على التعويض الدنيوي بالعدل الموعود .
أما عن علاقة المؤسسة الدينية بالإنسان، فتأخذ شكلاً إحتوائياً خالصاً،انها ترفض حياديته في السلوك غير الطقوسي إذا أراد البقاء جزءاً منها،وتنبذه أذا حاول الخروج عنها، وفي حين قد يلعب تطور الوعي عند الإنسان،دوراً في بحثه عن خلاص آخر ربما يكون خارج الأنساق التقليدية للخلاص اليوتوبي، فإن المؤسسة الدينية تتمسك بتقديم ذلك النوع من الخلاص باعتباره الوحيد الممكن يقينياً، لذا تكون المحصّلة : وقوع الإنسان تحت إشكالية تتطلب منه حسماً، لكنه يتجنب ذلك في الغالب مفضّلاً البحث عن نوع من التوازن بينهما كي يبقى الإطمئنان الفردي قائماً .
ولايختلف الأمر كثيراً في الماركسية بطقوسها الحزبية حيث(واقع عمل الأحزاب الشيوعية العربية في العالم العربي غارق في التذبذب بين فهم آيديلوجي جاهز ورثته هذه الأحزاب ولم يعد مقبولاً، وبين مستجدات أو نزوعات إنسانوية ديمقراطية غير قادرة على مجاراتها وبالتالي فهي تراوح بين الجمود والإنحلال -9) ورغم ذلك الجمود والإنحلال، فهي تطلب من معتنقيها ( المخلصين ) الإلتزام بطهرها الماركسي الأول والتضحية في سبيله، وبالتالي عدم البحث عن خلاص خارج ماأكدته تلك النظرية، وإلا تحولوا إلى (متمركسين انتهازيين وتحريفيين وتوفيقيين ) – الخ .
لاشك أنها إشكاليات ليس من السهل وضع أسئلة تتبع إجاباتها، فما زال للأسئلة مكان الريادة وقصب السبق في أزمنة تحتفظ بالكثير من رماديتها، لكن بعض المفكرين الماركسيين من عراقيين وعرب، يواصلون القيام بمحاولاتهم لجعل الأسئلة تستقيم على سياقاتها بحيث توازي الأجوبة ولا تسبقها، علهمّ يأخذون بعض أمكنة في ظلّ تطورات متسارعة الخطى وثورات من نوع جديد باتت تواجههم بكلّ تحدّياتها ، على أن يولدوا بوجه لايشكل مدخلاً لقيام دكتاتوريات جديدة وإن انبثق من رحم الديمقراطية كما شهدت بعض تجارب التاريخ .
 (*) الجُلل : كرات زجاجية ملونة تسمى في العراق (الدعابل) .
(*1): الورطة أو الأُورطة –خطوط على شكل مثلث متساوي الأضلاع تُصفّ عليها الجُلل في اللعبة المذكورة .
 (1): عبد الحسين شعبان – تحطيم المرايا – في الماركسية والإختلاف – ص200)- الدار العربية للعلوم (ناشرون) – بيروت .
 (2- 3- 4 – 8- 9): المصدر السابق – الصفحات: -132- 133 – 174- 178 على التوالي).
5: علي السعدي – العراق والمصباح النووي – مأزق العلماني / إشكالية الديني – الفصل الرابع ص141)- دار العارف – بيروت .
(6) :الإشارة الى سرجون الأكدي مؤسس أول إمبراطورية في التاريخ، وموحد بلاد الرافدين تحت قيادته، تزامن ذلك مع أسطورة انتصارالإله البابلي (مردوخ) وتوحيده الآلهة الرافدينية القديمة تحت قيادته .
7: علي السعدي – (قلق التاريخ وعقدة القوة – الفصل الثالث – التسويات الكبرى في المقدسات الثلاث – الله – الدولة – الإنسان – ص140) دار العارف – بيروت .