يبدو ان اركان عملية المحتل السياسية كافة، تواجه في هذه الفترة مأزقا عصيبا بسبب الانتخابات، وما الجدل الدائر حول اجرائها، الا دليل على هذا المأزق. فبعد ان كانت الانتخابات الوسيلة الفعالة لإضفاء مسحة من الشرعية على استمرار وجود هؤلاء الاشرار في السلطة، أصبحت اليوم عبئا ثقيلا عليهم. فتسويقها بين الناس وإظهار محاسنها لتشجيعهم على الاشتراك فيها، لم يعد سهلا كما كان الامر يجري في السابق. فالسيد الأمريكي ضاق بهؤلاء الأشرار ذرعا، لعجزهم عن اخراج مسرحية الانتخابات بطريقة مقنعة، او على الأقل ضمان الاعتراف الدولي بصحة نتائجها. خاصة وان اتجاها قويا ظهر لدى عموم العراقيين مع مقاطعة الانتخابات لعدم جدواها. ناهيك عن فشلهم في اقناع ثوار تشرين بالاشتراك فيها، مقابل اسناد بعض الوزارات الخدمية لهم، وحصة في الدوائر الحكومية.
لكن هذا ليس كل شي، فهؤلاء الأشرار دخلوا في صراعات، تارة داخل الحزب الواحد، وتارة أخرى فيما بينهم، من اجل كسب مزيد من الغنائم، جراء شعورهم بان هذه الانتخابات، ربما ستكون الأخيرة بالنسبة لهم. فعلى سبيل المثال، فان حزب الدعوة فشل في اجراء مصالحة بين قطبي الحزب نوري المالكي وحيدر العبادي. حيث اختار الاول شعار الاغلبية السياسية لقائمته المسماة بدولة القانون، وهو يقصد بالطبع الاغلبية الشيعية. في حين لجا الثاني الى تشكيل تحالف جديد مع قادة من الحشد الشعبي سماه تحالف النصر والاصلاح، والذي ضم ايضا، كما قيل، اشخاص من السنة والكرد والتركمان.
اما الأحزاب الكردية فأنها لم تكن في منجاة عن هذا الصراع وخاصة بين الحزبين الكبيرين، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة المرحوم جلال الطالباني، من اجل الفوز بالمناصب السيادية. وعلى وجه الخصوص منصب رئاسة الجمهورية. وبلغ الصراع ذروته بتخل مسعود البرزاني شخصيا في شؤون الاتحاد الوطني لأحداث انشقاق داخل قيادته. ووصل الامر حدا الى دخول مسعود البرزاني شخصيا في احداث انشقاق داخل قيادته. وعلى وجه التحديد، بين أولاد جلال الطالباني، بافل وقباد، وبين ابن عمهم لاهور جنكي، الذي يكن العداء لمسعود وحزبه لأسباب جرى الحديث عنها علنا، وفي مقدمتها وقوف لاهور الى جانب حزب العمال الكردي في تركيا، والمعروف باسم البكه كه.
لكن الضربة الأكبر في هذا الصراع جاءت على يد مقتدى الصدر. حيث أعلن تمرده على ما يسمى بالبيت الشيعي. اذ لم يكتف بحصته المعتادة، وانما أراد الاستحواذ على حصص الاخرين. حيث أكد مرارا بانه سيفوز بالانتخابات بأغلبية تمكنه من تشكيل حكومة صدرية تحكم العراق. بل ذهب ابعد من ذلك واعتبر العراق كله صدريا. بل لم يكتف الصدر بما فعل، فقد أضاف مأزقا اخر حين أعلن انسحابه من الانتخابات بشكل مفاجئ، بعد ان تبين له، من خلال الإحصائيات التي توفرت لديه، بان تياره يشهد تراجعا كبيرا الى درجة لا تمكنه من الفوز المطلوب لتشكيل حكومة صدرية، او حتى الحصول على نفس عدد المقاعد التي فاز بها في الانتخابات السابقة تحت خيمة سائرون. ولا يخفف من هذه الضربة احتمال تراجع مقتدى عن قراره. لأن عودته لن تكون تحت خيمة البيت الشيعي. وانما تحت خيمة تحالفه الجديد الذي يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني وعددا من الأطراف التي تدعي، تمثيل السنة مثل خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي.
اما محاولات الخروج من هذه الازمة فقد فشلت هي الأخرى. فترهيب “الشيعة” من عودة داعش والبعثين واستلام السلطة، فقد فاعليته، او بمعنى اصح أصبح ورقة محروقة او أسطوانة مشروخة. حيث تبين لعموم العراقيين بان داعش كانت صناعة أمريكية إيرانية، وضعها المحتل بيد هؤلاء الأشرار لاستخدامها وقت الحاجة. وهذا ما يفسر استهزاء العراقيين كافة بالمعارك الوهمية التي تقوم بين قوات الجيش وعناصر داعش في هذه المنطقة او تلك. بل أصبح الناس يتندرون بهذه الكذبة كلما مر ذكرها. اما محاولات تزيين وجوه هؤلاء الاشرار القبيحة، للتبرئة من الجرائم التي ارتكبتها، واموال الحرام التي جنوها، والبلاد التي دمروها، عبر عمليات شراء الذمم وتوزيع الرشاوى على الصحفيين والاقلام المأجورة، فهذه بمجموعها قد فشلت فشلا ذريعا.
دعونا نغير الاتجاه قليلا، ونفترض اجراء الانتخابات في وقتها المحدد، وان مقتدى سيعود الى البيت الشيعي، طائعا لا مجبرا، وان الاكراد سيتوحدون من جديد ويدخلون الانتخابات بقائمة موحدة، فان ذلك لن يساعد هؤلاء الأشرار على الخروج من أزمتهم الخانقة. حيث مازالت المشكلة الأكبر قائمة. فعموم الشعب العراقي قد حسم امره برفض هذه الانتخابات، سواء جرت في موعدها المحدد، او تأجلت الى العام القادم. اما أبناء ثورة تشرين الذين استحقوا ان يكونوا الممثل الشرعي والوحيد للعراقيين المظلومين، فقد اتخذوا قرارهم، بمقاطعة الانتخابات لعدم استيفائها للشروط التي طالبوا بها ومنها، كتابة قانون جديد للانتخابات وليس اجراء تعديلات شكلية عليه وكتابة قانون للأحزاب، يكون في مقدمته منع جميع الأحزاب التي شاركت في العملية السياسية منذ الاحتلال ولحد يومنا الحاضر، ومفوضية مستقلة ونزيهة، وليست مفوضية مبنية على المحاصصة الطائفية، واشراف اممي نزيه وليس مبعوثة منحازة للمليشيات المسلحة، تلبس ملابسهم وترتزق منهم وتروج لهم. بل ذهب أبناء تشرين ابعد من ذلك ودعوا الجماهير لأسقاط العملية السياسية برمتها.
بالمقابل، فان العراقيين قد تولدت لديهم قناعة راسخة بان المحتل الامريكي ووصيفه الايراني، لا يسعيان الى إنجاح الانتخابات من اجل إقامة نظام ديمقراطي يوفر للعراق إمكانية اصلاح ما أفسدوه، وانما الاختفاء وراء هذه الانتخابات لتمرير مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. وهذا ما يفسر غض الطرف من قبل المحتل بوقف عمليات التخريب التي تقوم بها المليشيات المسلحة، حيث يعتبرها الضمانة الوحيدة لمواصلة سياسة الفوضى الخلاقة، التي اعتمدتها امريكا، كأساس لتنفيذ مخططها الغادر الذي لم يكتمل بعد.
باختصار شديد، فان الانتخابات القادمة، سواء حدثت في موعدها او تأجلت، وسواء تمسك الصدر بموقفه او عاد الى عش الزوجية، وسواء أنهى الأشرار صراعاتهم وتوحدوا كالبنيان المرصوص، لن تكون هذه الانتخابات سوى نسخة طبق الاصل من الانتخابات التي سبقت. وان المشاركة فيها اعتراف بمشروعية العملية السياسية، واعطاء الحق لذات الوجوه الكالحة التي ستفوز حتما، بمواصلة سرقاتهم من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه لعقود طويلة من الزمن من جهة اخرى.
الدخول في كل هذه التفاصيل ليس عبثا. فالعمل على افشال هذه الانتخابات عبر مقاطعتها، يعني هدم السياج الحديدي الذي يمترس به هؤلاء الأشرار، لحماية أنفسهم من قبضة الشعب وإنزال العقاب الشديد بهم، جراء الجرائم التي ارتكبوها والأموال التي نهبوها والبلاد التي باعوها للأجنبي بثمن بخس. اما بالنسبة للمحتل ففشل الانتخابات سيؤدي الى هدم اهم مرتكز من مرتكزات العملية السياسية التي تباهى بها، واعتبرها الاساس للنظام الديمقراطي في العراق.
ان الطريق لأنهاء الاحتلال والنتائج التدميرية التي ترتبت عليه لن يتم الا على يد ثورة تشرين العظيمة. الامر الذي يحتم علينا، الوقوف ضد هذه الانتخابات ودعوة الناس لمقاطعتها، وتشجيعهم بالمقابل على الاشتراك في ثورة تشرين، لتمكينها من تحقيق اهدافها كاملة غير منقوصة، وفي مقدمتها اسقاط العملية السياسية برمتها، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة، تأخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا. وبعكس ذلك، فان الاشتراك في الانتخابات او الرهان عليها، سيمنح الشرعية لهؤلاء الاشرار الذين قرروا فوزهم سلفا في الانتخابات، لما يمتلكونه من سلطة ومال وسلاح، اضافة الى دعم المرجعيات الدينية، وبالذات من المرجع الاعلى محمد علي السيستاني. ولتحقيق هذه الأهداف النبيلة، فان على جميع العراقيين والشخصيات الوطنية والمثقفين والشعراء المناهضين للاحتلال، الانحياز التام لثورة تشرين من جهة، والوقوف ضد هذه الانتخابات ورفض المشاركة فيها تحت اية ذريعة كانت، من جهة أخرى.