23 ديسمبر، 2024 8:59 ص

الأسى الشيوعي ( تمثال  لينين أنموذجاً )

الأسى الشيوعي ( تمثال  لينين أنموذجاً )

تقول البيروستروكيا أنها حداثة في كل شيء ، وأنها بناء الضرورة الحضارية ، أو أنها دعوة تصحيح وتشيد وأعادة بناء . هي كفعل ليست وليدة ذاكرة غورباتشوف . أنما الرجل طبقها بإتقان محكم بناء على تفكير مسبق لتهديم شيء وليس من أجل أعادة بناءه .

 الرجل نجح لظرف تأريخي لم يكن نتاج نبؤة فلسفة كما كان يحدث قبل ، بل هو استفاد من تراكمات أيديولوجية حسبت أخطاءً على صانعي القرار وحدث الذي حدث . غير أن المشهد مورسَ عليه قسوة مضافة في عهد يلستين وغاب عن وعي ذاكرة الحضارية جسامة ما يحدث على أساس أن ماكان موجوداً هو أحد جهود الفلسفة الحديثة في بحثها عن الحياة الجميلة بعيداً عن أي مثالية إغريقية أو فارابية . كان الأمر بالنسبة إلى كارل ماركس هو إضافة مشعلاً جديداً وسط ظلمة يعوم فيها العالم بفضل محاكم التفتيش وسعي فكتوريا المحموم إلى شراء عبيد جدد لمستعمراتها بأبخس الأثمان . وبالرغم من أن ماركس في واحدة من مفارقات القدر أن يكون موته في عاصمة الدولة الاستعمارية التي كان يمقت نظامها ويقول عنه : أنه الأفعى التي تأكل جهد الفقراء وثورتهم. ويقصد إنكلترا ، حاول أن يجد من خلال رؤى اجتماعية واقتصادية فلسفة تضع الإنسان في مواجهة حقيقة أن يكون أثمن رأس مال في المجتمع . وعندما لم يقدر أن يحقق ذلك في حياته ترك الأمر للأجيال القادمة . ولم تنتظر الأزمنة طويلاً إلى أن جاء البروليتاري المحنك الروسي فلاديمير ألتش أوليانوف لينين ليقود النظرية وفلسفتها التي لم تزل تمثل الأرض البكر إلى حقيقة أن تكون فلسفة لدولة عظيمة أسمها الاتحاد السوفيتي .

 ومنذ أكتوبر 1917 وحتى وفاته ظل لينين وفيا لتلك الرؤى التي حملها الأب الروحي للنظرية الشيوعية ومن خلالها استطاع أن يرتدي معطف النضال في صفوف الطبقة العاملة .

منذ وفاته وحتى تخلي غورباتشوف عن سلطاته كان المشهد الأممي يمثل  فاصلا من صناعة جديدة لبدن التأريخ ، ومثل كل عملية صنع هناك المطبات والأخطاء وهناك دكتاتوريات يكون فيها  الفهم المهيمن وأحياناً تكون القسوة . وبالرغم من أن ماركس كان في رؤاه يضع الاشتراطات الهادئة والمسالمة لكل معضلة إلا أن القرن العشرين الذي تنور بفلسفته كان قرناً متقلباً تعرض إلى أخطاء كونية عديدة ذات صبغة نازية أو إمبريالية فكان على أحفاد ماركس أن يكونوا في مواجهة الحدث وضد الذي يستلب أحلام الإنسان متخذين من مقولة لينين 🙁 ينبغي لنا أن نحلم ) أنموذجاً للوصول إلى الحلم الإنساني في معالجات تداخلت فيها السياسة والتبشير الأممي وصناعة الأحزاب أو إنشاء كتل إقليمية أو دولية كما في حلف وارشو على الصعيد العسكري وفي جامعة باتريس لولمبا على الصعيد الثقافي . وكانت كل هذه الخطوات صنيعة رغبة السوفيت بأن تكون لأحلامهم الأممية مكانة مهابة بين أمم الأرض .

 نجحوا في ذلك أم لم ينجحوا هذا أمر لسنا بصدده الآن ، فكل ما أدرج أعلاه ينصب في مقدمة مختصرة لوجود دولة بنت كيانها على الجمل الحكيمة والمؤثرة والعلمية التي أراد بها ماركس أن ينشئ عالماً تسوده العدالة والاشتراكية .

أحد الذين عاصروه وزاملوه يقول : أن ماركس كان يمقت كلمة جوع حد الذي رأى فيه ذات يوم رغيفاً محترقاً فبكى.

المكان الأول : الساحة الحمراء في موسكو . الزمان : السابع عشر من أكتوبر عام 2000 . الشاهد : مثقف عراقي يعيش في موسكو منذ عام 1970 . المشهد : شاحنة أورال حمولة 15طن تحمل آخر تمثال من البرونز لمؤسس الدولة السوفيتية وتبعث به إلى مصهر البرونز في العاصمة موسكو . رد فعل المثقف : دمعة ورغبة بمغادرة موسكو إلى أي بلد غربي . وكان يفضل هولندا .

المكان الثاني : وادي توتمان في منطقة بنجوين . بمحاذاة جبل هرزلة . الزمان : السابع عشر من أكتوبر 1983 . الشاهد : جندي عراقي . خريج معهد الفنون الجميلة فرع الرسم . المشهد : لحظة إخلاء أخو شاهد المكان الأول بعد أن سقط برصاصة قناص أتت من جهة جبل سورين الإيراني . رد فعل الجندي : دمعة ورغبة بانتهاء الحرب ومغادرة بنجوين . وكان يفضل السويد.

عندما فتشوا جيوب الجندي القتيل : وجدوا رسالة من أخيه المغترب . كل كلماتها مغطاة بدم الجرح العميق الذي أدى إلى الموت . فقط جملة واحدة أكتشف الجندي صدفة أن هذه الكلمات هي قصيدة لبوشكين ولكن بعد أن انتهت الحرب بعشرة أعوام . وجدها مقدمة لقصة ( أبنة الآمر) للشاعر الروسي بوشكين ، تقول القصيدة :

( مناي أيها الغريب .. لم تقدني إليك قدماي ولا حصاني الجميل . .

بل قادني أليك التوثب والصبا والسكر في الحانات . )

الحالة هي ما يعيشها صاحب المشهد الأول قبل سفره الصعب واستقراره اليوم في لاهاي . حيث كما يقول: النساء باردات مثل ثمرة الطماطم في شتاءات الناصرية .

كان يقول وقد كتب هذا في أخر رسائله ألي بعد أن علم أني أخليت أخيه من فوق الربيئة وداويت جرحه قبل موته : تصور ولا أدري لماذا أخبرك بمشهد كهذا . ربما لأني أخبرته في واحدة من الرسائل : أننا أخلينا أخيه بشاحنة الأورال التي زود الروس بها حكومة بغداد في حربها الدولية الأولى ،  قال : أن مشهد إخلاء أخي ذكرني بتمثال مؤسس الدولة التي عشت بها ردحاً من الزمن . وكانت الشاحنة التي حملت أوليانوف هي من نفس طراز الشاحنة التي قلت لي عنها أنها أخلت أخي منحدراً بموته الذي لم يكن يحبه ليذهب جثة هامدة إلى الجنوب .

سعيت مع هاذين المشهدين الى أحداث مناظرة مع رؤاي وأنا أريد أن أصل إلى فهم واضح لما حدث بعيداً عن تفاسير الواشنطن بوست وأندبيندت ، فهذه وجهات نظر محسوبة سلفا . فبين المشهدين اللذين تحققا بعربة واحدة تداخلات لتأريخ يرتبط بالشجن الذي تربى عليه الشرق بعد أن جزع من أمية ولاة عثمان . وأصاب صدره ربو المقاهي وهو يرى وزارات بلده تتبدل كل ساعة . لذلك وأنا أدرس ظاهرة المهجر وانهيار دولة السوفيت أقرأ المشهد من زاوية سومرية ، فأقول: أن الأمر لم يكن سوى سوء طالع . فالانهيارات في تأريخ الإمبراطوريات يأتي بفواصل معلومة لكن لاأحد ينتبه أليها والسبب كما أراه ثقة الملوك بالعسس المحيطين وأغلبهم تقودهم نساؤهم في الليل مثلما تقود أمي أغنامها في ريف السديناوية حيث كان يقع بستان جدي سهر والد أمي . وهذا كان منطبقاً على قيصر روما إذ ‘حذر أكثر من مرة ودولة أشور كذلك . العثمانيون كان تصل لهم رسائل بهذا المعنى من القنصل الألماني في الأستانة من أن الإنكليز أرسلوا لورنس ليفجر خطوط السكة الحديد في الحجاز . وأخيرا كان لعمدة موسكو أن ينتبه لصقر نيفادا الذي لم يكفيه أن أستأجر آلاسكا من القيصر ثم أمتلكها بعد ذلك إلى الأبد .

الدموع التي صنعت مجرى صغير على خدي وأنا أحمل نعش الذي أودعت فيه الحرب شقاوتها ، أتخيله مشهدا أوبرا ليا تقدمه فرقة البولشوي في مسرحها العتيد المهدد اليوم بالانهيار، لم يكن هناك من الجمهور سوى أثنين ، واحد يرتدي معطف غوغول وقد وضع تحت إبطه زجاجة فودكا يدخرها لسهرة التأمل في ذروة تصاعد الإيقاع لتلك النحيفة الساقين وهي تتوسل إلى راسبوتين عراب القيصر ليخلع عنها كل ما لبست ويريها فحولة الجن . الثاني هذا المنزعج من نقل النصب إلى المصهر ، وقد ارتدى معطف والده يوم كان حارساً ليلياً في قيصرية القماش براتب أسطوري هو تسعة دنانير في الشهر وكان ينتظر مشهداً غير هذا ، أن يفتح الراقصون بوابة أور ، ويبدءوا بإطلاق أناشيد الوجد ليرسموا لغفوته التي فاجأته في منتصف الحفل لوحات تعيد أليه كل ما تاه في الدروب البعيدة . كان مسرح البولشوي دائرياً في هذا العرض حمل المؤدون جسد بوشكين الذي خسر رهان المعركة مع دون جوان نزق .

أخوه ربما خسرها بمثل هذه الطريقة . سمع من الصحف الهولندية بعد موت أخيه بسبعة عشر عام أنهم يقيمون للنزق تمثالاً هائلاً في العاصمة . كانت عنوان الأوبرا ( البحث عن الفردوس ) .

 تذكر المفردة . كان التمثال منصوب في ساحة تحمل هذا الاسم . سار المشيعون مع نعش أخضر . سأله أحد اللذين يبيعون الفستق في المسرح ، وقتها كان الذي يرتدي معطف غوغول نائماً } :

ــ هل أخوك من السادة الأشراف ؟

ــ أجاب : نعم كان موسويا.

أستمر العرض ، ظل المسرح يدور في فراغ ذاته ، مثل سرية لاتعرف ماذا تفعل وقد واجهتها الحرب وهي في وضع الاستراحة . أصاب بطلة العرض الدوار . والحقيقة أنها ارتعبت من كثرت ما رمت المدافع، خافت أن تكون نعشاً في أورال . غادرت المسرح وارتمت قربه منهكة من سرعة الجري بعيداً عن القنص والصراخ . قالت له : هل لك أن تأويني الليلة لأكمل لك بقية المشهد ؟

ولأني فصلت له المشهد كاملا في رسالة . قال لها : كلا، أريد أن أكون مع نفسي ، فغدا تنتظرني الحافلة إلى لاهاي.

يرحل لينين عن الساحة . بغياب أسطوري ، كذلك يرحل شهداء الحروب القديمة . الفرق أن موت لينين في عشرينيات القرن الماضي كان تمجيداً لفكرة أن الرجل أرسى المستحيل في بلد كان القيصر فيه يكاد أن يكون ألهاً مثل إمبراطور اليابان لانتظر له عين بشر عادي . الكادحون هم الذين قادهم لينين ليصنع منهم أمة هزمت أشد قواد الأرض صرامة .نابليون بونابرت وأدلوف هتلر .

كان أندريه بريتون الشاعر السريالي يقول عن لينين 🙁 كم تمنيناه أن يكون معنا ) لكنه يبتسم لتلك الألغاز التي تحدث فيها الى مايكوفسكي مرة ، بالرغم من أنه لم يكن سريالياً ، قائلا له : أنا لا أفهمك ولكني أحبك .

وبالرغم من هذا أغمض غورباتشوف عينيه وقرر أن يفعل ما أراده . وربما أمتلك الرجل مبرراً ما . لكن أن تحمل جسد لينين إلى مصهر فهذا تحرش ببراءة التأريخ . أننا بذلك نحمل شاحنة الأورال التي حملت جسده النحيف الفخم عتباً لاينته . وبذات المقياس نحمل الأورال الأخرى التي حملت جسد ذلك الجنوبي الطيب . الذي تساءلت أمه بعتب مر : لو كان له أخ موجود سوف لن يسمح لهم بحمله بشاحنة . حقا أنه ( الأسى الشيوعي )

وهي تتحدث أليَّ بنحيب حورائي . تذكرت لوحاً وجده المنقب الأثري ليوناردو وولي بين أطلال أور يقول : الرائعون لا تنقلهم إلى السماء سوى عربات الورد .