تشكل رواية “إلى أن يُزهِر الصبّار” للأديبة الفلسطينية ريتا عودة عملاً أدبياً تتقاطع فيه البنى الأسطورية والدينية مع أسئلة الهوية والوجود والنجاة . تجمع الرواية بين الرمز والمجاز، بين اللغة الشاعرية والسرد التراجيدي، وتقدم إعادة كتابة جذرية للمروية التوراتية لقصة آدم وحواء من منظور فلسطيني، نسوي، ما بعد كولونيالي.
تعتمد الرواية الصادرة عام 2016 على تناوب سردي بين صوتيْن: آدم، الراوي الذكوري ذو النزعة التأملية والروحية، وحياة، الراوية الأنثوية التي تنتقل من الهامش إلى المركز. هذا التعدد الصوتي يتيح للرواية أن تعكس تعدد زوايا الرؤية حول الموضوعات الكبرى التي تطرحها: الحب، الوطن، المنفى، التكوين، والسقوط. تتخذ الرواية من تقنية “المونولوج الداخلي” وسيلة لتعميق الحالة النفسية للشخصيات، كما تستخدم أسلوب الاعتراف الذاتي في شكل كتابة خطابية يتماس مع السيرة الذاتية.
بُنيت الرواية على إعادة سرد لقصة السقوط التوراتية، حيث يمثل “القصر” جنة عدن، و”الدرج المحظور” هو الشجرة المحرمة، و”ابنة العم” (الأفعى) تمثل رمز الإغواء. غير أن السقوط هنا ليس سقوطاً أخلاقياً بقدر ما هو سقوط في المنفى الوجودي – السياسي – النفسي. فالخطيئة الحقيقية ليست عصيان وصية، بل تورط في الشك، انعدام الثقة، وفساد البنية المعرفية داخل علاقة الحب.
تقوم الرواية بتفكيك الخطاب التوراتي وإعادة تركيبه من منظور فلسطيني، حيث الأرض المصادرة، والمكان الممنوع، والهوية المشتتة، تعكس جميعها طرد الإنسان من فردوسه الوطني. إن رواية ريتا عودة تتجاوز التناص إلى ما يمكن تسميته بالمُضاد التناص، حيث تستعمل النص الأصلي لتقويض سلطته.
يحتشد النص بالرموز الغنية والمتعددة: الصبّار، النبات الفلسطيني بامتياز، الذي لا يزهر إلا نادراً، يمثل الانتظار الطويل لتحقيق الحلم الوطني. حواء ليست فقط أنثى محبوبة، بل رمز الوطن المسلوب، الجسد المُغوى، والحقيقة الغائبة. آدم هو الرجل الذي يحمل الجرح التاريخي، لكنه يظل باحثاً عن الخلاص عبر الحب، المقاومة، والمعرفة. الدرج هو سر محظور يمثل معرفة محرمة، لكنه يكشف، في النهاية، وصية الأب المحبة، لا الخيانة. القصر تمثيل للفردوس السياسي والاجتماعي المفقود، الوطن الذي طُردا منه بسبب الشك والفتنة.
تمثل الرواية نموذجاً غنياً لتحليل العلاقات النفسية بين الرجل والمرأة، وبين الذات والآخر. الغيرة المَرَضِيَة لحواء تمثل قلق الفقد، والخوف من الهزيمة، وهي تفتح المجال لظهور الأنا الأعلى المتمثل في الأب، الذي يمثل القانون الإلهي أو السلطة العليا. الانقسام الداخلي في آدم بين الحب القديم حواء والحب الجديد حياة يعكس ازدواجية اللاوعي بين الحنين والمضي قُدُماً. كما أن الطرد من القصر يمثل إسقاطاً نفسياً للذنب والقصاص.
تُعد الرواية بيانًا نسويًا بامتياز؛ فحواء تروى، تحب، تخطئ، وتحاكم، لكنها ليست ضحية فقط. لاحقاً، تظهر حياة كشخصية نسوية مثقفة، تخرج من تعويذة الصمت، وتتجاوز وصاية الأب، وتعلن حضورها عبر المعرفة والمشاركة السياسية. تمثل حياة الجيل الجديد من النساء الفلسطينيات: صوتًا ناقدًا، مشاركًا، ومؤلفًا لمصيره. الرواية تقدم انتقالاً سردياً من حواء الرمز التقليدي إلى حياة الرمز العصري.
يظهر البعد السياسي في الرواية من خلال سرد مباشر لتجربة يوم الأرض، وممارسات الاحتلال، وآليات الإقصاء الثقافي والسياسي. الكاتبة تدمج الخطاب الوطني بالسرد العاطفي، في تمازج فني محكم. عبر صوت حياة، تتكشف عملية الوعي السياسي، والتحرر من ثقافة الخوف والتبعية، في مشهد المشاركة بالاعتصام.
اللغة المستخدمة في الرواية تتراوح بين النثر الشاعري المترع بالاستعارة، وبين الحكي الحواري المليء بالدفء والمفارقة. يعتمد النص على التكرار الرمزي والإيقاع اللفظي. الحوار غني بالمجازات، والانزياحات الدلالية التي تفتح أفق القراءة الرمزية والتأويلية.
في الرواية، الآخر ليس مجرد عدو خارجي، بل يظهر أحياناً في الداخل: داخل الذات، داخل العلاقة، داخل الجسد. الخوف، الشك، الغيرة، كلها تمثل تغلغل العدو داخل الذات. الرواية تؤسس خطابًا نقديًا للهزيمة الداخلية، وتدعو إلى مصالحة الذات وتحريرها.
تنتقل الرواية بين مستويات زمنية متعددة: الزمن الأسطوري، زمن الطرد، زمن الطفولة، زمن الحب، زمن المقاومة. كما تتراوح جغرافيًا بين القصر، الجامعة، الساحة، السجن، الزنزانة، الشارع، والمخيم. هذه التعددية تخلق توترًا سرديًا غنيًا.
تصل الرواية ذروتها مع إعلان حياة ولادتها الجديدة. تتحول من أنثى مأسورة إلى أنثى حرة، من قارورة معزولة إلى صوت فاعل. بينما يظل آدم، وإن تطهر من الخطيئة، باحثًا عن خلاص لم يتحقق بعد. الصبّار لم يُزهِر بعد، لكنه حتمًا سيزهر. الحكاية لم تنتهِ، لكنها تجاوزت السقوط نحو النجاة.
رواية “إلى أن يُزهِر الصبّار” أكثر من قصة حب، إنها نص فلسفي – رمزي – سياسي عميق، يعيد مساءلة مفاهيم الذنب والخلاص، الوطن والمنفى، الأنثى والسلطة.
تكتب ريتا عودة نصًا معاصرًا ذا أبعاد متعددة، يجمع بين شجن الأدب وجمر التاريخ، بين فتنة اللغة وصوت الأرض. إنها رواية تنتمي إلى ما يسميه بول ريكور الزمن السردي، حيث تتشكل هوية الذات عبر الحكي، وتتجلى النجاة بوصفها فعلًا وجوديًا في المقام الأول.إننا أمام عمل روائي يجب أن يُقرأ مرارًا، لأنه لا يمنح أسراره دفعة واحدة، بل يزهر شيئًا فشيئًا… كما الصبّار.