منذ إنشاء الدولة العراقية الجديدة في بداية عشرينيات القرن الماضي كنتاج للحرب الكونية الإولى والأتيان بملك من الحجاز ليتولى العرش في العراق تم بناء اللبنة الأولى للنظام المركزي في العراق وهيمنة مكون على المكونات والأقليات الاخرى ،ما أدى الى حدوث ثورات وانقلابات عسكرية دموية وتبديد الثروات ولم تشهد البلاد تطوراً و نمواً وازدهاراً اقتصادياً سوى في مراحل استقرار سياسي لسنوات قصيرة.
الشعوب والبلدان المتعددة المكونات التي تُحكم وفق النظام المركزي لا يمكن لها الأستقرار والتطور وتوفيرالحياة الحرة الكريمة لمواطنيها في ظل الخلافات والصراعات المكوناتية على السلطة وفقدان الديمقراطية والعدالة الأجتماعية، ودول كالعراق وايران ولبنان وتركيا وسوريا خير مثال على ذلك وهي اما تعيش في دوامة صراعات واقتتال بين المكونات او صراعات فيما بين تلك الدول والصراعات بين العراق وايران التي انتهت بالحرب العراقية الايرانية الدموية التي استمرت ثمانية اعوام والحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت اكثر من عقد والصراع الداخلي في تركيا بين الكورد والدولة العثمانية ومن بعدها الجمهورية العلمانية التركية خير امثلة حية على فشل النظام المركزي في الدول المتعددة المكونات.
قبل تغييرالنظام الدكتاتوري الصدامي في 2003 عقدت المعارضة العراقية مؤتمرات في لندن و واشنطن وصلاح الدين حضرتها غالبية القوى السياسية المعارضة للنظام آنذاك فضلا على شخصيات اكاديمية وسياسية مستقلة كذلك حضرتها اطراف دولية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وحضور غير مباشر لأيران وتركيا عبر وكلائها من القوى السياسية العراقية، وبعد مناقشات دامت لسنوات توصل الجميع الى نتيجة وقناعة تامة بأنه لايمكن للنظام المركزي ان يحل المشاكل والصراعات بين المكونات والقوى السياسية العراقية إلا بناء نظام ديمقراطي فدرالي يستند للدستور والقانون وفصل السلطات وفسح المجال للجميع للمشاركة واخذ دوره في السلطة و الحياة السياسية.
بعد التغيير تمت كتابة الدستور وتم تثبيت نوع النظام في العراق على اساس ديمقراطي فدرالي مع منح حرية الأختيار للمحافظات ان تبقى كمحافظة اوتشكيل اقليم فدرالي وفق السياقات المنصوص عليه في الدستورالجديد حيث عرض الدستور للأستفتاء الشعبي وصوتت عليه غالبية الشعب العراقي بنعم ،لكن النظام والدستورالجديد لم يرق لبعض الأطراف العراقية المرتبطة بالقوى الأقليمية وايضا هذا النظام كان ومايزال متعارضاً مع مصالح كل من ايران وتركيا ولذلك لم يشهد العراق استقراراً سياسيا منذ التغيير والى يومنا هذا.
خلال السنوات العشرين التي مضت على التغيير حاولت البعض من دول المنطقة وبالأخص المجاورة مثل ايران وتركيا وسوريا وبشتى الوسائل اعتراض مسيرة العراقيين في بناء النظام الديمقراطي الفدرالي الجديد بتدخلاتها المباشرة اوعبر وكلائها وعززوا الخلافات الطائفية والقومية بين العراقيين وانتهت بحرب اهلية راح ضحيتها الاف الأبرياء من جميع المكونات فضلا عن استنزاف الأقتصاد الريعي العراقي وماتزال الخلافات داخل المكون الواحد وبين مكون ومكون مستمرة ولم يستطع احد او جهة معينة من ايجاد حل منطقي لها،ويجمع المراقبون السياسيين ان الأستمرارعلى هذا النمط من التعايش السياسي والمجتمعي السلبي الفاشل سوف يقود العراق الى حرب استنزاف لا نهاية لها.
برأيي المتواضع الأسباب الرئيسة والحقيقية وراء تحركات بعض القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية وخارج العملية المرتبطة بالدوائر الأقليمية عملت خلال السنوات الأخيرة لتقويض بل نسف النظام الديمقراطي الفدرالي المثبت في الدستور العراقي سواء في داخل مجلس النواب او عبر قرارات ما تسمى بالمحكمة الأتحادية التي اضحت جزءاَ من المشكلة السياسية في البلاد تتلخص فيما يلي:
1- مخاوف كل من ايران وتركيا وسوريا المتعددة المكونات من مستقبل تأثيرالنظام الديمقراطي الفدرالي في العراق على اوضاعها الداخلية واحتمال اضطرارها لتحذو حذو العراق في تغيير نظامها مستقبلا تحت الضغط الشعبي،وهذا يعني انهاء سلطة الحكومات المركزية والمكونات المستحوذة على السلطة بالقوة في تلك البلدان منذ أزمنة طويلة، لذلك انظمة الدول الثلاث ترى في النظام الجديد في العراق تهديداً حقيقياً لمستقبلها في حال نجاحه وديمومته ومشاركة المكونات المهمشة في صناعة القرار و ادارة البلاد.
2-الأوضاع في سوريا ،الأقتتال بين النظام السوري والمكونات المتمثلة بالمعارضة السورية من جهة وبين المكونات ذاتها من جهة اخرى على مدى ثلاثة عشرعاماً الماضية ،لم تستطع حسم المعركة و تحقيق انتصار عسكري وفرض هيمنتها بالقوة على الآخرين وما يزال نزف الدم واستنزاف ما تبقى من الأقتصاد السوري المنهار اصلا مستمرا من دون حل يلوح في الأفق والذي بدأ يترك آثاراً كارثية ايضا على أقتصاد كل من تركيا وايران الذي اوشك على الأنهيار التام ايضا بسبب تدخلاتهما العسكرية والسياسية في سوريا واستنزاف مواردهما المالية ،اذن المعطيات على الأرض تبين وبشكل جلي ان لا حل للأزمة السورية مستقبلا سوى حلين اما التقسيم الذي ترفضه كل من تركيا وايران رفضاً قاطعاً او بناء نظام ديمقراطي فدرالي يضمن مشاركة وحقوق جميع المكونات وهو اهون الشرين بالنسبة لهم، وفي ذات الوقت لا يمكن استمرار الأوضاع الحالية الى الابد وهذا ما بات يؤرق كل من طهران وانقرة اللتان عجزتا عن ايجاد مخرج للأزمة المعقدة في ظل التدخلات الأقليمية والدولية ولذلك فالبلدان يستخدمان جميع امكانياتهما العسكرية والأقتصادية والدبلوماسية لتقويض النظام الفدرالي في العراق،كي لايصبح انموذجاً لشعوبهم وشعوب المنطقة ويقنعوا شعوبهم بأن الحل لا يكمن في النظام الفدرالي وانما الأبقاء على الحكومات المركزية والتعايش معا مرغمين هو العلاج للداء المزمن. لأن تشكيل نظام فدرالي في سوريا يعني تشكيل اقليم كوردستان سوريا الذي ستكون له حدود جغرافية متلاصقة مع اقليم كوردستان العراق وسوف تربطهما علاقات التاريخ والدم المشترك فضلا عن العلاقات السياسية والأقتصادية والأمنية وغيرها وهذا بدوره يشكل تهديداً مباشراً على مصالح تركيا وايران.وما التدخل التركي في المناطق الكوردية في سوريا والسعي لأيجاد منطقة عازلة بين كورد العراق وتركيا وسوريا ومحاولات ايران الرامية للحفاظ على نظام الأسد ولو لسنوات قليلة مقبلة دلالة واضحة على هستريا الدولتين من مستقبل سوريا،لأن الدولتين تدركان جيداً ان مستقبل سوريا هو اما استمرارالحرب الاهلية الأستنزافية او بناء نظام ديمقراطي فدرالي.
3-وجود اقليم كوردستان العراق،انشاء اقليم كوردستان في بداية تسعينيات القرن الماضي ودوره الفاعل في اسقاط النظام الدكتاتوري والتطور السريع للأقليم في الجوانب السياسية والأقتصادية والعمرانية رغم التدخلات والضغوط الأقليمية بات يؤرق كل من طهران وانقرة ولذلك رغم خلافاتهما التأريخية الا ان مصلحتهما تقتضي اجهاض التجرية الديمقراطية الناجحة في اقليم كوردستان،لذلك فالبلدان يسخران جميع امكانياتهما وقدراتهما سواء بالتدخل العسكري المباشر او غيرالمباشر من خلال اذرعهما الميليشاوية والسياسية في الحكومة ومجلس النواب العراقي واخيرا استخدام ما تسمى بالمحكمة الأتحادية كأداة لتقويض شرعية اقليم كوردستان وسحب صلاحياته القانونية والدستورية واعادة العراق الى النظام المركزي واقليم كوردستان كمحافظات تابعة للمركز.
استنادا لما تم سرده ستسمرمساع كل من بغداد وانقرة وطهران للنيل من النظام الفدرالي المثبت في الدستورالعراقي،اذا ما توفرت الأرضية والظروف الذاتية والموضوعية لذلك واذا ما تماشى هذا المطلب مع مصالح القوى الكبرى المتواجدة في المنطقة.