اكتشف أوديب جريمة قتله لأبيه وتزوجه من أمه، ففقأ عينيه ولعن ابنيه ودعا عليهما بأن يقتل أحدهما الآخر وغادر مدينته المجنونة.. في عالمنا العربي اليوم اتجاهان يشبهان جنون إيتيوكليس وبولينيس أبناء أوديب في كل شيء يتنافسان ويتعاركان ويتقاتلان، ولكل منهما أسلحته العصرية، وصواريخه البالسيتية، وقنابله العنقودية، وسيوفه الحديدية، وسواطيره الملعونة وملثموه وزعرانه وصعاليكه وإعلاميوه.. إلى آخره من أسلحة عصر ماكدونالد.. لكن لم يحسم أي منهما المعركة كما لم يحسمهما من قبل أبناء أوديب معاً، فتصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة.
المواطن العربي أصبح يشبه العجوز ديكايوبوليس في مسرحية أهل أخرناي لأرستوفانيس عندما جلس متحسراً على عصور السلام وأيامه الملاح التي ولت وانقضت في أثينا الجميلة.. احترق كل شيء في هذا العالم العربي كما لم يفعل نيرون في روما، بل كان سيسخر نيرون المسكين لو عاش من نيرانه الوديعة التي حرقت روما بلطف.. ففي كل بقعة من هذا العالم العربي تسيل الدماء كما كانت الكلمات الحزينة تطير من أنامل ألفونسو أرمادا عندما خط دفاتر رحلاته الإفريقية ورسم بحبره دماء الشعب البوروندي التي زهقت بين الهوتو والتوتسي..
فالعالم العربي تسيل دماؤه وتزهق أرواحه ويقتل الأبرياء فيه ولا أحد يتحرك، بل، هناك من يتلذذ بذلك كما تلذذ هوميروس قديماً بحريق طروادة ورقص كالمخبول على أوتاره.. من يعتقد أن الحرب جديدة على المنطقة فهو أحد الثلاثة: إما مخطئ لا يعلم الكثير من أسرار هذه المنطقة أو يعشق الكذب ويفوق مسيلمة كذباً أو إنه يبحث عن الهروب من الواقع وتمضية الوقت والعيش في الوهم كما فعل الشيخ العجوز بير جينت في مسرحية النرويجي هنريك إيبسان.. فالأراضي العربية عرفت منذ قديم القدم كل أنواع الشرور البشري وكل أنواع الجهل، فليس البغدادي يتيماً ولا هو وحيداً، فالرعب القوطي موجود في المنطقة من قبله حيث كان هناك بهرام وأبو لهب وحسن الصباح.. إلخ ورغم ذلك لم تهتز المنطقة كما هي تهتز اليوم بين رقصات صافيناز وأناشيد صليل الصوارم، ربما لأن في تلك العصور كان يحتاج الإنسان مائة شخص ليقتلوا له مائة آخرين.. وربما كان يحتاج لمائة صافيناز لتلهب مائة رجل، أما اليوم فصافيناز واحدة يشاهدها الملايين عبر الإنترنت بالضغط على زر واحد.. وقتل الإنسان أصبح أسهل من حمل كوب من الماء أو قتل بعوضة أو ذبابة، يكفي الضغط على زر واحد أيضاً لتتساقط أرواح الآلاف، وتدمر مدن بأكملها.
فالخرافة تواجه الخرافة في هذا العالم العربي حتى أصبحنا مجموعة من الأساطير الحية نصول ونجول فيه لا نعلم إن كنا نعيش في الخيال أم في الحقيقة.. بل سنصبح في التاريخ كخولة بنت الأزور والسمهر وزرقاء اليمامة والربيع بن حبيب الأزدي وكل تلك الخرافات.. بل ربما سنصبح كعبد الله بن سبأ لا يعرف مؤرخو العصور اللاحقة إن عشنا فعلاً أو لم نعش.. وهل كنا؟ وإن كنا من نكون؟
فالعرب يتصارعون اليوم كما كانت عشيرتا الميتاموتو والتائيرا اليابانيتان تفعلان في ملحمة الهائيكي.. تقاتلوا، تمزقوا، تآكلوا ولم تنتصر لا هذه ولا تلك.
ستقول الأسطورة غداً إنه في زمن بعيد تحاربت عشيرتان أسطوريتان في منطقة تمتد من المحيط إلى الخليج، تتشابهان في كل شيء ما عدا فرق بسيط بينهما يقع على وجههما فإحداهما تحمل لحية والأخرى حليقة الوجه، تعاركتا كأنهما أولاد دراكولا، شربت كل منهما دماء الأخرى، وهتكت عرضها، وفتكت بمالها.. وتتفاخران بغبائهما، في موقعة لن يحلها لا الجان مرجان ولا العفريت عفروتو.. فوقعتا على ملحمة أسطورية اسمها.. كاسك يا وطن وباي باي عرب.