23 ديسمبر، 2024 4:23 ص

الأزمة الروسية الأوكرانية وحرب التضليل الإعلامية

الأزمة الروسية الأوكرانية وحرب التضليل الإعلامية

لعل مشكلة الغرب أنه ميّال و غاوى إعطاء دروس في كل شيء ، دروس في الديمقراطية و في حقوق الإنسان و طبعا في القضاء و في الإعلام ، مع أن هذا ” الغرب ” بجلالة قدره و بربطة المعلمة الماما أمريكا ليس مثالا لا في الديمقراطية و لا حقوق الإنسان و لا في القضاء و لا في الإعلام . هذا الغرب يرفع هذه المفاهيم كمجرد يافطات و شعارات رنانة لابتزاز الأنظمة و الشعوب و لكنه لا يمارسها ، خذ مثلا مسألة حقوق الإنسان و طبق هذا المفهوم النبيل على ما حصل في سجن أبو غريب في العراق و في محتشد قوانتانمو في كوبا الذي تقوم على إدارته المخابرات الأمريكية سيئة الذكر ، طبعا من تابع ما حصل و لا يزال يحصل في هذين المحتشدين يدرك ما وصلت إليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة من تدنى أخلاقي و من خرق فادح لكل بل قل لأبسط حقوق الإنسان . مع ذلك لا نزال نسمع الرئيس جو بايدن يتباكى بكاء التماسيح على حقوق الإنسان في أوكرانيا .

لسنا في وارد الحديث في هذا المقام حول الأزمة بين روسيا و أوكرانيا لكن لا بأس من التذكير بأن أوكرانيا مثلا هي من ساهمت بالجنود و السلاح في اللفيف الدولي الذي كونته الولايات المتحدة الأمريكية غصبا و بواسطة حرب تضليل إعلامية قادها وزير الخارجية الأمريكية المجرم كولن باول لتدمير و قتل الأبرياء في العراق و القضاء على نظام الرئيس الراحل صدام حسين . عندها لم تشأ القيادة في هذا البلد الالتفات إلى مسألة حقوق الإنسان و سيادة الدول إلى آخره من المفردات السخيفة التي يتم ترديدها منذ الغزو الروسي. مع ذلك ما يهم هو كيفية تناول وسائل الإعلام الغربية و العربية للمشهد الدموي في أوكرانيا و هذه الكمية الهائلة من التضليل الإعلامي المقصود و الخبيث الذي نشاهد عينات منه على شاشات مثل البى.بى.سى البريطانية و فرانس 24 الفرنسية و س.ن.ن الأمريكية و سكاى نيوز عربية و طبعا مطابخ قناتي العربية و الجزيرة .

ربما لا ينتبه المشاهد العادي إلى كل أساليب التضليل الذي يتم استعمالها سوى على مستوى نقل الحدث في حدّ ذاته و اختيار الزوايا عند التصوير مثلا كما يمكن أن لا ينتبه المشاهد إلى تركيز هذه القنوات على بث مشاهد مجتزئة من نزاعات قديمة في بلدان أخرى لكن من المهم الإشارة إلى كيفية اختيار الضيوف و كيفية توجيه الأسئلة و تعمد المذيع الاستدراك بصورة متواصلة لتشتيت ذهن المحلل و إفراغ تدخله من محتواه ، ما لاحظناه مثلا في قناة البى .بى .سى هو التركيز على اختيار محلل روسي لا يتقن العربية بطلاقة مما يجعله يتلعثم و لا يبلغ المعلومة أو الرأي بالشكل الطبيعي في مواجهة محلل من الجهة المقابلة طليق اللسان لا تتم مقاطعته بل تمكينه من فرصة زمنية أكبر بحيث يخرج المتابع الغير فطن بانطباع سيء أو مغلوط عن الموقف الروسي في مقابل تعاطف كامل مع الموقف الأوكراني . أن تلتجئ نفس القناة إلى العميد صفوت الزيات المعروف بفشل كل تحاليله العسكرية إبان الهجوم الأمريكي على العراق فهذا دليل آخر على إرادة التضليل بالإيحاء بصمود الجيش الأوكراني الضعيف في مقابل ثاني قوة عسكرية في العالم .

” بروبغندا الحرب القذرة على سوريا ” ، هذا عنوان كتاب مهم و دراسة جادة للكاتب الأسترالي تيم أندرسون يتناول بالأدلة و الوثائق حجم التضليل و التشويه للواقع الغير مسبوقين في تاريخ الذاكرة الحيّة للبشرية التي قامت بها قناة الجزيرة و غيرها من القنوات الخليجية و الغربية . طبعا لم تكن حرب التضليل الإعلامي التي مارستها قوى إقليمية و دولية متآمرة ضد الشعب السوري الأولى و لا الأخيرة لكن المهم في الأمر أن هذه الحرب تأخذ وجوها و أساليب كثيرة و يتم ممارستها بكل وقاحة و دون الأخذ بعين الاعتبار للواجبات المهنية أو حق المتلقي في المعلومة الصحيحة و لذلك لم يكن مفاجأة أن تقوم هذه القنوات بممارسة التضليل مرة أخرى مستغلة النزاع الروسي الأوكراني و أن تسخّر هذه المنظومة لإعادة مناخ الحرب الباردة بين القطبين متذرعة بغطاء البكاء على ما يتعرض له المدنيون جراء القصف المتبادل . لعله من العار أن يتم تسويق” الحضارة الغربية ” بكونها المثال الذي يجب الاحتذاء به من بقية شعوب و أنظمة بقية دول العالم و الحال أن في رصيد كل الدول الغربية دون استثناء دماء ملايين الأبرياء نتيجة ممارستها للاستعمار و التعذيب و انتهاك الأعراض .

لو تم إنشاء منصة محايدة مهمتها الأساسية التدقيق في سيل الأخبار الزائفة و الصور القديمة أو المزيفة أو بعض مقاطع الفيديو التي تتدفق على مدار الساعة في غالبية وسائل الإعلامية لوجدنا أنفسنا أمام كوارث و مهازل ” إعلامية ” يندى لها جبين الإنسانية و لو تفحصنا الأمر أكثر لتحصلنا على أدلة دامغة لا تحتمل التأويل أو الالتباس إلى أن هناك من يقف بقوته المالية و بوسائله التقنية المتقدمة و بعقول بعض نوابغ التضليل و الفوتوشوب وراء هذه الحملات الإعلامية المضللة التي تشارك بعض أجهزة المخابرات العربية و الغربية في إشعالها و خلق المناخ المناسب لتوطينها في عقول البسطاء و فاقدي التمييز بين الغث و السمين الإعلامي . بطبيعة الحال تعتمد هذه المنصات الإعلامية التضليلية على المنطق المعلوم القائل بأن الخبر الكاذب و الملفق ينتشر و يتم تصديقه بسرعة أكبر من الخبر الصحيح و على ما قام عليه الإعلام النازي ” اكذب ثم اكذب ثم اكذب فسيصدقك الناس في الأخير .

من الواضح للعيان أن الحرب الإعلامية التضليلية التي تمارسها منصات إعلامية بعينها تخصصت في هذا المجال لتلعب دورا أساسيا في ضرب العقول باستغلال هشاشتها و تقبلها البديهي لكل الإخبار دون سابق فرز أو تمحيص ستستمر طالما استمرت دوافعها و موجباتها و قوة القائمين عليها ماليا و من الواضح أيضا أن ما نشاهده من بهتان “إعلامي ” بمناسبة النزاع الروسي الأوكراني لا علاقة له بالمهنية أو الشرف المهني أو بالدفاع عن حقوق الإنسان أو مواجهة الظلم أو الاعتداء التي تقوم به دول كبرى . ما نراه هي موجة أخرى من التلفيق و الخداع البصري و التوجيه المعنوي التي تستخدمها قوى عالمية لتنفيذ أجندتها السياسية التآمرية لكن يبقى السؤال الأهم متى تكف بعض وسائل الإعلام العربية عن الانخراط في خدمة المشاريع الصهيونية و الاستعمارية و متى سينتبه بعض رموز الإعلام العرب إلى أن المتابع العربي قد أنتبه إلى خيانتهم و سقوطهم ؟.