23 نوفمبر، 2024 3:50 ص
Search
Close this search box.

الأذربيجاني يشتري الخِشالة

الأذربيجاني يشتري الخِشالة

أتذكر في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان يجوب شوارع المدينة شاب منحنيَّ الظهر قليلا ويدفع بعربة خشبية يسميه الناس ( علي دنبه ) وذلك لانتفاخ في وجهه ووجوه إخوانه التي لم تكن تشبه في ملامحها الوجوه العربية ، وكثير من تلك الوجوه بغير ملامح السائد في السحنة نجدها في المدينة وتعود في اغلبها الى اصول إيرانية أو تركية أو هندية  وهم توالدوا هنا من نتاج الفترات الاستعمارية التي عاشتها المنطقة مما ابقى بعض من ينتمون الى تلك الامم بسبب عمل او تصاهر أو ألفتهم وحبهم للمكان والاندماج فيه ، لكن أفراد عائلة واحدة اختلفت ملامحهم عن تلك الملامح السائدة لمن هم من غير أصول عربية وهم عائلة بيت ( دنبه ) وأغلب الظن انهم من أصول أذربيجانية حيث ملامحهم قريبة الشبه بملامح الشعوب الاسيوية المسلمة في اوزبكستان وقرغيزستان والطاجيك والأذريين وغيرهم.

ويبدو ان هذه العائلة سكنت المدينة من قدم وحملت هذا اللقب الذي يعني بالفارسية ( الردف ) ولكن الناس اعتادت أن تسمي الرجل السمين بدنبه. واظن كما عرفت من أبي أن هذه العائلة من العوائل القديمة التي سكنت الناصرية ولهم منزل كبير ملكاً صرفاً في شارع الحبوبي قرب سوق العبايجيه ، ومنهم من اشتغل في الدائر الحكومية ومنهم ولدهم الاصغر ناجي الذي كان موظف بدالة في بريد الناصرية وكان من البارعين باللعب في كرة المنضدة ، وعبيد الذي عمل فراشا في المحكمة فيما ، كان لهم اخوة آخرين احدهم كان خبازا ويتاجر ايضا في الاحذية البلاستيكية ( الستوك )  فيما مارس اخيهم علي مهنة دفع العربة والمناداة بتلك العبارة التي لم تغب عن ذاكرتي الى اليوم : ( من عنده خشاله للبيع ).

وكان آل دمبه أصلاء في انتماءهم لمدينتهم ومحبوبين من كل شرائح المجتمع.

 والخشالة هي الاشياء القديمة في المنزل ومنها الأواني النحاسية والفافون وغيرها من اثاث البيت القديمة والتي يطلق عليها ( الكراكيب ).

 كنت مدرستي الغافية في عمق الأهوار أشرح لتلامذة الصف الخامس الابتدائي ماذا تعني السهول الرسوبية وقربها من تضاريس بيئتهم عندما سمعت نداء يأتي من رجل يركب زورقا وينادي : من عنده خشاله للبيع .

فمددت رأسي الى شغاتي الذي كان يتشمس في ساحة المدرسة وسألته : وهل يأتي صاحب الخشالة الى الأهوار ايضا .

قال : نعم ، يشتري منا أواني الغضارة .

ــ قلت ماهي الغضارة ؟

ــ قال أواني النحاس والفافون والبركان والطشوت التالفة والمثقوبة . وهو لا يأتي بموسم معين بل ينتظر لعدة سنوات حتى تصبح أوانينا قديمة فيأتي ليبادلها بأخرى جيدة ويأخذ عنها فرقا بالسعر والتي لا نريد بديلا عنها يدفع ثمنها حلوى أو دمى أو تصوير ملون لموناليزا المعدان او أئمة اهل البيت ع .

ضحكة ، وقلت : دمى !؟

قال نعم : أصحاب من عنده خشاله للبيع هم الذين ادخلوا الدمى المطاطية الى طفولة الاهوار ، بعد أن كان أطفالنا يصنعون دُماهم من الطين.

المفاجأة أن الذي كان ينادي من المركب ونزل عند ضفة الهور مترجلاً وهو يحمل كيسا كبيرا من القماش ، أنما هو الأذربيجاني ( علي دنبه ).

ضحكت وتأملته ، هو ذاته بنفس انحناء ظهره وعدم اهتمامه لملبسهْ وهندامه ، يحمل ملامحهُ الأسيوية التي تعود في عرقها الى تتر عاشوا في العراق غزاة ثم دخلوا الإسلام وكانت اذربيجان بسبب قربها من ايران اعتنق اغلب اهلها المذهب الشيعي ولهذا عاش بيت دنبه في الناصرية . وسمعت ايضا أن ناظم قصائد حسينية ورادود من اهالي كربلاء يدعى ( علي دنبه ) ايضا .

هو لا يعرفني ولم يعرْ ليَّ أيُ اهتمام عندما قلت له أن اخيه حاج حسين مخبزهُ ملاصق لبيتنا ، لكنه مر علينا بصمت ودلف الى البيوت ينادي : من عنده خشاله للبيع.

 ليرن صوته كما صدى الأواني النحاسية في رغبات طفولتنا الغنائية لتبدو لكنته آتيه من سماوات العاصمة الأذربيجانية باكو الى صرائف القصب في قرية أم شعثه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات