17 نوفمبر، 2024 1:57 م
Search
Close this search box.

الأديان في الجنس والزواج -14

الأديان في الجنس والزواج -14

قد يشاركني العديد مِن المثقفين في العالم الإعتقاد بإن الحديث عن (الدين) سيكون حديثاً ناقصاً تماماً لو لمْ يتم التحدُث خلاله عن (المال)، فالدين ظهر في حياة الجنس البشري بعد إبتكار العقل البشري قبل ما يقارب الخمسة آلاف سنة للعملة المعدنية (المال) لأغراض التبادل التجاري بدلاً من أسلوب المقايضة البدائي، حيث إحتاجت المجتمعات البشرية حينها الى نُظم وأحكام وقوانين لإدارة الأمور والمشاكل الناتجة عن وجود (المال)، ولم يكن هناك مَنْ يستطيع القيام بتلك المهمة سوى الأفراد الذين كانوا يمتهنون مهنة التصنيع والترويج للتماثيل والأصنام التي كانت ترمز الى القوى الخارقة الغير مرئية التي إفترضها العقل البشري وليجد في وجودها الملموس كأجسام مادية أمامه فرصة للتعبد لها لكي تحميه من مخاطر الطبيعة المحيطة به ولتُعيد له الحياة بعد الموت.

قيام العقل البشري قبل عشرات ألوف السنين بصنع التماثيل أو الأصنام التي ترمز للقوى العظيمة المُتحكمة بحياته وبالطبيعة المحيطة به لم يكن يعني وجود (الدين) طالما أنّ لجوء الإنسان الى التوسل والتعبد الى تلك التماثيل أو الأصنام كان بِصوّرٍ فردية ودون وجود قوانين أو أحكام دينية يلتزم بها ويخضع لها عموم أفراد تلك المجتمعات البدائية في تلك الأزمان.

الدين ظهر تماماً بعد قيام الأفراد الذين كانوا يصنعون ويُروّجون للتماثيل أو الأصنام الخشبية والطينية والحجرية بِفرض أحكامٍ وقوانينٍ على جميع أفراد المجتمع لإدارة التفاصيل الواسعة والمُتشعبة لـلتعامل بـ (المال)، فحال تطوّر التركيبة العضوية للعقل البشري الى حالٍ تمكّن فيه الإنسان مِن إبتكار الكتابة وإكتشاف المعادن وإستخراجها وتصنيعها وبعدها تصنيع العملة النقدية المعدنية (المال) لأول مرة في التاريخ الإنساني قبل ما يقارب الخمسة آلاف سنة ظهرت الحاجة المُلحّة لقيام (أفراد أذكياء) بوضع الأحكام والأعراف والأصول والقوانين التي تتحكم بالعلاقات المالية والإجتماعية داخل تلك المجتمعات البشرية البدائية الخالية حينها منْ أيّ نظام إداري أو قانوني.

كان الأفراد الأذكياء الذين يصنعون ويُروّجون لتماثيل وأصنام الآلهة هم المؤهلين للقيام بمهمة إدارة شؤون أفراد المجتمع لقاء حصولهم على فوائد وإمتيازات لا نهاية ولا حدود لها، لذا فقد قاموا بِتسليط أنفسهم كـ (ملوك) يقودون مجتمعاتهم وفقاً للأحكام والقوانين التي إدّعوا أنها مُرسلة اليهم من الآلهة المعروفة حينها عند الجميع، لذا فبإمكاننا القول أنّ التاريخ البشري شهِد حدوث إبتكارين متزامنين حال ظهور (المال) في حياة الإنسان، حيث كان إبتكار العقل البشري لأول (دينٍ) في التاريخ الإنساني متلازماً بالضرورة مع ظهور أول نظام دولة وقانون في تاريخ البشر.

بإمكاننا القول أيضاً أن ظهور (المال) في حياة المجتمعات البشرية لم يؤدِّ فقط الى إبتكار وسيلة (الدين) بشكل نظام دولة وقانون، وأنما أدى كنتيجة جانبية الى ولادة أولِ أشكالِ القيود على النشاط الجنسي للإنسان، فوجود العملة النقدية (المال) في حياة أفراد المجتمع أدّى الى وضوح صورة إمتلاك وخزن المال ووضوح صورة (الغنيّ والفقير) وبالتالي الى ضرورة توثيق العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بصفة (زواج) عند (رجل الدين) لأغراض تخُص (الإرث) ولاسيما حينما ينجبان أطفالاً.

يرى أغلب مثقفي العالم أنّ الأساس في قيام الأديان بتقييد وتحديد النشاط الجنسي للإنسان كان وما يزال في حقيقة الأمر لأغراضٍ (مالية) تماماً وأنْ حاولتْ الأديان حديثاً إعطاء صفة (القدسية الإلهية) على وثيقة الزواج الدينية بين طرفين، فالإرتباط العاطفي والجنسي الطوّعي بين طرفين بالِغيْن وفق المنظور الحضاري والإنساني الحديث هو ليس جريمةً كما تراه الأديان بل هو نوع من أنواع أنشطة الإنسان الضرورية والطبيعية والذي تقتضيه التركيبة البايولوجية لجسم الإنسان، كما أنّ ممارسة الإنسان لنشاطه العاطفي أو الجنسي لا صلة له بمسألة وجود (الله) أو عدم وجوده مطلقاً، لذا فإننا نرى إنّ المجتمعات المتحضرة ومنذ عقود عديدة لا تفرض على الفرد فيها وُجوب حصوله على موافقة أي جهة كانت لو أراد ذلك الفرد ممارسة نشاطه العاطفي أو الجنسي بالإتفاق والتراضي مع شريك له.

يُجمع الكثير من القانونيين والإداريين والسياسيين وكذا جميع علماء الآثار في العالم على أن شريعة حمورابي هي أقدم وأنضج شريعة قانونية ودستورية ودينية وموؤسساتية إبتكرها العقل البشري، وهي منسوبة الى الملك العراقي البابلي حمورابي والذي حكَم المجتمعات العراقية في الفترة من عام 1750 لغاية عام 1792 قبل الميلاد، وقد تضمنت شريعة حمورابي 282 بنداً قانونياً تعالج كل شوؤن الحياة الإجتماعية والإقتصادية للمجتمعات البدائية التي ظهرت فيها تلك الشريعة التي نستطيع إعتبارها تُمثل أول ديانة ناضجة في التاريخ البشري مثلما تُمثل أول دستور وأول نظام دولة في التاريخ البشري أيضاً، وورد ضمن البنود القانونية لشريعة حمورابي العديد من الأحكام التي تُعالج وتُنظم القضايا المالية والإجتماعية المتعلقة بأمور ممارسة الجنس والزواج مثل توثيق الزواج بوثيقة دينية يُصدرها كاهن ديني، كما تتضمن شريعة حمورابي تحديد ما يتحمله الرجل من مبالغ مالية عند الزواج وعند الطلاق وأمور أخرى كثيرة ذات صِلة ومنها مسألة (الإرث)، مُنوّهين الى أن الأحكام القانونية لشريعة حمورابي تتصف بالتمييز الطبقي الصريح بين أفراد المجتمع حيث كان للحاكم وحاشيته والكهنة الدينيين وكذا الأغنياء مثلاً الكثير من الإمتيازات المادية والإجتماعية لاسيما في موضوع الجنس والزواج، مثلما كان الرجل في أحكام شريعة حمورابي يمتاز بالكثير من الإمتيازات والحقوق عن المرأة.

العديد من المختصين بشوؤن حقوق الإنسان في العالم يَرون أنّ شريعة حمورابي لمْ تتطرق الى موضوع (الجنس المِثلي) رغم أنّ عدد مِن علماء الآثار الغربيين عثروا في بلاد الرافدين على مخطوطات أثرية تعود الى نفس أزمنة ظهور شريعة حمورابي تُشير الى وجود النشاط الجنسي المثلي في المجتمعات البدائية بشكل يَقرُب الى العلانية، وقد يكون عدم الإهتمام بإصدار الأحكام الدينية التي تخص هذا النوع من النشاط الجنسي جاء بسبب إنه نشاط لا يؤدّي الى الإنجاب وما يتمخض عنه من متعلقات مالية تخص الإرث في حين كان الهدف الرئيسي من جميع أحكام شريعة حمورابي هو تنظيم الجانب المالي بين أفراد وطبقات المجتمع، ذلك الجانب الذي كان وما يزال هو السبب الكلي والمباشر لولادة كل الأديان والأنظمة القانونية والإدارية في المجتمعات الإنسانية.

عموماً فأن أحكام شريعة حمورابي كانت توثيقاً لما كان سائداً من أصول وأعراف في المجتمعات البدائية التي ظهرت فيها، حيث قامت شريعة حمورابي بتوثيق ما كان سائداً من أصول أجتماعية ومالية بشكل أحكام قانونية مُرسلة من (إله الشمس أو إله العدل) أو ما يسمى فيما بعد بـ (الله) وليضطر جميع أفراد المجتمع للتقييد والإلتزام بتلك الأحكام، بينما أستفاد الملك حمورابي مِن سنّ شريعته تلك بما حصِل عليه من إمتيازات كونه مَلِكاً على جميع أفراد مجتمعه وما يعنيه ذلك مِن حصولِه على المتعة والأموال والأملاك التي لا حدود لها، كما منَحَ حمورابي رجال الدين مِن الكهنة العاملين في معيّته الكثير من الإمتيازات المادية والإجتماعية وفرصة الحصول على واردات وهدايا المعابد الدينية، إضافة الى مواردهم من أعمال منْح الوثائق الدينية الخاصة بالزواج والطلاق والإرث وغيرها.

وهكذا توالت كل الأديان في جميع مجتمعات العالم منذ ظهور أوائلها في العراق قبل ما يقارب الخمسة آلاف سنة ولغاية يومنا هذا في محاصرة وتقييد النشاط الجنسي للإنسان رافضة منْح الإنسان حق ممارسة نشاطه الجنسي دون حصول الموافقات الخطّية من كهنة وشيوخ تلك الأديان أو المذاهب الدينية، بل ما تزال لغاية يومنا هذا الكثير من الأنظمة الحكومية في العديد من المجتمعات الشرقية المتخلفة تُشير في وثائق الزواج الى ديانة وربما المذهب الديني لِطرفيّ الزواج.

لغاية أيامنا هذه ما تزال الكثير من الأنظمة الحكومية الشرقية تُحرّم أي نشاط عاطفي أو جنسي طوعي للإنسان إذا لمْ يحصل ذلك الإنسان على وثيقة زواج دينية أو حكومية، مثلما ما تزال قوانين هذه الحكومات الشرقية تلتزم بالقيود والشروط الدينية والمذهبية عند منحها وثيقة زواج للطرفين الراغبيْن بالحصول على وثيقة الزواج الحكومية، ومن تلك القيود والشروط هو منْع التزاوج بين طرفين من ديانات مختلفة وأحياناً حتى بين المذاهب المختلفة داخل نفس الديانة، أو أن هذه الحكومات الشرقية تُفرّق بين (الرجل) و(المرأة) في منْح حق الزواج بطرف آخر من ديانة أخرى، كما أن هناك حكومات شرقية ما تزال لغاية يومنا هذا تشترط على أحد طرفي الزواج تغيير ديانته من أجل الموافقة على إصدار وثيقة الزواج.

يتبع ..

أعلاه هو مقال ( الأديان في الجنس والزواج ) من كتابي المعنون بـ ( أحترم جداً هذا الدين ) والمنشور عام 2021 بأكثر من تسع لغات واسعة التداول في العالم .

مؤلف عراقي – مستقل فكرياً وسياسياً

أحدث المقالات