23 ديسمبر، 2024 4:50 ص

الأدب اللاورقي ثانية

الأدب اللاورقي ثانية

كتبت أكثر من مرة عن حالة ماينشر في الشبكة الالكترونية من صنوف الكتابة من نثر وشعر وقصة ومقالة سياسية ونقد وغيرها مما لا يخضع لتجنيس محدد.. وفي جميع الحالات يجد القارىء المتمعن وغير المتمعن أن هناك كثير من الغث وقليل من السمين! وكذلك ما بينهما.. فأحياننا تتحمل الغث إذا احتوى على فكرة تستحسنها أو على معلومة أو حتى على ذكريات حين يتوفر الحد الأدنى من اللغة السليمة..ولكن أين يستفحل الغث؟ ليصبح ظاهرة، وشرط الظاهرة هو التكرار..
أرى المصيبة في الأدب السياسي عموماً وفي المقالة السياسية خصوصاً، فهناك مواقع تنشر كل مقالة تصلها، حتى وإن كانت الأخطاء في عناوينها!! وإذا سلّمنا أن العنوان مبتدأ والمتن (النص) هو الخبر..فالعنوان في كثير من الأحيان مُنفِّر وفق قاعدة: المكتوب يُقرأ من عنوانه، فتشيح بوجهك عن المقال، وإذا أصررت على القراءة بدافع الاكتشاف وتجاوزت العلاقة الديالكتيكية بين العنوان والمتن فسترى عجباً من أخطاء إملائية ونحوية ولغوية، وصرفية ..الخ، والمحصلة أسلوب ركيك قد تفهم منه بعضه وقد لا تفهم.
ولو تجاوزت برباطة جأش عن أخطاء اللغة الى الفكرة، فسترى أحياناً عجباً من أفكار طائفية وعنصرية وحقد دفين ودعوة للتقسيم.. من يتهمني بالغلو فليذهب الى موقع “ص ع” وأشير عليه بأن يقرأ ما يشاء ليكتشف أن المقالات تنشر دون فحص وأحيانا تتكرر بالأخطاء عينها..
هناك كاتب ينتسب الى مدينة مندلي الكريمة، اختص بشتم العرب شتماً مقذعا وأقل شتيمة لديه هي “الاحتلال العربي البغيض لكردستان” ويمجد بإسرائيل .. كاتب آخر يدعو بتقسيم العراق جهراً الى كردي وسني وشيعي ويرى في ذلك ضمان لازدهار الأقسام الثلاثة لاسيما الشيعة المنهوبون بترولياً بما يعود عليهم بالرفاه الاقتصادي والسياسي! وكاتب آخر لم يكتف بلقب لعشيرة واحدة بل زاوج بعشيرتين نسباً له، وراح يشتم كل كاتب لا يعجبه وينبزه ب “المستكتب” خاصة إذا كان من مذهب مغاير..!
ولو كان هناك رقابة أو متابعة لأحيل مثل هؤلاء الى القضاء لأن خروقاتهم للدستور واضحة فاضحة ولا أفضح تهمة من المساس بوحدة الوطن والشعب! ولا يفهمنَّ أحدٌ أنني أدعو لِكمِّ الأفواه وخنق الحريات قط، فشتان بين الدعوة الى الهدم والدعوة الى البناء!
أما الجانب المتعلق بالأدب سواء كان شعراً أو نثراً فقد غلب عليه الركاكة والترهل والغيت الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية..كأن تقرأ خاطرة غامضة بأسطر قصيرة وأخرى طويلة لتُحسب على أنها قصيدة نثر دون معرفة بأن قصيدة النثر لها قواعدها وإن شئت قوانينها بَدءاً بتركيز اللغة واغتنائها بالمفردات والعبارات الشعرية المكتنزة باللفظ والمعنى والتصوير المركز والإيقاعات الداخلية وثراء المخيلة .. والمصيبة إن هناك مواقع تختار بعض ما تعتبره من قصائد وتمنح جوائز لمن تتوسم (أو تخمن) فيهم القابلية الشعرية والإبداع، وهكذا تجعل من الواهمة خيالاً..
أما التعليق على القصائد ففيه كثير من النفخ في الرماد، على أمل أن تخرج منه شرارة!
ولا يختلف الموضوع في مسألة الفرزات السياسية التي تكرر نفسها بإسلوب جاف وتلقى قبولا وفق المشاركة بالرأي أو وفق التحزب..
وترى أحيانا بعض الكتابات الجميلة أسلوباً وفكراً وإنسانية تشكل عصارة جميلة بعيدة عن اللف والدوران فتستمتع وتستفيد، فما هناك أجمل من مقالة أو فرزة تجمع بين الجمال والمتعة والفائدة، لكن هذا نوع قليل ضائع في مزدحم الكثرة الكاثرة مما هو منشور..
هناك أساتذة ملءُ السمع والبصر تتعنى الى مقالاتهم أو فرزاتهم لا لتستمتع بالنصوص الجادة فقط وإنما بالمداخلات التي تغني الموضوع..وهناك شعراء وقصاصون وكتاب سياسيون يمتلكون مواهب حقيقية هم المُعوَّل عليهم ولولاهم لأغسق عالم الإبداع..
وعن موضوع المداخلات والتعليقات تجد فيها من يحاول استفزاز الكاتب.. وتجد فيها من الكتاب من يُحبُّك إن كِلتَ له المدح والثناء، ويهجرك هجراناً إن غفلت أو لم تشر بإعجاب فالمجاملات أصبحت قانوناً مثل رد الجميل بالجميل؛ فإن أشرت الى خطأ فستخسر الصديق وسيقول لك لماذا لم تنشر على الخاص، ولا يشفع لك حين ترد أن بعض الأخطأ تنشر على العام لتعميم الفائدة!
الكل ينشد المديح ويطرب له وينتشي أيما طرب وأيما انتشاء!
ويبقى السؤال شاخصاً ينتظر الجواب: ماذا لو أراد أبني أو حفيدي أن يقرأ بالعربية ويطلع على ماهو متداول، ترى ماذا سيقرأ ليقوّي لغته؟ وماذا سيستفيد علما؟؟