27 ديسمبر، 2024 2:49 ص

الأخوات الدومينيكان في ألمانيا بحثاً عن الجنة

الأخوات الدومينيكان في ألمانيا بحثاً عن الجنة

بجلابيب بيض وربطات رأس سود يتحركن في المدن الألمانية. إنها ليست منظمة خيرية، بل هنّ راهبات كرسن حياتهن لخدمة الكنيسة والمسيح، من خلال نشر المحبة ومساعدة المحتاجين أينما كانوا كما يعلنون. أغلبهن ذوات أصول إفريقية، وحين تعرفت على إحداهن في ظرف درامي، انكشف أمامي عالم غريب حقاً.

حولت جائحة كورونا العالم إلى قرى صغيرة منعزلة، وفي أوج العزلة زرت مشفى بمدينة كولونيا لعيادة صديقٍ يمر بظرف صحي عسير. أثناء وجودي عنده زارته طبيبة وممرضة لمعاينة جرح العملية التي أجريت له ولتغيير الضماد، فتركتهم لشأنهم وذهبت إلى غرفة الاستراحة، وهي حجرة موجودة في كل طابق ومؤثثة بشكل بسيط يتيح للزائرين أو المرضى الراقدين أن يقضوا فيها فترة استراحة بعيداً عن سرير المشفى. في الحجرة وجدت راهبة ترتدي جلباباً أبيض وربطة رأس سوداء، وتقرأ في إنجيل صغير. جلست قريباً منها، فنظرت في وجهي وعلى وجهها تلك البسمة التي تميز السود بأسنانهم ناصعة البياض، ثم قالت “ليشفي الرب مرضك أو مرض أحبتك الذين تزورهم“. شكرتها برفق راداً على ابتسامتها بمثلها.

ثم بادرت أفتح معها حديثاً طالما راودتني نفسي أن اتبادله مع راهبة، وقلت: هل تزورين مريضاً هنا، أم تؤدين واجباً كنسياً؟

ابتسمت، وردت بهدوء مريح: لم أفهم، هل يمكن أن نتحاور بالإنكليزية؟ لا أتقن الألمانية؟

أعدت سؤالي بالإنكليزية: هل تزورين مريضاً هنا، أم تؤدين واجباً كنسياً؟

أقوم بالأمرين معاً، فأنا أزور إحدى أخواتنا الراقدات هنا، كما أتفقد باقي المرضى، فعيادة المريض تلقي في نفسه السلام والطمأنينة وتخفف من قلقه. ثم بادرت تسألني: هل تشرب شاياً أو قهوة؟ أنا ذاهبة إلى عربة الضيافةلآتي بقهوة لي.

أبديت لها رغبتي في قدح قهوة، فغادرت المكان كملاك أبيض وهي تبتسم. وبقيت أفكر مع نفسي من أين أبدأ معها حديثي. وبعد دقائق عادت بقدحي قهوة، وضعت أحدهما على منضدة قرب مقعدي، والآخر أمامها على طاولة كبيرة تتوسط الحجرة.

بادرتها بالقول: هل أنتِ ألمانية؟ بوسعك أن ترفضي الإجابة إن كان ذلك يزعجك، أنما أطرح السؤال لأفتح حواراً معك، فأنا صحفي ويهمني مثل هذا الحوار.

ابتسمت بشدة وهي تقول: أنا بريطانية، وأصلي من كينيا، لكني موجودة هنا في دير “شترافيلد” بمنطقة شام، قرب نورنبرغ منذ آذار/ مارس المنصرم وقد علقت بسبب جائحة كورونا. نحن أخوات الدومنيكان المبشرات لكنيسة يسوع القلب الأقدس.

ابتسمت شاكراً، ثم سألتها وأنا أتلفت حولي إن كان بوسعي تسجيل حوارنا، وافقت بالإيجاب، لكنها تحفظت على التصوير وعلى ذكر اسمها، وهكذا مضيت لأسألها وأنا أسجل على هاتفي الذكي: ماذا يعني للمرأة أن تختار يسوع زوجاً تكرس له نفسها، وتحرم روحها من كل الحريات التي أتاحها الرب للناس؟

نحن الأخوات الدومينيكان أشبه بالمتصوفة، نحن نعشق يسوع المخلّص، والصلاة تحتل موقع القلب في حياتنا، صلاتنا ليسوع هي كلمات عشقنا له. أنا عاشقة يا أخي، والعاشق لا يُسأل عما يراه في حبيبه.

وهل يشاطرنك بقية الأخوات هذا العشق؟

قلب المسيح يتسع لكل الناس، إنّه مساحة بيضاء لا تمتلئ مهما تراكمت فيها القلوب. نحن نساء نحمل ثقافات مختلفة وأشكالنا مختلفة وتواريخنا مختلفة وجغرافيتنا متباعدة، لكن عشق يسوع يجمعنا هنا فنعيش في مجتمع مغلق، تنوعنا واجتماعنا ببعض هو سر نجاحنا. في أديرتنا وحيثما نكون نحن نروم طاقة الرب ونوره. من هذا التلاحم نستلهم القوة والايمان المطلق بقدراتنا. نحن ننشر أخبار الرب الحميدة، ننشر الحب ونأتي بالأمل والشفاء لأرواح من يحتاجونها. كل الناس بحاجة للأمل وكلهم يروم شفاء روحه العليلة. بحثنا اليوم يتعلق بالدراسة والتأمل العميق للوصول إلى رب رحيم محب.

وماذا تفعلون بالتحديد لتستمروا بالحياة، يعني هل تقومين بوظيفة خارج واجب التبشير لتعيشي من موردها؟

الكنيسة تؤمن لنا موارد الحياة، لكنها لا تؤمن معيشة رخاء، بل معيشة كفاف، نحن لا نبحث عن رخاء ونرضى بالقليل والنزر اليسير. مهمتنا بالدرجة الأولى ثقافية، فنحن نعلّم اللغات، الإنكليزية أو الإسبانية أو لغات افريقية أخرى من لغات القارة السمراء، كما ننشر تعاليم الكتاب المقدس بين من يحتاجون له، صدقني الفقراء يحتاجون بشدة إلى الايمان، فالإيمان يهبهم قوة تعينهم على شقاء الفقر. وفوق ذلك نحن ننشر الثقافة الرسمية المدرسية، بدءا من مرحلة الدراسة التمهيدية وصولاً إلى الدراسة الثانوية، كما نلقي محاضرات في الجامعات. نشاطنا يتركز بالدرجة الأولى في كولومبيا، كينيا، زامبيا، زيمبابوي، إنكلترا وألمانيا. كما ننشط في مدارس الصم ومكفوفي البصر. نحن نرعى كبار السن والمرضى والضعفاء أينما وكيفما كانوا في البلدان التي ذكرتها، طبعاً هذا يتبع مستوى الأمان المتوفر في البلدان المذكورة أيضا. نحن نساعد مرضى الأيدز، وهذا ضمن أولوياتنا. وفوق هذا نقوم بمهامنا الكنسية، من الغناء في الكورال وإقامة القداديس والمشاركة فيها. علاوة على ارتباطنا بمشاريع الإنقاذ من الكوارث والمجاعات، نحن موجودات حيثما احتاج الإنسان إلى محبة وعشق يسوعي خالص دون مقابل.

هل لي أن اسأل سؤالاً شخصياً، يتعلق بك؟

بالتأكيد، تفضل اسأل.

كيف ترين نفسك في ضوء ما يحققنه نساء أخريات، بعضهن نجمات لامعات، أغلبهن نساء لهن عائلات ويعشن مع رجالهن بسعادة؟

القناعة شيء يتعلمه الإنسان، أنا لم الد وفي فمي ملعقة ذهب، بل ولدت وسط الحرب والمجاعات، وكبرت مع الذباب ومياه المستنقعات والعنف المجتمعي. بالنسبة لي، توفر الحياة مع الأخوات الدومنيكان مستوى لائقاً من العاطفة واحترام النفس والمكانة الاجتماعية. أغلب الناس يتعاملون معنا ببالغ الود والتقدير، وهي أشياء لم تكن موجودة في حياتي قبل الرهبنة. هذا غير أني أجد الحب في كل مكان، مع من أساعدهم ليصلوا إلى المسيح.

ماذا عن الرجل، أليس له مكان في روحك وجسدكِ؟

في النهاية نحن نساء، لدينا رغبات في الروح والجسد، لكن المؤمن عليه أن يتسامى عن رغبات الجسد، لذا لا أفكر في حاجتي للرجل جسدياً، أراه أخاًلروحي، ورفيقاً لي في درب الوصول إلى روح عيسى المسيح، نجم السماوات المنقذ.

لماذا تسمون أخوات الدومنيكان؟

نسبة إلى القديس دومنيك المولود في القرن الثاني عشر والمتوفي في القرن الثالث عشر ميلادي، وهو الذي أرسى شريعة الدومنيكان، وقد كان رجلاً صالحاً عميق الشخصية واسع الآفاق. وكان يتعاطف مع أعمق المعاناة الإنسانية، وهو قد ارتأى ضرورة تأمين كل مصادر المعرفة الإنسانية لخدمة المسيح. القديس دومنيك اعتمد انجيل متى (ماثيو) ورسائل القديس باول كمصدرين للمعرفة يرافقان حله وترحاله. ما كانت المسافات ولا المشقات تمنعه عن السفر لبث عِظاته بين الناس.

أما عن تبشيريتنا بالذات فقد أقيمت عام 1877 بمدينة “كنغ ويليامز تاون” بجنوب إفريقيا، ونمت التبشيرية وانتشرت في أرجاء الكرة الأرضية، بمزيد من الصراع، مرفقا بأمل لم ينطفئ قط. نساء من جنوب إفريقيا ومن إيرلندا طلبن الالتحاق إلى التبشيرية الجديدة في كنغ ويليامز تاون، وكانت على رأسها آنذاك الأم موريشيا تيفن بويك، ثم اتسعت التبشيرية لتصبح على ما هي عليه اليوم.

بون 2020/ خريف عام كورونا