من المرّات النادرة في التاريخ السياسي للأمم والشعوب أن يكون هناك نظام لدولة تعايشت وتداخلت بل وتشابكت فيه كافة نماذج الدول التي عرفتها البشرية : فجنوح الدكتاتورية تلبّس ثوب الديمقراطية ، وتعالي الأرستقراطية ” النخبة أو الصفوة” إّدعى الثيموقراطية ” الطامحين إلى المجد ” فيما فساد الاوليغاركية” أصحاب الثروات ” إحتمى بالثيوقراطية “حكم المتدينين ” لتصبح الدولة بمثابة خلطة عجيبة لا تحديد لها ولاملامح خاصة تميّزها .
لكن ذلك لايأتي كتجربة فريدة من نوعها استنبطها رجال دولة بارعون كي تتلاءم من ثم مع وضع البلاد بخصوصيتها وتركيبتها الجغرافية والسكّانية ،إذ كان يفترض بذلك أن يأخذ من كل الأنواع أعلاه ، أجود مافيها ، فمجتمع يحضر الدين فيه بشكل طاغ ، لابد أن تأخذ روحية الدين وقيمه الأخلاقية والسلوكية إعتباراً في بناء الدولة ، على أن لايصبح المقدس الديني عائقاً أمام التطور الاجتماعي والسياسي فيما لو أخذ كثابت لايتزحزح (تابو ) قد يشكّل عائقاً أمام الاستجابة لمتطلبات المتغيّر وأشكالياته ،تلك نقطة مفصلية لايمكن المرور فيها من دون عثرات تستوجب الوقوف عندها أولاً .
فالثيموقراطية تتطلب وجود نوع من القادة يمتلكون من المواصفات مايجعل تجربتهم جديرة بالتماثل ، وبالتالي تحوّلهم إلى رموز تمنذج شخصياتهم وتجعل من أفعالهم وسلوكياتهم السياسية مقياساً للخطأ والصواب،أي أن يكونوا بمثابة الشواخص التي تستجيب لمستلزمات بناء الدولة في عالم متحرك شديد التعقيد ، وبالتالي ينحو المجتمع للنظر إلى تلك (الشواخص ) باعتبارها ملهمة للفكر ومحّثة على الدينامية وباعثة للنشاط ، لامجرد رموز ساكنة سرعان ماتتحول إلى حالة صنمية تعيق الحركة وتصادر الحرية ، لذا فمن نافل القول إن من أولى مواصفات الرمز وأكثرها تجلّياً ،تكمن في مقدار احترامه لشعبه وإيمانه المطلق بحريته واستقلاله .
لم يتسن للمجتمع العراقي بدولته الحديثة ، أن يعرف شخوصاً من ذلك النوع ،كان رحم السياسة عقيماً بهذا المعنى ، لكن ذلك لايعني أن المجتمع العراقي قاصر بنيوياً عن إنتاج القادة ذوي المواهب،إلا أن أسباب ندرتهم ربما تعود إلى البيئة السياسية (القاحلة ) التي وجد المجتمع العراقي نفسه يدور في مجاهلها ،والتربة (الصحراوية ) غير الصالحة للنمو التي تخنق البذرة في مهدها قبل إن تنبت أو تصبح شجرة .
لم يكن العراق – كما غيره من الكيانات العربية – دولة قائمة بذاتها بعد أن تلاشت الخلافة من الوجود منذ سقوط بغداد بيد جيوش هولاكو ،ومع استمرار ماسمي بعصور الإنحطاط وهيمنة العناصر الأجنبية من مماليك وسلاجقة وترك وصفويين وسواهم ، على القيادة ومن ثم إبعاد العراقيين عن كلّ ماله علاقة بالسلطة، لجأ المجتمع العراقي إلى تعويض ذلك بإفراز ظاهرة (الشقاوات) الذين ظهروا في المدن والأحياء بشكل خاص وشكّلوا (زعاماتهم ) المحلية فيها ، فكانوا ينتصرون للضعيف ويتصدون للمعتدي بما فيه العناصر الأجنبية ،أما في الأرياف ، فكان ( العجيد) هو المناظر لشقاوات المدن ، والعجيد عبارة عن لصّ شجاع تقوم شهرته على كثرة مغامراته في السطو على القبائل الأخرى وسلب مالديهم من بضاعة أو مواش أو ماشابه ، وهو امتداد لظاهرة الغزو التي شهدتها الحياة العربية قديماً حيث يشتهر الفرسان الغزاة من ذوي الجرأة والبأس اللتين تتيحان للفارس القيام بفعل الغزو والنجاح فيه ، وإن وقع أسيراً في إحدى غزواته ، يفتدي نفسه أو يفتديه قومه بتعويض عيني يقدم للآسرين ، ليعود مرّة أخرى إلى الممارسات ذاتها.
ذلك أقصى ماتوفّر للمجتمع العراقي من ( القادة ) في عصره الحديث عموماً ،لكن هؤلاء يختلفون بشكل جذري عن قادة سياسيين ينبغي أن يتمتعوا ليس بالقوة البدنية والجرأة وكفى، بل بالكاريزما الشخصية – وهي مجموعة المواصفات العقلية والخطابية والسلوكية والموهبة والحكمة والصبر والقدرة على اتخاذ المواقف الصائبة في الوقت والزمن المناسبين والإستقلالية – وسواها- وتلك في مجموعها تأخذ موقعها بين الناس لتجعل من صاحبها مركز استقطاب وثقة فيمن يقودهم ، لكن محاذير عدم تحوّل القائد من هذا النوع إلى طاغية مستبدّ ، تتعلق بالمجتمع ذاته أولاً ومايضعه من ضوابط أخلاقية أو دستورية ثانياً، فكلما ارتفعت نسبة الوعي عند المجتمع ووضع للحرية مقاماً متقدماً ، كلما قلّ ظهور الطغاة وكثر ظهور القيادات ،ذلك لأن البيئة تصبح خصبة للنبت وبالتالي تتاح الفرصة للقادة البارعين والمخلصين في الوقت عينه ، كي يثبتوا مواهبهم وقدراتهم .
أما في حال سادت المجتمع المعني ، قيم البداوة فتمجّد اللصوص باعتبارهم (فرساناً) وتلتف حول ( الشقاوات ) باعتبارهم حماة ، ولما كانت (زعامة ) هؤلاء تعتمد على القوة الجسدية وحدها وبالتالي غير مؤهلة لقيادة دولة بتراتبية معقدة ومجتمع متطلّب ، لذا فإن الأشخاص الذين تضعهم الظروف أو المصادفات في موقع (القيادة ) سرعان مايعودون إلى طبائعهم الفطرية في استخدام العنف طريقاً لتثبيت السلطة مرفقاً بالعجرفة والتكبّر ، لكن مع افتقارهم إلى الصفات الحسنة التي كانت للشقاوة أو (العجيد) ومنها الإنتصار للضعفاء والتعاطي المباشر مع الناس بالاستماع إلى شكاواهم وإجارة المظلوم منهم ، لكن النوع السياسي من (الزعماء ) لايحتاج القوة الجسدية أو الجرأة الشخصية ليفتك بالضعفاء ويهيمن على مقدّراتهم ، بل يستعيض عن ذلك بما توفّره السلطة من أدوات القمع – مخبرين ورجال أمن وشرطة وجيش وأزلام ومنتفعين وماشاكل -.
الأحزاب العقائدية عموماً ، هي أشبه ب(ديترا شترا) كما في الملحمة الهندية ( المهابهاراتا ) حيث لم تستطع والدته تحمّل النظر في وجه أبيه شديد القبح ، فأغمضت عينيها عند الوصال ، ما أدى إلى أن تنجب وليداً أعمى .
معظم تلك الأحزاب لاتستطيع النظر إلى الواقع المنفر الذي كانوا جزءاً رئيساً في صنعه ، لذا فإنهم يغمضون أعينهم كي لايروه ، لينتجوا من ثم (أفكاراً ) عمياء وممارسات سياسية أكثر عماءاً ، لكنهم في الوقت عينه لايرون مقدار التشوّه فيما يصنعون ، بل يتصورون في أنفسهم (قادة ) حقيقين جديرين بأن يوضعوا في مواضع التبجيل والاحترام نظيراً لما هم فيه .
الحرية بالنسبة للإنسان العراقي ،قد تكون بمثابة مخلوق هجين لم يقدر على مؤالفته والإستنأس إليه بعد – ناهيك بالدفاع عنه أو القتال من أجله – فالعراقي ومنذ قرون طويلة كان عرضة لتسلط جهات متعددة ،ابتداءاً من (الشقاوات ) ورجال الدين وشيوخ القبيلة والإقطاع والحوشية وأصحاب رؤوس الأموال والمقاولين والسماسرة والموظفين الحكوميين ،وليس انتهاءاً بالسلطة و(زعمائها ) سلسلة طويلة ينوء بحملها العراقي ما يجعله دائم الانحناء – بمعناه الفعلي أو المجازي – وبالتالي يبحث عن الاطمئنان في تبعيته ل(زعيم ) يرى فيه حامياً وصائناً ،بعد أن أقنعته تلك القرون من الإذلال أو دفعته إلى الاعتقاد بأنه مخلوق لايقدر على مواجهة تبعات الحرية لأنه ليس مؤهلاً لذلك ، وعليه لاغرابة أن ينظر أولئك( الزعماء ) وأفراد حاشيتهم ، إلى الآخرين نظرة مغروسة على الكثير من الغطرسة باعتبار أنهم باتوا من ذوي الاعتبار الخاص والكلام الذي ينبغي أن يكون مسموعاً و(الأفكار ) القائمة على نفسها والمكتفية بذاتها .
تقدّم تجربة معظم الأحزاب (العقائدية) التي تبوأت السلطة – خاصة بعد استيلاء حزب البعث على الحكم عام 1968 – مصداقاً واضحاً لذلك ، فقد كان من أهم الصفات المرافقة للبعثي مثلاً، هي عجرفته وتعاليه على الناس والسخرية من آراء المثقفين والمفكّرين ، باعتبار إن لا أفكار تنتج ولاثقافة تبدع خارج نطاق مايقرّه البعث وما يقوله أو يفكرّ فيه ، وبالتالي فكان مجرد (موافقة ) البعثي على الإستماع إلى أفكار أخرى أو الالتقاء بمبدع خارج بوتقة البعث ، يعتبر تنازلاً يقدمه البعثي لذلك المبدع وامتيازاً على الأخير أن يتشرف به ويتباهى بحصوله ، رغم أن الوقائع بكل فجاجتها كانت تشير بقوّة صادمة، إن البعث كان مستودعاً عطناً لأكثر ( الأفكار ) بدائية وأكثر السلوكيات حماقة وهمجية ، ما أدّى بمحصلته إلى جعل العراق في الدرك الأسفل من بين دول المنطقة .
لكن إذا كان الآخر متمكناً من ثقافته ورأيه ومن ثم صمد بوجه ضغط (البعثي) أو أحرجه ، فسرعان مايُتّهم بأنه ( شيوعي – رجعي – عميل – متآمر – الخ ) .
الشيوعيون بدورهم لم يخلوا من تلك الآفة ، فإن كان المخالف من خارج البوتقة (الشيوعية) فهو (رجعي – إمبريالي – منحرف ) أما إذا كان من ضمن البيت ( الشيوعي ) أو ماحوله وله مع ذلك رأي مستقلّ ، فتهمته تتنقل بين مفردات من نوع : ( تحريفي – خط مائل – تروتسكي – ماوي) وهكذا.
وفيما يتحولّ إتهام البعثيين لخصومهم إلى إدانة مصير صاحبها الموت تحت التعذيب أو الإعدام دون محاكمة ،اقتصرت اتهامات الشيوعيين لغيرهم على المحاصرة والنبذ وتشويه السمعة وماشابه ، أما (الإسلاميون ) إجمالاً ، فقد هبطت الاتهامات بحق منتقديهم في أقصاها إلى (بعثيين مندسّين) وفي أدناها (شيوعيين علمانيين) ، وفيما اكتفى البعثيون الحاكمون بتصفية خصومهم من دون الحاجة إلى أي نوع من الأدلة ،يلجأ ( الإسلاميون ) إلى البحث عن أدلّة من أي مصدر – وإن مفتعلة– كي يوحوا بأحقيّة مايوردونه في محاولتهم إسكات معارضيهم أو منتقديهم (1) .
ومما يلفت الإنتباه ، أن غالبية المنتسبين إلى النماذج الثلاثة – خاصة القيادات والكوادر المتقدمة منهم – لايميلون إلى ممارسة القراءة ، ولايحبّذون الإستماع إلى غيرهم أو الدخول في حوارات معرفية معهم – ناهيك القيام بفعل الكتابة – حيث يكتفون غالباً بما يكتب أو يقال في مدحهم – شخوصاً أو حزباً – مايؤدّي بالمحصّلة إلى الجمود والكسل الفكري ومن ثم تراجع القدرة على رسم سياسات دينامية لغياب صوابية التقدير للظروف المحيطة بتفاعلاتها الآنيّة أو مساراتها المستقبلية .
بعد سقوط نظام ( القائد الملهم ) وحزبه ، اقتحمتْ المشهد السياسي ثلاث قوى كانت لها الهيمنة الأكثر وضوحاً منذ مايقرب من عقد كامل من السنين .
حزب الدعوة الإسلامية ، الحزب المليء بالمفكّرين الأفذاذ والقادة الموهوبين والمؤسس الحقيقي للحركة الإسلامية المجاهدة في العراق ،ثم التيار الصدري صاحب المكانة الرفيعة جماهيرياً والذكاء السياسي والمواقف الفعّالة المحسوبة بدّقة ، إلى المجلس الأعلى بقادته المميزين من ذوي القدرة والكفاءة العالية.
هذا ماتحاول غالبية تلك القوى تقديمه عن نفسها ،أو الصورة التي تجهد في رسمها بقلم السياسة القاتم ،لكن النتائج ليس مما يمكن القول فيها أنها مرضية أو على مايرام ،فطوال العقد المنصرم ، وتلك القوى تتصدّر الواقع السياسي وترسم خطوطه الرئيسة – على مايفترض- نظراً لامتلاكها وهيمنتها على معظم المفاصل الحسّاسة في الدولة والمجتمع والإعلام والثقافة على السواء – وأن بنسب متفاوتة – .
لكن المتتبع لأوضاع العراق ، سيجد صورة مغايرة بدرجات ليست قليلة ، إذ لم تستطع تلك القوى مجتمعة ومنفردة من بناء فكر سياسي يمكن أن يوصف بالنضج – ناهيك بالإبداع – بل مازال على بدائيته وجموده -أو لم يبرز مايشي بغير ذلك – كذلك عجزت بمجملها ، عن غرس شتلات لقيم سياسية وسلوكيات معتبرة ، إذ مازالت النكايات والمنكافات والمزايدات هي السائدة ، أما الهوية الوطنية والتأصيل للديمقراطية وانتزاع السيادة ، فمازالت تعاني من ضياع وغموض – بل وتراجعت إلى أمكنة مظلمة – فيما تبتئس الثقافة على ندبها وعويلها باجترار ينطفئ فيه وهج الإبداع .
وفيما تتوه كلّ تلك المفاهيم في دهاليز المصالح الخاصة والتبعيات والولاءات الفرعية ، ترتبك (الحكومة ) وحزبها القائد وقواها المشاركة ، وتظهر بأنها اقرب إلى (أطفال ) يلعبون منهم إلى (قادة ) يعرفون طريقهم أو يتلمسونها على الأقلّ ،أو أن معظمهم هو بمثابة (ديترا شترا) أعمى البصر، لكنه فاقد البصيرة عكس (ديترا – ) .
المشكلة في هؤلاء،إنهم مازالوا على تصوراتهم المبالغ فيها عن ذواتهم وقدراتهم ، رغم تواضع النتائج وفداحة ماساهموا بصنعه (2) وبالتالي فهم لايشعرون بحاجتهم إلى رأي أو فكرة قد تكون فيه بعض فائدة لإصلاح شأنهم الذي وهن وأصابه الكثير من العطب ،وهكذا يذهب ببعضهم الاعتقاد بان مجرد موافقتهم على سماع رأي آخر ، يعتبر بمثابة تنازل وهبة لاينالها إلا المحظوظون ، وذلك هو الابتلاء الذي وقع به العراق مرّة أخرى ، فالموضوعية و العقل السليم يقتضي من أولئك الإعتراف – ولو مع أنفسهم- بأنهم مقصّرون في جوانب متعددة باتوا معها عاجزين عن تقديم مايشفع لهم باحتلال مواقعهم،وبالتالي فهم بحاجة ماسّة إلى الإستفادة من أفكار جديدة ورؤى مختلفة يقدّمها من هم حريصون على مصلحة وطنهم ورفعة شعبهم ، لكنهم لايستقون من السواقي ذاتها التي (تنهل ) منها معظم تلك القوى والأحزاب بعد أن أثبتت السنوات العجاف ، إنها لاتروي ظمأ ولاتسقي زرعاً.
ورغم أن أكثر تلك القوى لم يقدم مايبرر إصراره على الاستمرار في ما هو عليه ، ورغم انكشاف العورة عند العبرة – على رأي المثل العراقي – فإنها لاتريد أن تسمع عن حالها ولا أن تنظر الخضّم الذي أغرقت فيه نفسها والعراق ، بل يستمر بعض ساستها في المكابرة إلى درجة الإختناق .
(1) – “إذا لم تجد حجراً للوضوء ، فقل أكثر الدين في صورة المائدة – إذا كان ربي حبيبك وحدك – أخبره إنّا يتامى – وإنّا خُلقنا بلافائدة ” مقطع من قصيدة الشاعر التونسي محمد الصغير الذي تعرّض لأعتداء بالضرب من السلفيين لأنه قرأها في لقاء متلفز .
(2) – يحضر دائماً مثال الفاتح الكبير وقاهر الأمم والملوك الأسكندر المقدوني الذي حوّل مقدونيا من مقاطعة هامشية في بلاد اليونان ، إلى إسم عظيم الشأن في التاريخ القديم ، وفي ذروة مجده ، قام بزيارة رجل فقير يسكن كوخاً متهالكاً على شاطيء البحر إسمه (ديوجين ) ليسأله نصحه ، وفيما إذا كانت له حاجة يطلبها ، فرّد ديوجين وهو مضطجعاً على الرمال ليتشمّس : حاجتي الوحيدة أن تزح قليلاً،فقد حجبت عني نور الشمس.