الأحزاب السياسية العمياء إعلامياً: ضعف الرؤية وأثره في السياسة

الأحزاب السياسية العمياء إعلامياً: ضعف الرؤية وأثره في السياسة

في العصر الحديث، أصبح الإعلام أحد الأدوات الأساسية التي لا يمكن للأحزاب السياسية تجاهلها إذا أرادت أن تبني قاعدة جماهيرية قوية وأن تؤثر في الرأي العام. ومن هذا المنطلق، نجد أن الأحزاب السياسية التي تفتقر إلى فهم عميق لآليات الإعلام أو لا تملك استراتيجية إعلامية واضحة، تجد نفسها في وضع حرج يؤثر بشكل كبير على قدرتها في التواصل مع جمهورها وعلى نتائجها السياسية. هذه الأحزاب يمكن وصفها بالأحزاب “العمياء إعلامياً”، حيث لا تدرك قوة وتأثير الإعلام في تشكيل الرأي العام وصياغة القناعات السياسية. تعود أسباب العمى الإعلامي في بعض الأحزاب السياسية إلى عدة عوامل أساسية. أولاً، غياب الاستراتيجيات الإعلامية المتكاملة. كثير من الأحزاب لا تملك خططًا واضحة للتفاعل مع الإعلام وتوظيفه لصالحها. بعضها يقتصر على الاعتماد على وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والتلفزيون دون النظر إلى أهمية وسائل الإعلام الحديثة مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت لها تأثيرات ضخمة في العصر الراهن. ثانيًا، توجد بعض الأحزاب التي تفتقر إلى الموارد المالية والتقنية اللازمة للاستثمار في الإعلام بشكل فعال. كما أن بعضها لا يمتلك الخبرات أو الفرق الإعلامية المدربة التي تستطيع أن تدير الحملات الإعلامية باحترافية.

تترتب على العمى الإعلامي للأحزاب السياسية العديد من العواقب السلبية التي تؤثر على فاعليتها السياسية. أولاً، يؤثر ذلك بشكل مباشر في قدرتها على التواصل مع الجماهير وبناء علاقة قوية معهم. الأحزاب التي لا تواكب التطور الإعلامي تواجه صعوبة في الوصول إلى جمهورها المستهدف، خاصة في ظل الفضاء الإعلامي المتنوع الذي يتيح للمواطن متابعة الأخبار والتوجهات السياسية عبر العديد من القنوات. ثانياً، تؤدي هذه الحالة إلى ضعف في التأثير على الرأي العام وتفويت الفرص في بناء تحالفات سياسية قوية، ما ينعكس سلباً على نتائج الانتخابات. من الامثلة الواقعية  ، بعد ثورة 25 يناير، شهدت الساحة السياسية في مصر تحولات كبيرة وأصبح الإعلام أحد الأدوات الرئيسة في تشكيل الرأي العام. في الانتخابات البرلمانية لعام 2011، نجد أن العديد من الأحزاب الجديدة لم تكن لديها استراتيجيات إعلامية واضحة، مما جعلها عرضة للتهميش. على سبيل المثال، “حزب الوفد” و”حزب الجبهة الديمقراطية” لم يتمكنا من استخدام الإعلام الرقمي بفعالية على الرغم من حجم الحراك السياسي في البلاد. بينما استفادت الأحزاب التي كان لها حضور قوي على وسائل التواصل الاجتماعي مثل “حزب الحرية والعدالة”، الذي يمثل الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، من تأثير هذه الوسائل في تعزيز رسائلها السياسية. تمكّن الحزب من الوصول إلى شريحة واسعة من الشباب عبر منصات مثل “فيسبوك” و”تويتر“، مما ساعده في الفوز بعدد كبير من المقاعد البرلمانية. وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في 2016، كانت الحملة الإعلامية للمرشح الجمهوري دونالد ترامب مميزة وغير تقليدية. استخدم ترامب منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا “تويتر“، بشكل مكثف للتواصل مع مؤيديه، ونجح في جذب انتباه وسائل الإعلام التقليدية التي كانت تتابع تصريحاته المثيرة للجدل. بينما كان خصمه، هيلاري كلينتون، في بعض الأحيان يتجنب بعض وسائل الإعلام أو لا يستثمر في الإعلام الرقمي بنفس القوة. ورغم قوة برنامج كلينتون السياسي، فإن عدم قدرتها على التفاعل مع جمهور الشباب الذي كان يفضل استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كان أحد العوامل التي ساهمت في خسارتها.
في لبنان، كانت الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2018 مثالاً آخر على أهمية الإعلام في العملية السياسية. بعض الأحزاب السياسية التقليدية مثل “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” حاولت أن تواكب الإعلام الرقمي، لكنها لم تكن بنفس القوة أو الفعالية التي أظهرها أحزاب أخرى مثل “حزب القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل”. فبينما كانت هذه الأحزاب تستثمر في الحملات الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة، كانت الأحزاب التقليدية تظل أسيرة لأساليب الإعلام القديمة، ما جعلها تعاني من قلة التفاعل مع الشباب اللبناني، الذين كانوا يعتمدون بشكل كبير على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في متابعة الأخبار.
كما شهدت الانتخابات العامة في المملكة المتحدة عام 2019 أيضًا مثالاً آخر على أهمية الإعلام في حملات الأحزاب السياسية. كان حزب العمال بقيادة جيرمي كوربين يعاني من ضعف في استراتيجياته الإعلامية، خصوصًا في التواصل مع فئات الشباب. كوربين كان يبتعد عن الإعلام التقليدي في بعض الأحيان، بل إنه كان يواجه انتقادات بسبب تردده في التعامل مع وسائل الإعلام الكبرى مثل “BBC”. في المقابل، كانت الحملة الإعلامية لحزب المحافظين بقيادة بوريس جونسون قوية جدًا، حيث استفاد الحزب من انتشار وسائل الإعلام الرقمية والتفاعل مع جمهور الشباب، ما أعطى المحافظين تفوقًا إعلاميًا ساعدهم في الفوز.

في عالم اليوم، لا يمكن للأحزاب السياسية أن تبقى في عزلة عن الإعلام إذا أرادت أن تحافظ على قدرتها على التأثير والمنافسة. من خلال الأمثلة الواقعية، نلاحظ كيف أن الأحزاب التي لا تهتم بتطوير استراتيجيات إعلامية فعّالة تجد نفسها في موقع متأخر مقارنة بتلك التي تدير حملات إعلامية متميزة. الإعلام ليس فقط أداة لنقل الأخبار، بل هو أداة حيوية لتشكيل الرأي العام وبناء العلاقات مع الناخبين. لذلك، لا بد للأحزاب السياسية من إدراك أهمية الإعلام، سواء التقليدي أو الرقمي، وتوظيفه بالشكل الأمثل لتحقيق النجاح والتأثير في عالم السياسة المعاصر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات