لم أشاهد مصارعة الثيران في حلبة سوى في حلبات المصارعة الإسبانية التي كنا نشاهدها في التلفاز وافلام السينما. ومنها اكتشفت أن الثيران مصابة بعمى الالوان وأن الاحمر يثيرها ويستفزها ، وكنت استعيد أمنية زيارة بلادنا المفقودة في الجانب الاخر من البحر المتوسط ( الأندلس ) حتى أتمكن من زيارة حلبات مصارعة الثيران ، هذه الاستعادة تتم من خلال مصادفة ثوران يتناطحان أمامي وقت خروجي من المدرسة أو الذهاب اليها ، فأتخيل الفرق بين صراع الديكة في منطقة الصفاة قرب بيتنا في الناصرية ، حيث كان لأخي المرحوم عبد اليمة ديك هراتي منقاره مثل سيف محارب سومري يبطش بخصومه من الديكة الاخرى ، وكنت انال بسبب فوزه الأربعين فلسا التي اقتني فيها بطاقة السينما عندما يكرمني اخي مع كل فوز لديكه الأسطوري ، وذات يوم انسل بعض الاشخاص المجهولين والمتضررين من قوة الديك الهراتي الى سطح بيتنا واطعموا ديك اخي الاحمر لقمة خبز مدهونة بسم الزرنيخ فمات .
ذات يوم وبسبب العراك بين ثورين في قريتنا ، سقط احدهم بفضل ضربة قاضية من قرن منافسه وانكسرت قدمه ولم يعد بالإمكان تجبيرها ، ومع حزن صاحبه لأنه كان ثورا يريح اناثه من الابقار ويحملهن على انجاب العجول من خلال فحولته الهائلة ، إلا انه من كسر رجله لم يعد قادرا على فعل أي شيء، فقرر ذبحه ، وكانت حصتنا نحن معلمي المدرسة فخذه الكبير الذي يزن حوالي خمسين كيلو غرام ، ولعدم وجود ثلاجة تحفظ لحمه قررنا اقامة حفلة شواء كبيرة امام المدرسة دعينا أليها حتى تلاميذ مدرستنا الاربعين.
وبعد نهاية دوام المدرسة ابتدأت حفلة الشواء وسط سعادة الاطفال وحزن اباءهم وهم يرون فحل القرية يشوى في النار ، فيما كانت البقرات يراقب من بعيد حزن حرق ذكرهن فكان عليهن أن يظهرن نحيبا خفيا ونظرات غاضبة مصوبة باتجاهنا.
أتذكر اليوم حفلة الشواء هذه ، بعد أن رأيت داعش تشوي ثيران نينوى المجنحة بمعاولها وسط نظرات حزن العالم كلها ، وكلما هبط المعول على فخذ الثور المنتصب بشمخ على بوابات نمرود اطلق شهقة من الحزن .
ها هي الحلبة يتعامل فيها مصارعون قساة مع ثيراننا الاثارية ، وهاهم يستخدم الجرافات والديناميت والمعاول بدلا من قطع القماش الحمراء لترويضا .
بين ذلك الامس الذي كنا في ظهيرة الاهوار نحتفي بشواء اللحم الذكوري للثور المهزوم في صراعه مع ثور آخر وبين هذا الحاضر الموجع الذي يشوى فيه التأريخ على مواقد البرابرة والتكفيرين ، أسجل حزني من اجل ذلك الثور الفحل الذي ارغم كسرَ ساقه صاحبه على ذبحه وكانت دموعه تتساقط حزنا ورضا من أن قدره انتهى مع هزيمته في حلبة الصراع .
أما الثور المجنح الصخري فهو حتما سينحب ، ومعه سيتعالى نواح اليونسكو واهل نينوى وكل البلاد من جنوب سومر حتى آخر نقطة ضوء خضراء فوق جبل شمالي.