الحلقة الأولى : المقطوعة السردية
في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين, تبنّى (داريدا) صاحب التفكيكية وجماعته- من تبعه- مثل (رولان بارت) تيارَ ما بعد البنيوية, ويهدف هذا التيار – كما يدّعون- إلى التخلّص من قيود الجنس الأدبي, واتباع سيادة النص والتناص, وقد أتت هذه الهجمة أُكُلَها السلبية, فعمّت الفوضى في الساحة الأدبية, فتداخلت الأجناس الأدبية فيما بينها, ما خلق جيلًا من الكتّاب لا يفقه جنس ما يكتب, وهذا ما انعكس سلبًا وإسفافًا على الحدود الجنسية الأدبية.
وظهرت في بداية هذا القرن ( الواحد والعشرين) تيارات أخرى أهمّها تيار (روتي) الأمريكي, وهو تيار البراغماتيكية الجديدة ( الذرائعية اللغوية), والذي استنبط منه الناقد العراقي (عبد الرزاق عوده الغالبي) الرؤية الذرائعية والتي قمت بتطبيقها كآلية على العديد من النصوص الأدبية منذ أربع سنوات, وقد استطعنا بعون الله وضع تلك الرؤية في ثلاثة كتب نقدية, صدر منها كتاب( الذرائعية في التطبيق) الذي يتضمّن الآلية التطبيقية, وسيلحق به الكتابين (الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللساني والنقدي) و ( دور الذرائعية في إعادة سيادة الأجناس الأدبية), وكان من أهم الدعوات التي تبنّتها الذرائعية:
1- العودة إلى النص الرسالي الرصين(الأخلاقي الذي ينسجم مع منظومة الأخلاق العربية والأديان السماوية).
2- العودة نحو التجنيس الأدبي, للحفاظ على الحدود الجنسية للأجناس العربية على الأقل, لأن تداخل الأجناس يخلق تخبّطًا أدبيًّا سافرًا ليس له مبرّر إلا التخريب الأدبي, والسباحة في تهويمات فوضوية لا طائل منها.
3- من خلال تلك الرؤية, استطعنا أن نبتكر أجناسًا بينيّة جديدة, بعد وضع أطلس الأجناس في كتابنا الثاني( دور الذرائعية في إعادة سيادة الأجناس الأدبية), وهذا الأطلس يبيّن خارطة كل جنس أدبي.
من أهم تلك الأجناس البينيّة المبتكرة :
– الموقف المقالي: وهو بين المقالة والقص القصير, وهو ابتكار الأستاذ( عبد الرزاق عوده الغالبي) الذي كتب فيه ثلاث مجموعات, لاقت نجاحًا باهرًا, وإلى الآن لم يكتب بهذا الجنس البيني إلا الأستاذ رزاق.
– المقطوعة السردية: أيضًا ابتكار أستاذ عبد الرزاق عوده الغالبي, ويقع بين الخاطرة والقص القصير.
– الحوارية: من ابتكاري أنا د.عبير خالد يحيي, وهي جنس بينّي يقع بين المسرحية والقص القصير.
وسنعرض عليكم تفاصيل الكتابة بهذه الأجناس البينيّة الثلاثة بمقالات تالية.
ومن خلال متابعتنا لساحة الأدب السردي, لاحظنا بوادر لظهور تلك الأجناس من بعض الكتّاب, مثل الكاتبة السورية فيحاء نابلسي التي كتبت بالحوارية, وكذلك الكاتبة السورية إيمان السيد التي كتبت المقطوعة السردية بنصّها (على حافة الجمر), حيث مزجت بين الخاطرة والقصة القصيرة دون أن تدري, هذا المزج جعلني أتابع الموضوع وأعطي أمثلة للأدباء المبدعين لاستلهام تلك الأجناس البينية والكتابة فيها, لكونها أجناس معاصرة تأخذ على عاتقها القضية المجتمعية العربية بشكل معاصر.
الحدود الجنسية للمقطوعة السردية :
1- الاسم : ارتأيت أن يكون اسم هذا الجنس المقطوعة أو المقطوعة السردية, لكونه مقطوعة متماسكة سرديًّا من حيث تعشيق المفردات بشكل جمالي يبرز صورًا متلاحقة .
2- أُخذ هذا الجنس كفرع مستقل من القص القصير, باختلاف بنائي, حيث أنّه يجمع بين الخاطرة والقص القصير المكثف .
3- يختفي في هذا الجنس البناء الفني, ويكون اختفاؤه متعمَّدًا, حيث يذوب بشكل مُعشَّق بين جمل النص.
4- يمتاز هذا النص بتوالد متتالٍ للصور الجمالية والمعاني والأفكار بمجرى منسّق مدروس.
5- يمتاز هذا الجنس بارتفاع نسبي للبناء الجمالي, حيث يصل إلى نسبة %90
وأكثر بانزياح نحو الخيال والرمز.
6- يعتمد هذا الجنس على التعبير المفرداتي(الكلامي) والمقصد التجرّد أكثر من التعبيرعن طريق(الشخصيات), بل تفهم الشخصنة من خلال صراع
شفيف يظهره الجريان المنتظم الداخلي في ذهن الكاتب Stream of consciousness. أو المسلك الحواري الظاهري(Dialogue)….
7- يعتمد هذا الجنس على مطلع مقالي ينضوي تحت نظرية الفن للفن ( الأدب للأدب), أي تقوم المفردات بواجب الصراع المفترض فوق ديباجة النص بشكل مخبوء وظاهر شفيف, وتُحسب كأنها صراع درامي بين شخصيات, هذه الشخصيات غير موجودة في الحقيقة وإنما تتجلّى بتلميحات سردية ( فانتازيا) وغرائبية.
8- يميل بشكل عميق وليس إخباري نحو الخاطرة, وبنهاية قص, يستطيع الكاتب أن يخلق لوحة أو مقطوعة موسيقية بالكلمات, وينهيها بضربة فرشاة, أو بضربة نغم معزوف أو مرسوم بالكلمات، فهذا النوع هو خير مثال يبرز روعة الأدب كأحد الفنون، يظهر تجنيسه بشكل واضح في خارطته الجنسية التالية :
وسأدرج عليها أمثلة, أوّلها عن المقطوعة السردية, في هذه الحلقة الأولى, وستعقب هذه الحلقة حلقات:
سيدة الزمن
(مقطوعة سردية)
بقلم :عبد الرزاق عوده الغالبي
عيناها خضراوان يعلوهما حاجبان شعرهما بواسق وقصب، رموشها رماح من ذهب، سومرية الصياغة، سبكها أورنمو بحكمته السومرية ولمّعهما نبوخذ نصر ببراعة البابلية, وألبسهما إيّاها آشور بطلعته الآشورية البهية، تعلو جبهتها العريضة البيضاء، جوهرة التاريخ وعبق الرسالات ، يتدلّى شعرها الأسود بضفيرتين, ينبري منهما سلسبيل ناعم ينعكس على عشب رطّبته قطرات الندى وحبيبات المن, وترصّع سماءها طيور السلوى حين ترفرف بأجنحتها الأنيقة ، تتجاسر ثلاث خصلات ناعمة، تتحدّى الريح وتتراقص في نسائم الصباح, كأنّها خيول برية أجفلها منظر صياد حين تتمايل ضفيرتيها و خصلات الشعر من بعيد, وكأنها أفاعٍ هندية قد انتصبت وتمايلت لصوت مزمار…وتحكي سبع آلاف من السنين…..
سكن رحمها أنبياء ورسل، وغسل شرايينها طوفان نوح، فشهدت كلّ الأسرار، لامست هامتها رياح الزمن وأمطاره، لم تبخل بعطائها حدّ الأرواح، زفّت أبناءها إلى المنون بزغاريد البواسق، ولم يندَ فيها جفن أو تصدر من صدرها حسرة، لم تلبس يومًا ذلًّا ولا رثاء، تمدّ ذراعيها لتحتضن التاريخ و الهور، و ينزلق القصب والبردي من تحت قدميها ليتباهى بخضرته العذرية وهو يتمايل مع نسائم الهور ورائحة (الشنبلان)، وبين أصابعها الوردية يلمع مرأى السمك المسكوف حين تنداح دوائر الماء التي يحركها (الخضيري) و (سباح الهور) الأنيق، وهو يتهادى برأسه الأخضر فيدخله في الماء مرّة ويخرجه مرّة أخرى، ويجفل بحركة (المردي)، من بين أظافرها المطلية بعبق الرطب (الخضراوي) و(الشويثي)، الذي لا تزال حلاوته توقظ في نفسي العشق المعتّق وشياطين الشهية لخبز أميّ وتنورها (المشجور) دومًا في غرّة النهار و انحسار الضوء, حين تعود أسراب الجاموس، و تهبّ رائحة البردي و(الخريط) والرقي المعدّ لوجبة العشاء في باحة دار الدنيا، بثوب عرسها الأبيض حين تزفها زغاريد الأحبة والأقارب، والجيران لتدخل مهد التواصل الوردي، لتسلّم الرايات جيلًا بعد آخر…..
وتنحني سيدة النساء والتاريخ بجمالها الأسطوري المهيب على أبهرها (الغراف) بسلسبيله الإلهي، وهو ينساب منحدرًا نحو العشق العذري، ويلوح بذراعه الطويل بناتها وأبناءها ويتلفت يمينًا وشمالًا ، ليطبع قبلة على جبين الحي وأخرى على جبين الرفاعي, ويقبّل عرى الأمل وعذريّة الكرم والبساطة والدأب المؤجّج في الزنود السمر، حين تنبعث رائحة العرق من الأجساد النحيلة، على شواطئ الخير وهم يجرّون شباك الصيد المحمّلة بطيف السمك تحت ترنيمة سرمدية تعيد إلى الذهن ترانيم الآلهة السومرية, وربّما تودّعك تحت سحر ترنيمة القرون الوسطى( هيلا هوب ….هيلا….هيلا….هيلا هوب) . ينتظر هناك صبية يلتقطون ما تخلّف من سمك صغير، في غمار الصيد الوافر ليعودوا به إلى سيّدات الجنان المنكبّة على شواطئ الخير لجمع الغلّة الخضراء…..
أنظر إليها وهي تمسح بيدها اليمنى على رأس الدهر المخدر بالنعاس، وفوق ركبتيها تمدّد الوطن وهي تربت عند رأسه بهدوء، لينام في كنفها وأمواج حنانها الباردة المتلاطمة في أحضانها، حين يغطيه الدفء من قمّة رأسه الى أخمص قدميه، ليمتزج البرد بالدفء، مع عبق رائحتها الزكية, ليحلم بعرسه في شرايينها المستقيمة المزدحمة بالحركة الدائمة لكرياته النشطة، والتي تبني وتهدم وتموت وتحيا وتلد من جديد، تلد الحركة لتجعله يبتسم في حضن سيدة النساء الدافئ ، فيستيقظ مدلّلها مرعوبًا على صوت الشر المدويّ، وتهتزّ أعضاء سيدة النساء وترتجف أطرافها، وتمتزج حركتها المرعوبة بحركة أبنائها, ويسيل الدم من جسدها الجميل، حين ينشر الكدر عباءته السوداء ليختفي النور وتنحسر البهجة، وتكشّر الذئاب عن الأنياب وتختفي مظاهر الفرح والسعادة, وتحلّ مظاهر الحزن والألم، وينتشر الغضب, وتحني سيدة الزمن رأسها وتمسك عن الكلام ، ويغطّي الصمت والظلام كل شيء……
مفردات سومرية:
الشنبلان = نبات ينمو على سطح ميه الهور الراكد
الخضيري = طير حر برأس أخضر مهاجر يعيش في الأهوار
سباح الهور = طير يعيش في الأهوار
الخضراوي = نوع من أنواع التمر العراقي
الشويثي = نوع من أجود التمور العراقية
المشجور = الجاهز للخبز
الخريط = حلويات صفراء اللون تصنع من بذور القصب
الغراف = رافد من روافد دجلة ينبع من سد الكوت ويغذّي المناطق حدّ الناصرية
ننتظر أن يكتب بهذا الجنس الفاخر- والذي هو بلا شكّ يُكتَب للنخبة – من يمتلك القدرات الأسلوبية التي يستطيع بها أن يحقق انزياحات أسلوبية خيالية أو رمزية لا تقل عن 80%.
فمن يدخل التحدّي؟!