تسالم الفقه القانوني على أن الدستور يحتل الصدارة في النظام القانوني للدولة، ويتمتع بالسمو على باقي التشريعات. ويترتب على ذلك أن أي تشريع يتعارض مع هذا الدستور يكون معيبًا بعدم الدستورية.
وبالنظر إلى الأوضاع الدستورية في عدد من النظم الدستورية، نجد أنها أخذت بمنهجين: الأول يتجسد في صياغة وثيقة الدستور على نحو يتضمن مقدمة أو ديباجة تتصدر أحكامها وتمهد لها، كما تحتوي على قواعد تجسد صلب ومتن الدستور. أما الثاني، فيتجسد في وثيقة الدستور التي لا تتضمن التمهيد لأحكامها، حيث لا تحتوي وثيقة الدستور على مقدمة أو ديباجة. لكن الأصل هو أن تحتوي الدساتير على ديباجة، والاستثناء هو خلوها منها(1).
ويمكن تحديد مقدمة الدستور من الناحية الشكلية، حيث تحمل عادةً عنواناً مثل “مقدمة”، أو أي عنوان بديل أو مساوٍ له مثل “توطئة” أو “ديباجة”. كما يمكن أن تظهر هذه المقدمة في بعض الحالات الأخرى دون أي عنوان. ومن مزايا هذا التصنيف الشكلي أنه يقدم تحديداً فنياً مبسطاً للمقدمة. ولكن يمكن أيضاً تحديد المقدمة على أساس مضمونها أو موضوعها. فمن الناحية الموضوعية، لا تتطلب المقدمة أن توضع في مكان محدد في الدستور، ولكنها تتطلب بالدرجة الأولى مضموناً محدداً، حيث تعكس المقدمة في الحقيقة التاريخ الكامن وراء إصدار هذا الدستور، وكذلك المبادئ والقيم الجوهرية للأمة. كما يلاحظ أن الدول التي لا تضم دساتيرها مقدمات شكلية، تتضمن دساتيرها في الغالب مواد تقديمية يمكن النظر إليها من الناحية الموضوعية على أنها بمثابة مقدمة. ويبدو واضحاً أن المقدمة تشكل مصطلحاً دستورياً شائعاً في أغلب الدساتير المعاصرة(2).
وقد أخذ دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) بالتقسيم السائد، حيث وضع مقدمة محددة له أطلق عليها “الديباجة”.
وتحتل مقدمة الدستور صدره وبدايته قبل سرد مواده المختلفة، وقد تتضمن مقدمة الدستور مبادئ مهمة يمكن أن تُنظّم بعضها في فقرات، بينما يسرد الآخر على نحو علمي وفلسفي(3).
وتتضمن هذه المقدمات، كما أشرنا، منابع الدستور والمبادئ الجوهرية التي يقوم عليها، أي أنها ترسم الخطوط العريضة التي يبتغيها الدستور بوصفه منهجًا لسياسة الدولة(4).
وتختلف مقدمات الدساتير عن إعلانات الحقوق في أنها ليست منفصلة عن الدستور، بل إنها جزء متصل به، وقد مرت بنفس المراحل التي مر بها وضع الدستور وإقراره(5).
لذلك، تعد مقدمة الدستور المدخل الطبيعي للدستور، وتتضمن مجموعة من المبادئ والأسس والقيم والمثل العليا والتوجيهات الدستورية. وبذلك، تعد مصدراً إيضاحياً وتفسيراً لنصوص الدستور ذاته، وهذا ما يؤكد أن النصوص التي تحتويها الوثيقة الدستورية ذات قيمة متساوية، وتتمتع على قدم المساواة. فلا فرق بين المواد الأولى والديباجة والأحكام الانتقالية والختامية الواردة فيها(6).
لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو: هل يترتب على مخالفة مقدمات الدساتير مخالفة دستورية؟ أي هل يمكن أن يكون لها أثر من حيث الحكم بعدم الدستورية؟ وإزاء ذلك، ظهرت عدة اتجاهات نستعرض بعضها:
الاتجاه الأول: يرى أن النصوص الدستورية طالما نظمت الحقوق والحريات في صلبها، فلا يوجد أثر قانوني لمقدمة الدستور التي يسمو عليها الطابع النظري، بوصفها الانعكاس السياسي لا القانوني. كما أن مقدمات هذه الدساتير تنطوي على أسلوب إنشائي، مما يتعذر معه الاستناد إليها لاستخلاص التزام محدد. وعليه، فإن الهدف المتوخى من الديباجة قد حققته النصوص الدستورية بصورة أوضح، فالعبرة بالنصوص الدستورية طالما أنها لم تغفل ترجمة المبادئ المتضمنة في المقدمة(7).
الاتجاه الثاني: يصنّف ما ورد في مقدمات الدساتير إلى قسمين: الأول يتمتع بالصفة الإلزامية، والآخر مجرد مبادئ توجيهية، وهما على النحو التالي:
أحكام وضعية: وهي نصوص وردت في هذه الوثيقة وتتميز بالتحديد والقابلية للتطبيق، وترتب مراكز قانونية يستطيع الأفراد الاحتجاج بها قبل سلطات الدولة بحيث إذا صدر عن السلطة التشريعية قوانين تخالف هذه المبادئ القانونية المحددة او تتعارض معها، فإنها تكون قوانين غير دستورية، وذلك يكون بعدم صدور حكم من القضاء الدستوري بذلك، فمثل هذه المبادئ الواردة في مقدمة الدستور تحتل نفس القيمة القانونية للدستور ذاته(8)، والسبب في ذلك أن قوة الدستور العليا لا تبدأ فقط بمواده الأصلية الواردة فيه، بل تبدأ بما يحتويه الدستور بأكمله من مواد وأحكام محددة سواء ورد ذلك في بعض مواد الدستور أو في مقدمته التي تعد جزءاً لا يمكن فصله عنه، ولذا يتعين تطبيق هذه الأحكام الوضعية فوراً شأنها في ذلك شأن باقي مواد الدستور ما دامت نصوص قانونية محددة ملزمة بذاتها قابلة للتطبيق الفوري، ويكون لها قوة دستورية عليا تعادل قوة باقي مواد الدستور(9).
قواعد توجيهية: تمثل أهدافاً يعمل النظام السياسي على تحققها، وهي أن كانت لا ترتب مراكز قانونية يستطيع الأفراد الاحتجاج بها إزاء الدولة، إلا أن السلطات العامة تلتزم بالعمل على تحقيقها وإن كانت تتمتع في ذلك بسلطة تقديرية واسعة(10، فيما ذهب رأي ضمن هذا الاتجاه أن هذه القواعد التوجيهية وأن لم تكن ملزمة يمكن الاحتجاج بها في مواجهة السلطات العامة، ومن ثم تتجرد من صفة الإلزام الفوري الحال، لكنها تنتظر من المشرع تدخله كي يضع مبادئها موضع التطبيق والالزام فيما يصدره من تشريعات عند قيامه بذلك، فإذا ما أصدر المشرع تشريعاً يخالف هذه القواعد عد هذا التشريع غير دستوري(11).
الاتجاه الثالث: يذهب أن مرتبة مقدمات الدساتير تعادل مرتبة الوثيقة التي وردت في بدايتها، ومن غير المتصور تقسيم ما ورد في وثيقة الدستور من قواعد إلى نوعين أحدهما يأخذ مرتبة أعلى من الآخر، ويترتب على ذلك أن المشرع العادي لا يستطيع أن يخالف ما ورد في مقدمة الدستور من نصوص وأحكام ومبادئ، فإن خالفها أو تجاوزها شاب عمله عيب مخالفة الدستور، وخضع لرقابة القضاء الدستوري المختصة بغية الحفاظ على مبادئ الدستور وصون أحكامه من الخروج عليها(12).
وقد ذهبت بعض الدساتير إلى النص صراحة على أن ديباجتها هي جزء لا يتجزأ منها، والمثال على ذلك المادة (227) من دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014 التي نصت على الآتي “يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة”،.
وبهذا المآل قد ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر، حيث جاء في قرار لها ما نصه، أن “قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن ما قررته ديباجة دستور جمهورية مصر العربية تعتبر مدخلاً إليه، وتكوّن مع الأحكام التي ينتظمها كلاً غير منقسم، ذلك أن الديباجة – التي تسميها بعض الدساتير العربية “بالتوطئة”، دلالة على اتصالها بالدستور واندماجها في أحكامه – يعبران معاً عن الإرادة الشعبية ونتاجها في مجتمعاتها، لتؤكد به الدولة القانونية عزمها على أن تصوغ بمختلف سلطاتها، تصرفاتها وأعمالها وفق أحكامه، باعتباره القاعدة الأسمى لنظام الحكم فيها، وعمادًا للحياة الدستورية بكل أقطارها”(13).
والظاهر من متابعة حيثيات هذا القرار أن المحكمة الدستورية العليا في مصر قد قبلت نعي المدعي على النص الطعين بأنه يعارض ديباجة الدستور إضافة إلى عدد من نصوصه.
أما بشأن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، فعلى الرغم من عدم وجود نص صريح يلزم المحكمة الاتحادية العليا بمراعاة مقدمته عن إصدار الأحكام، إلا أن اتجاه يرى أن هذه المقدمة تعد جزءاً لا يتجزأ من الدستور، ومن ثم تتمتع بقوة دستورية تماثل قوة نصوص الدستور نفسه، بوصفها مرشداً لإصدار الحكم الدستوري من خلال اسهامها في الوقوف على الأهداف العامة والمبادئ والأيدولوجيات المهيمنة على إصدار الدستور(14).
وبالنظر إلى اتجاهات المحكمة الاتحادية العليا أسّست البعض من أحكامها في رد الطعون على دستورية القوانين بناء على ما ورد في الديباجة.
وعلى سبيل المثال، عندما نظرت طعناً بالمادة (5) من القانون رقم (25) لسنة 2021 (قانون التعديل الأول لقانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005)، ونصها “يحفظ في تكوين المحكمة التوازن الدستوري بين مكونات الشعب العراقي”، ذكرت في قرارها أن “النص لا يتعارض مع أحكام الدستور إذ جاء في ديباجة دستور جمهورية العراق لعام 2005 ما نصه (ومستنطقين عذابات القمع القومي في مجازرِ حلبجةَ وبرزانَ والانفال والكورد الفيليين، ومسترجعين مآسي التركمان في بشير، ومعاناة اهالي المنطقة الغربية كبقية مناطق العراق من تصفية قياداتها ورموزها وشيوخها وتشريد كفاءاتها وتجفيف منابعها الفكرية والثقافية، فسعينا يداً بيد، وكتفاً بكتف، لنصنع عراقنا الجديد، عراق المستقبل، من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية ولا عقدة مناطقية ولاتمييز، ولا إقصاء) لذلك فإن النص المطعون فيه المذكور آنفاً هو ترجمة للديباجة المذكورة والتوزان الدستوري ينطوي عن مفهوم وحدة الشعب العراقي باعتبار أن الدستور ضامن وحدة العراق”(15).
وبناء على ما تقدم من آراء يمكن القول، إن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) هو كتلة واحدة، وجميع ما ينطوي عليه يتمتع بالصفة الدستورية، سواء ديباجته أو مبادئه الأساسية أو ما ورد في أبواب الحقوق والحريات والسلطات الاتحادية واختصاصاتها وسلطات الاقاليم والأحكام الانتقالية والختامية، طالما أن جميعها قد عرض على الاستفتاء وحازت موافقة المصوتين وفقاً للآليات المرسومة.
ونجد إمكانية الحكم بعدم دستورية نص طعين ورد في قانون أو نظام داخلي على أساس مخالفة ديباجة دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، خصوصاً إذا كانت الجزئية الواردة في الديباجة تفرض التزاماً إيجابياً أو سلبياً على المخاطبين.
باحث دكتوراه في القانون العام
……………………………………………..
الهوامش
1- نعيمة السامري، ديباجة الدستور بين القيمة القانونية والتطبيقات القضائية، مجلة المعرفة، المغرب، العدد: السادس، 2023، ص33.
2- د. وليد محمد الشناوي، دور مقدمات الدساتير في التفسير الدستوري، طـ 1، دار الفكر والقانون للنشر والتوزيع، مصر، 2014، ص9- 11.
3- د. محسن خليل، النظام الدستوري لدولة الامارات، منشورات جامعة الامارات العربية المتحدة، دولة الامارات العربية المتحدة، ص1989، ص33.
4- د. خليل حميد عبد المجيد، القانون الدستوري، العاتك لصناعة الكتب، العراق، 2018، ص127.
5- د. رمزي طه الشاعر، النظرية العامة للقانون الدستوري، الطبعة السادسة، دار النهضة العربية، مصر، 2020، ص277.
6- د. عبد العزيز سعد ربيع، القيمة القانونية لمقدمات الدساتير، بحث مستل منشور كلية الشريعة والقانون بجامعة طنطا، الإصدار الثالث، العدد الثامن والثلاثين، 2023، ص255.
7- د. رفعت عيد سيد، النظرية العامة للقانون الدستوري، الكتاب الأول، من دون دار نشر، ص51- 58.
8- د. رمزي طه الشاعر، مصدر سابق،، ص285- 286.
9- د. محسن خليل، مصدر سابق، ص34.
10- د. رمزي طه الشاعر، مصدر سابق،، ص 286.
11- د. محسن خليل، مصدر سابق،، ص34.
12- د. حسن مصطفى البحري، القانون الدستوري المقارن، الطبعة الأولى، منشورات الجامعة الشام الخاصة، سوريا، 2021، ص199.
13- قرار المحكمة الدستورية العليا المصرية رقم (1) لسنة (41) قضائية (دستورية) الصادر في (17/ 12/ 2022).
14- د. مصدق عادل طالب، الصياغة الدستورية، دار السنهوري، ، لبنان، 2017، ص162- 163.
15- قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (21) لسنة 2022 الصادر في (26/ 6/ 2022).