كنت منذ الثمانينات من المتابعين لمجلة (المجلة) الإسبوعية الأنيقة والمثيرة للانتباه ، والتي غزت سوق الصحافة أنذاك، وكانت تصدر من لندن لحساب المملكة العربية السعودية، ويديرها صحفيون لبنانيون على درجة عالية من الحرفية والمهنية، وتحظى بإهتمام عربي ودولي واسع منقطع النظير!!
وفي منتصف الثمانينات ، لفت انتباهي مانشيت بارز ، تصدر غلاف مجلة ” المجلة ” ، وبحرف بارز موضوع في غاية العرض والتشويق وبصفحات مثيرة للانتياه ، وكان المانشيت : ” الأتراك قادمون ” ..!!
وبصراحة ، لم يدر في خلدي أنذاك ، يوم كانت الحرب العراقية الإيرانية تلفت انتباه المجتمع الدولي، وهي مركز إهتمامه ، أن أخوض في غمار مضامين وأهداف ذلك العنوان المثير، الذي دخل على القاريء ، بطريقة (الصعقة الصحفية) إن صح التعبير ، إذ لم نر مطامع من الأتراك في ذلك الزمان بعد إن أفلت إمبراطويتهم ، منذ أكثر من قرنين من الزمان ، بعد ان كانت قد أرست دعائم أكبر امبراطورية في المنطقة ، إمتدت ربما الى ستة قرون، وما إن تصدرت العالم بريطانيا وفرنسا وايطاليا والبرتغال والولايات المتحدة فيما بعد ، وحدثت الحربين العالمية والثانية، حتى تم تطويق الإمبراطورية العثمانية وتحولت الى دولتي الخروف الابيض والأسود، ومن ثم تلاشى تأثيرها، لصالح امبراطوريات الغرب الاستعماري!!
وفي منتصف السبعينات وبداية الثمانينات، كانت تركيا تعاني من انهيار اقتصادي كبير ، ووصلت عملتها الليرة التركية الى أعلى مستويات التدهور والإنهيار، حتى ان أغلب قادتها راحوا يبحثون عن علاقات ومصالح تنقذ بلادهم من المحنة القاسية التي كانت تركيا ترزح تحت أعبائها، وقبل البعض منهم ان يأخذ أموالا طائلة من العراق ومن دول المنطقة، لمجرد تكريس سلطته، في محاولة لايجاد (مخرج) لبلدهم من أزمتها الخانقة!!
لكن اللافت للنظر انه ما ان تولى عبد الله غول ورجب طيب اردوغان ومن قبله بولند أجاويد زعامة أحزاب اسلامية ، ومن ثم تولي زمام السلطة فيها، حتى راحت معالم تقدم ونهوض لم تشهدها تركيا طيلة عقود!!
هذا التقدم المتسارع في الاقتصاد التركي ، وبناء علاقات واسعة مع مختلف دول العالم واقامة قاعدة انجرليك التركية وتأجيرها لصالح الولايات المتحدة وحلف الأطلسي ، هو من أعاد الدور لتركيا لإحياء بعض معالم إمبراطوريتها التي غابت عنها الشمس، وما زالت تحلم بانها ستعود اليها في يوما ما!!
ومنذ بضع عقود تأزمت العلاقات التركية السعودية، بعد ان لاحظت المملكة العربية السعودية أن هناك خطرا يداهم المنطقة، في محاولة لابتلاع دولها ، تحت تأثير الامتدات الدينية التركية، وبخاصة في دول الخليج ، ووجدت السعودية في مثل هذا التحرك أنه محاولة لاحياء معالم امبرطورية يحلم بها اردوغان، ليكون المنافس القوي للسعودية ولمكانتها في المنطقة والعالم الاسلامي!!
الان ، تكشفت حقائق كثيرة لم تكن معروفة من قبل عن الاحلام التركية، فوجود تركيا المؤثر في قطر وتدخلها في سوريا وبعدها في ليبيا ، أظهر للكثيرين أن تركيا قادمة فعلا ، وهي تسعى لإحياء معالم تلك الامبراطورية، حتى ان العراق ومدينة الموصل كانت حاضرة في أذهان الاتراك ،على أانها كانت تابعة لهم وهم من يديرون شؤونها قبل الاحتلال البريطاني ، وتم انتزاعها منهم من قبل البريطانيين واعادتها الى العراق، كونها مدينة عراقية أصلا ، لكن تركيا لم تعترف بالموصل كليا، ووجدت انها انتزعت رغما عنها، بالرغم من ان البريطانيين عرضوا خسارة تركيا بأن أهدتهم الاسكندرونة السورية، وهو أكبر ميناء مطل على البحر المتوسط وعلى مقربة من البحر الأسود!!
أجل.. الأتراك قادمون..مثلما قدم الايرانيون الى العراق لاحياء معالم إمبراطوريتهم التي كان العراق أحد دعائمها قبل الاسلام، لكن الخليفة عمر بن الخطاب تمكن من اعادته كليا الى الدولة العربية الاسلامية، وتدهور عرش كسرى وتزعزعت اركانه، بعد دخول بلاد فارس الاسلام رغما عنهم، وليس رغبة في دخول الاسلام!!
وما يجري من تحركات تركية في الاراضي العراقية وبخاصة في الموصل ومناطق من كردستان وتدخلهم الواسع في سوريا ، ومحاولة سيطرتهم على أغلب محافظات سوريا الشمالية ومنها حمص وحماه وادلب وكردستان سوريا ومن ثم ليبيا واقامتهم علاقات واسعة من السراح لدعمه بالمقاتلين السوريين ، شاهد على ما نقول!!
وما نريد أن نصل اليه في خاتمة مقالنا هو ان سعي كل من ايران وتركيا للـ (الهيمنة) مجددا على مقدرات المنطقة، وبالتعاون مع توجهات أمريكية بريطانية غربية روسية ، أعطتهم بعض الضوء الاخضر منذ سنوات، وبخاصة لإيران، وتوسعها في العراق وتحكمها بمقدرات شعبه ، وسعي اردوغان كذلك ، لان تكون لقواته في سوريا دور الحاكم الفعلي، وهو من يحكم قبضته على مقدراتها ، وهو يؤكد ماذهبت اليه مجلة ” المجلة ” السعودية منتصف الثمانينات ، من ان الأتراك قادمون..!!